لم يعد بمقدور النظام العربي أن يستمر في نهجه الحالي في ادارة الصراع العربي - الاسرائيلي. فهذا النهج لن يفضي الا الى أحد أمرين: قبول العرب بتسوية مجحفة ومرفوضة لأنها لن تحقق الحد الأدنى من الحقوق والمصالح العربية المشروعة، او انهيار "عملية السلام" برمتها والعودة الى نقطة الصفر في الصراع. وعواقب كلا الاحتمالين وخيمة: فالقبول بالشروط الاسرائيلية للتسوية قد يفتح الباب واسعاً امام اضطرابات شعبية واسعة ضد الانظمة القائمة باعتبارها مسؤولة وحدها عن الهزيمة. وانهيار عملية التسوية من دون توافر رؤية عربية لادارة اكثر رشداً للصراع في مرحلته اللاحقة، قد يفتح الباب واسعاً امام التشنج والانفعال وتبادل الاتهامات، وربما الاقدام على مبادرات او خطوات غير مدروسة وغير عقلانية. اي ان الصراع بات مرشحاً لكي ينتقل، في كلا الحالتين، الى الساحة العربية ويتحول من صراع عربي - اسرائيلي الى صراع عربي - عربي بين الشعوب والحكام او بين الحكام انفسهم، حين يحاول كل منهم تبرئة ساحته بإلقاء اللوم على الآخر والتنصل من مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع. ومع تقديرنا الخطوات التي تدل إلى ان ارادة الصمود العربية لم تنكسر نهائياً بعد، إلا أنها لا تكفي وحدها لضمان استمرار قوة الدفع لبناء استراتيجية جديدة اكثر وضوحاً وفاعلية لإدارة الصراع مع اسرائيل في المرحلة المقبلة. فمن البديهي ان بناء مثل هذه الاستراتيجية مستحيل من دون وفاق سوري - فلسطيني يبدو حتى الآن متعذراً وصعب المنال. ولانه لا توجد في عالم السياسة صداقة دائمة او عداوة دائمة وانما مصالح دائمة، فإن حديث المصالح يصبح هو أقصر الطرق وأفضلها لإقناع الطرفين المعنيين بالأهمية القصوى لتصفية خلافاتهما في هذه المرحلة بالذات. وفي تقديري ان الظروف اصبحت اكثر نضجاً الآن للتحرك في هذا الاتجاه، خصوصاً بعدما انكشفت نيات باراك وتكتيكاته التفاوضية وسقط بالتالي بعض الاوهام التي كانت تسببت في دفع كل من الطرفين السوري والفلسطيني إلى التنافس على صدارة جدول أعمال مفاوضات التسوية بعد وصول باراك الى السلطة وعودة النبض الى "العملية السلمية". ففي مرحلة ما بدت استراتيجية باراك التفاوضية كأنها تقوم على منح الاولوية للمسار السوري على حساب المسار الفلسطيني مما دفع القيادة الفلسطينية الى الاعتقاد بأنه يسعى الى تسوية تحصل سورية بمقتضاها على هضبة الجولان في مقابل نفض القيادة السورية يدها تماماً من القضية الفلسطينية وتبني مواقف مرنة ومعتدلة في المسائل الشائكة مثل القدس واللاجئين وغيرها. واعتبرت القيادة الفلسطينية ان مثل هذه الصفقة، إذا تحقق،، لا بد أن يلحق ضرراً جسيماً بالموقف التفاوضي الفلسطيني لأن السلطة ستترك في هذه الحالة عاجزة ووحيدة ومن دون أوراق ضغط تفاوضية تذكر أمام اسرائيل التي ستصبح حينئذ في وضع يمكنها من فرض شروطها كاملة في قضايا التسوية النهائية. اما القيادة السورية فكانت من ناحيتها مقتنعة تماماً بأن الطرف الفلسطيني الذي سبق أن "باع سورية في اوسلو" لن يتردد في بيعها ثانية عند اول منعطف. ولذلك فإن اخشى ما كانت تخشاه ولا تزال في الواقع، هو قبول السلطة الفلسطينية بصفقة تسوية منفردة تصفي بها القضية. فهذه الصفقة، اذا تمت قبل التوصل الى تسوية على المسار السوري، يمكن أن تضعف الموقف التفاوضي السوري الى حد ما، وتُرجح كفة الموقف الاسرائيلي لأن سورية ستبدو حينئذ معزولة تماماً ولن يكون لدى اسرائيل اي حافز حقيقي يدفعها إلى التعجيل او حتى التفكير في الانسحاب من الجولان. وفي سياق هذا الادراك وتلك الاجواء المفعمة بعدم الثقة المتبادلة، راحت سورية تطرق وحدها كل الابواب التي قد تفضي بها الى تحرير ارضها المحتلة مرسلة اشارات توحي بأنها باتت جاهزة للتوقيع إذا اوفت اسرائيل بشرط واحد هو العودة الى خطوط 4 حزيران يونيو، وبصرف النظر عما يحدث او قد يحدث على المسار الفلسطيني. بل ان سورية بدت في بعض اللحظات غير عابئة حتى بالاصوات المطالبة بعقد قمة عربية رغبة منها في ألا تصبح هذه القمة قيداً على حريتها في الحركة وفي القبول بأي تسوية يمكن ان تضمن لها الانسحاب من الجولان. وتصورت في لحظة ما، وربما كان لهذا التصور ما يبرره في الواقع، أن اسرائيل اصبحت لديها مصلحة مؤكدة في التوقيع معها اولاً حتى تتفرغ للارض الفلسطينية مطمعها الحقيقي وتصبح في وضع يمكنها من ان تملي كل شروطها بعد ذلك على السلطة الفلسطينية وتصفي القضية نهائياً. اما اسرائيل التي تعمدت من ناحيتها تفجير هذا السباق، فقد راحت تتلاعب بالمسارين وتضغط عليهما معاً وتجبرهما على كشف كل اوراقهما في مراحل مبكرة من عملية التفاوض، سعياً وراء تحقيق افضل الشروط لمصلحتها واقصى تنازلات سورية وفلسطينية ممكنة. ثم فاجأتهما معاً وقررت، في حركة بدت فيها كأنها تخرج لسانها للجميع، ان تنسحب من لبنان من دون اي تسوية مسبقة مع اي منهما، وانسحابها المنفرد من لبنان لا يعني سوى شيء واحد هو انها معنية بوقف نزف دم جنودها في الجنوب أكثر مما هي معنية بتحقيق تسوية قابلة للدوام في المنطقة. وهناك شواهد كثيرة على ان القيادتين السورية والفلسطينية لم تفقدا الامل بعد في احتمال التوصل الى تسوية قبل رحيل كلينتون من البيت الابيض، ومع عدم استبعادنا لهذا الاحتمال إلا ان فرصه تتضاءل مع كل يوم يمر وذلك للاسباب الآتية: - أولاً: ان رغبة كلينتون المؤكدة والعارمة في ان يتحول صانع سلام الشرق الاوسط قبل ان يترك البيت الابيض تصطدم بمواقف باراك المتشددة في عملية السلام من ناحية، وعدم استعداد المجتمع الاسرائيلي نفسه او نضجه لهذه العملية من ناحية اخرى. ولأن كلينتون لن يكون بمقدوره حتى لو اراد ان يمارس ضغوطاً تذكر على الطرف الاسرائيلي في تلك المرحلة، فمن الأرجح ان يتحول العامل الاميركي عامل ضغط على العرب وليس على اسرائيل. والاقرب الى الاحتمال هو ان ينجح باراك في استخدام العامل الاميركي ورقة للتسويف والحيلولة دون إعلان وفاة العملية السلمية قبل نهاية حكم كلينتون املاً بكسب المزيد من الوقت سواء لفرض الامر الواقع او انتظاراً لحكم القضاء والقدر. - ثانياً: ان اقصى ما يمكن سورية ان تصل اليه في ظل المعطيات الحالية، هو تسوية تقوم على الفصل بين قضية المياه وقضية السيادة على الارض، مع إحالة قضية الحدود في منطقة بحيرة طبرية على التحكيم، او الاتفاق على تحويل المنطقة الى مشروع استثماري مشترك. لكن مثل هذا الحل لن يضمن لها مصالحها على المدى الطويل، خصوصاً في ظل التغييرات المحلية المتوقع حدوثها على المدى المنظور. - ثالثاً: ان اقصى ما يمكن السلطة الفلسطينية ان تصل اليه في ظل المعطيات الحاضرة هو تسوية تقوم على اعتراف اسرائيل بالدولة الفلسطينية من حيث المبدأ مع تسليمها حوالي 70 في المئة من اراضي الضفة الغربية وترك الباب مفتوحاً في المستقبل امام إمكان الحصول على