لم يرد المطرب اللبناني الكبير وديع الصافي ان يعود الى مدرجات قلعة بعلبك ألا قروياً، زياً وغناءً، كما عهدته قبل عقود خلت. لكن ما تغيّر في تلك الاطلالة التي لم يرها حية جمهور مهرجانات بعلبك الدولية منذ زمن طويل وتعرف اليها جمهور جديد كان رآها عرضاً على شاشة التلفزة، هو أن لابس السروال والعمامة البيضاء كان شاباً ينبض عنفواناً وترتج من قوة صوته أعمدة القلعة وحجارتها. لكنه في الاطلالة الاخيرة تسللت السنون اليه فزادته عمراً يكاد ينال من كل شيء فيه الا من صوته الذي بقي قوياً لولا وهن صغير اصابه في بعض الغناء "جواباً" عرف كيف يتحاشاه أو يتخطاه ببراعة. والسهرة التي اطل فيها الصافي كانت من الحفلات الاخيرة للمهرجان هذا العام، اذ قدم مع فرقة فهد العبدالله للفنون الشعبية عملاً سماه العبدالله "تراث وحنين" في مشاركة الفنان رفيق علي احمد وسهام الصافي زوجة نجل المطرب وديع الصافي اضافة الى عشرات الراقصين والراقصات. والعمل الذي قدم مشتركاً بين الصافي وفرقة العبدالله، كان أهم ما فيه الصافي نفسه اذ بدا أكبر من أعمدة المدينة التاريخية، وعرف كيف يناجي اذواق الجمهور بأغنياته، الحديثة والقديمة، ويلهب نزعته الوطنية بغنائه لبنان ومدنه. وبعدما ترجل فارس رفيق علي احمد عن جواد سمع صهيله وراح ينزل ذاك المدرج في معبد جوبيتير، مطلقاً كلمات "المجد والعظمة" لبعلبك، راح الراقصون يملأون المكان بأزيائهم وطبولهم. ثم يدخل الصافي بلباسه التراثي ماسكاً يد سهام ويقف قرب افراد الكورس الذين لبسوا بدورهم ثياباً تشبه ثياب الراقصين. وافتتح بأغنية "يا بعلبك" وهي جديدة. ثم جلس على كنبة وضعت على المسرح ليصبح مشاهداً من الطرف الثاني للوصلة الثانية للراقصين. وكان اثناء المشاهدة يهمس في اذن سهام ويدردش ويصفق. وبينما قدّمت رقصات كثيرة مثلت تراث المدن اللبنانية كافة وصولاً الى الدراويش والصوفية بأزياء مختلفة في ظل الضوء الذي كان ينقل المسرح من مناخ الى آخر ويسبقه دخول رفيق علي احمد موصلاً الفقرات بين لوحات الرقص وغناء الصافي وهو مهد لأغنية أدتها سهام تحية لبيروت وهي بعنوان "انا بيروت عروس العرب". اما في بقية الاغاني "جايين يا أهل الجبل" و"يا بيت صامد بالجنوب" و"لبنان يا قطعة سما" وسواها فنجحت سهام في ان تكون مساعداً للصافي ومقلبة صفحات النوتة امامه، ومغنية مع الكورس. اما حين اراد الصافي ان يجعلها تقف في محاذاته مغنية "الله معك يا زنبقة في الفي" كما كان يغني قديماً مع صباح، فلم توفق كثيراً. لا صوتها مؤهل ليؤدي "ابو الزلف" ولا عربه قادرة على الانطلاق في المواويل الطويلة التي كانت تؤديها صباح في شبابها حين كانت تشارك الصافي الغناء على ادراج القلعة نفسها كديو في حوارات غنائية تظهر الصراع بين طامحة الى النزول الى المدينة ومحب لحياة القرية ومدافع عنها. ولم تنجح، أو لم ينجحا الصافي وسهام في اختيار تلك الحوارات المغناة منذ عقود ويحفظها الجمهور جيداً لأن قوة صوت الصافي تجعله في مكانة لا يمكن صوتاً ان يجاريه فيها لا في قراره ولا في جوابه. وبدت سهام على جمال صوتها وعذوبته، ضعيفة جداً في محاذاة الصافي وغير قادرة على محاورته اضافة الى رهبة الوقوف على مدرجات بعلبك للمرة الاولى. وكان الصافي اثناء غنائهما منشغلاً في انجاح اطلالتها اذ كان ما ان يؤدي جملته حتى ينظر الى قائد الفرقة الموسيقية مومئاً له ليخفف عازفوه طبقة الموسيقى ليتسنى لسهام ان تظهر قدرتها في الغناء. الحفلة كانت حفلة وديع الصافي بامتياز على رغم جمال اللوحات التي قدمتها فرقة فهد العبدالله اتقاناً وبهرجة الوان وملابس، واطلالة رفيق على احمد المحببة رقصاً وتمثيلاً. فالفرقة قدمت رقصات تمثل تراث المحافظاتاللبنانية جميعاً ولكل رقصة موسيقى خاصة بها واضاءة وملابس وادوات مثل البنادق والكراسي والطرابيش والطراطير وغيرها، اما لوحة الختام فكانت من كل الرقصات اذ انقسم الرقصون فرقاً ظهرت كل واحدة بلباس رقصة وطبعاً على غناء وديع الصافي من شعر عبدالغني طليس "يا بعلبك كان وكان". وبدت هذه الاغنية جميلة شعراً ولحناً وغناء. اما موسيقى الرقصات فكانت ألحانها موزعة على ابناء المحافظات اذ وضع الحان لوحة "البحر" البيروتية أحمد قعبور، في حين وضع ألحان رقصات الجنوب والشمال والجبل والبقاع زياد الرحباني وايلي شويري وسمير كويفاتي ورفيق حبيقة. `.