قد لا يبدو ممكناً أن تجتمع اسماء معروفة ومكرسة في الغناء العربي المعاصر، مثلما أمكن مهرجان جرش 2000 أن يفعله في "مسرحه الجنوبي" عبر حفلات متصلة للمطربين والمطربات 26/7 - 11/8/2000: كاظم الساهر، ايهاب توفيق، أصالة نصري، نبيل شعيل، سميرة سعيد وإلهام المدفعي. ولا يبدو بعيداً عن هذا الحشد الغنائي، عرض المسرحية الغنائية المصرية "رصاصة في القلب" في أداء من علي الحجار وأنغام وبحسب معالجة لنص توفيق الحكيم. كاظم الساهر الذي كان التقى جمهور جرش في مناسبتين الأولى في العام 1995 والثانية في العام 1998، يلتقيه الليلة وقد سبقته الى المكان علامات نجاح وطدتها سيرة غنائية لافتة، غير ان ذلك لا يمنع في منح حفلاته الحية طعماً مميزاً، بدءاً من الأوركسترا الضخمة التي تهتم في اعلاء الجانب الموسيقي الغني في اغنياته، وصولاً الى التقاطه لنبض الجمهور وحسن ادارته لانفعالات يعرف كيف يضبطها، ويجعلها تنتقل من الانسجام مع الايقاع الراقص الى الانشاد المتناغم مع مقاطع من أغنيات تعبيرية مثل "أنا وليلى". إيهاب توفيق الذي بهت حضوره بعد أغنية "عدى الليل"، استعاد شيئاً من نجاح جماهيري على حساب حضور فني في اسطوانته التي أصدرها العام الماضي "سحراني"، وغناؤه في جرش لن يكون بعيداً عن اصداء هذا النجاح الذي داعب رغبات جمهور سائد لا يجد في الغناء الا دعوات للرقص. المفارقة ف يحال ايهاب توفيق، تأتي من كونه يقدم غناء متواضعاً وهو استاذ الموسيقى العربية في معهدها العتيد في القاهرة! أما المطربة أصالة نصري فتعود الى جرش لتلتقي جمهوراً أحبها في "يا مجنون" وقبلها "قلبي بيندهلك"، ولا ندري كيف ستدير أصالة علامات حضورها على المسرح، وهي المعروفة بجدية تبلغ حدود الصرامة في الأداء الذي لا يخلو من انفعال، يبدو متقاطعاً مع عروض غنائية يراها جمهور المهرجانات أقرب الى "الفرفشة". اغنية الكويت ستكون حاضرة بعد غياب لا تخفى دلالاته السياسية عن جرش والاردن عموماً، غياب امتد طوال عقد، واللافت في اشتراك نبيل شعيل الذي بدأ يوطد شهرته اعتماداً على صوغ لحني مصري! هو وجود في مناسبة واحدة تضم العراقيين كاظم الساهر والهام المدفعي فيما كان هذا الوجود سبباً في امتناع شعيل عن الحضور كما هو الحال في مهرجان "الحلم العربي" الذي شهدته بيروت قبل عامين. شعيل سيؤكد حضوره اعتماداً على نجاح "ما أروعك" و"مسك الختام" من دون أن ينسى التذكير ببعض ملامحه "الكويتية" التي ضعفت فيغني من قديمه الناجح: "سكة سفر"، "يا شمس" وقد تتوسط الجديد والقديم أغنية لافتة مثل "تسأليني من أكون". سميرة سعيد التي حافظت منذ ظهورها أواخر السبعينات على موازنة بين رصانة اللحن وخفة صوتها وحلاوته "انتفضت" أخيراً لتطيح بمسيرتها من أجل ألحان خفيفة راقصة كما في "ع البال" و"يا حبيبي عود"، ولن يكون ظهورها في جرش إلا في حدود اسطوانتيها الأخيرتين وقد تشعر في بعض الحنين لأغنياتها التي سبق ان شهدها المسرح الجنوبي في جرش مثل "مش حتنازل" و"شروق وغروب" وغيرهما. في لافتة الغناء "الجماهيري" سيكون هناك توقيع للعراقي الهام المدفعي وفرقته المعتمدة شكلاً في العرض الموسيقي يجمع بين موروث الغناء العراقي وروحية "الفلامنكو" عبر حضور قوي لأصابع