مزيد من الاراضي في حدود 10-20 في المئة اخرى وتأجيل قضية القدس واللاجئين ليصبحا مجالاً مفتوحاً للتفاوض الابدي من دون اية قيود زمنية. وهذا الحل لن يضمن بدوره المصالح الفلسطينية على المدى الطويل لأن مجرد القبول الفلسطيني به سيفتح باب التطبيع العربي امام اسرائيل ثم تتآكل الضغوط عليها لضمان الوفاء بما تعهدت. في هذا السياق يبدو أن استمرار ازمة الثقة بين الجانبين السوري والفلسطيني يمكن أن يشكل عاملاً ضاغطاً قد يؤدي الى التعجل في القبول بعروض قد تكون لها نتائج مأسوية تضر بمجمل المصالح العربية وبمستقبل المنطقة كلها. ومن هنا يتعين ان تصبح استعادة الثقة بين القيادتين السورية والفلسطينية هدفاً استراتيجياً عربياً في المرحلة المقبلة. فقد اثبتت التجربة العملية في الواقع ان حرب المسارات بين الاطراف العربية تضعف الموقف التفاوضي لكل طرف، ناهيك عن الموقف التفاوضي العربي كله. ولو أن سورية كانت استطاعت ان تحصل خلال الاسابيع السابقة على رحيل الرئيس حافظ الاسد على تسوية منفردة تضمن عودة اسرائيل الى خطوط 4 حزيران لما جرؤ احد على ان يلومها على ذلك. إن الخطر كل الخطر يكمن في ان تضطر أي من الاطراف العربية الى القبول في اللحظة الاخيرة بما كانت ترفضه من قبل متعللة في ذلك بشتى الحجج. وبدلاً من تضييع الوقت في البحث عن ذرائع منذ الآن لتغطية الفشل وقصر النظر، فإن الوقت لم يفت بعد للبحث عن آلية لترتيب اوراق التفاوض العربية في المرحلة المقبلة. ونقطة البدء في تصميم هذه الآلية لا بد ان تتمثل في طرح صيغة مبتكرة وخلاقة تربط المسارات السورية واللبنانية والفلسطينية ربطاً عضوياً على نحو يضع اسرائيل امام خيارين: إما القبول بتسوية شاملة تحقق الامن للجميع... او تحمل مسؤولية انهيار العملية السلمية برمتها. إن ربط المسارات الباقية في حزمة واحدة لا يعني مصادرة حق كل طرف في التفاوض المنفرد مع اسرائيل. الأهم من ذلك ان تلتزم الاطراف المتفاوضة استراتيجية تحدد للجميع خطوطاً حمراًَ مشتركة لا يجوز تجاوزها، وتضمن عدم إقدام اي طرف على أي عمل او خطوة تلحق ضرراً بمصالح الاطراف الاخرى او حتى بسير العملية التفاوضية ذاتها أو تؤثر سرعتها المطلوبة في بقية المفاوضات. وعلى الجميع ان يتذكروا أن إبرام الاتفاقات ليس نهاية المطاف، لأن العبرة في النهاية ترتبط بتحقيق الأهداف وباستخلاص الحقوق وليس بحفلات التوقيع على الاتفاقات تحت اضواء الكاميرات المبهرة. وأحد الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة هو ان استراتيجية ربط المسارين السوري واللبناني نجحت في الحيلولة دون تآكل الموقف التفاوضي لكل من سورية ولبنان وأجبرت اسرائيل في النهاية، للمرة الاولى في تاريخ الصراع على الانسحاب من الجنوب اللبناني من دون قيد او شرط تحت الضربات الموجعة للمقاومة. فهل كان بوسع احد ان يتصور ماذا كان يمكن ان يحدث لو ان اسرائيل كانت نجحت في فصل المسارين السوري واللبناني؟ ولأن ما يقوم به أي طرف عربي الآن في ما يتعلق بتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي هو أمر يؤثر مباشرة في المستقبل وفي المصير العربي كله فسيجد العرب أنفسهم جميعاً مضطرين عاجلاً او اجلاً، الى رص الصفوف وتوحيد الأهداف. ومن الافضل لهم ان يبدأوا منذ الآن قبل غد، فالطريق نحو التسوية النهائية لا يزال طويلاً جداً. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.