المدفعي على الغيتار الاسباني. وكان لصيته الذائع عبر اسطوانة ناجحة في بلاد الشام "خطار" وعروض غنائية حية كان من بينها عرض في حفل الألفية الثالثة الذي شهدته بيروت، الأثر القوي في احتلال المدفعي موقعاً بين "نجوم" الغناء العربي المعاصر في جرش. وحين نقول "كل هذا الغناء" في جرش، مستحضرين دلالة اسم "كل هذا الجاز" الفيلم الغنائي - الموسيقي الشهير، فإن ذلك جاء لإيجاز صورة جرش هذا العام، فهي صورة "غنائية" بامتياز، حتى ان العرض المسرحي الأكبر الذي سيشهده "المسرح الجنوبي" الضخم، هو عرض "مسرحي غنائي" يؤدي بطولته صوتا علي الحجار وأنغام، وبالتالي فإنهما سيطبعان العرض بحضور غنائي يذكره الجمهور جيداً. فصاحب "في قلب الليل" الأغنية الجميلة بغناها التعبيري سيأتي الى جمهور جديد حاول الاقتراب منه مع أغنية ايقاعية مثل "ريشة" لكنها جاءت "ثقيلة" على الاسماع، مثلما سيأتي لصوت انغام التي تصاحب ظهورها باعتداد أقرب الى المبالغة، لكنها تظل تلويحة رقيقة في عالم غنائي خشن وإن كان انثوياً! ما يعادل "كل هذا الغناء" الجماهيري والمعاصر هناك في جرش غناء ورقص موروث من الأردن لا يبدو مأسوراً في ظهور زاعق، بل اداء حميم يحنو على الجوهر الروحي، كما في عرض "فرقة الفحيص لإحياء التراث" الأردنية، التي تحتاج على دأبها ثناء خاصاً، و"فرقة نادي الجيل الجديد للفولكلور الشركسي" التي تحرص على التعريف بموروث روحي للشركس بوصفهم أحد المكونات الاجتماعية الاردنية. ومن العراق ستتعكز "الفرقة القومية للفنون الشعبية" على أثر فني كانت رسخته في السبعينات والثمانينات قبل أن يبدو باهتاً في عروضها اللاحقة. ولن يضيع سدى جهد "فرقة اربد للموسيقى العربية" الاردنية حين ستقدم عرضاً خاصاً يحييه الملحن والمطرب الاردني توفيق النمري الذي صاغ ما يمكن اعتباره اغنية تتصل ببيئة الأردن وروحيتها. واضافة الى عروض فولكلورية من الاردن وفلسطين، ستكون هناك عروض اسبانية "فرقة رقص بالنسيا" وبولندا "فرقة سيلسياني للفولكلور"، من دون أن يكون هذا الحضور على حساب عروض موسيقية رصينة كما في "أوركسترا المعهد الوطني" الاردنية التي أصبحت واحدة من علامات الموسيقى الصرف في الاردن والوطن العربي، وفرقة "الاكاديمية الاردنية للموسيقى" و"أوركسترا سالزبورغ" النمسوية للنحاسيات، وفرقة "الباليه الحديث" التشيكية وفرقة "باليه دنبرو توفسك" الأوكرانية و"خماسي وست دوتش بلاسر فيلهارموني" الالمانية، علاوة على عروض موسيقية وغنائية اردنية وعربية وأجنبية خارج المسارح وتشهدها الساحة الرئيسية للمهرجان. وليس بعيداً عن عروض الغناء والموروث التعبيري الراقص، يأتي عرض مبتكر في كل مرة، هو عرض أزياء الفنانة هناء صادق، التي تصر على أن زياً بملامح عربية موروثة تصاحبه أجواء بصرية مشغولة باتقان على المسرح مع ما يناسبها من مؤثرات موسيقية، يمكن أن يتحول الى عرض فني مرهف "لا يخجل من أصوله القديمة". سعي مهرجان جرش، الى تقديم صلة بين "المعاصر" و"الموروث" في الغناء والموسيقى يظهره عرض الافتتاح الذي سيخفف من رتابة القراءات الشعرية عبر مقترحات موسيقية لا تخفي انتماءاتها الموروثة ولكنها تأتي وفق اشكال معاصرة يقدمها الموسيقي الاردني طارق الناصر.