لم تسفر قمة الاسد - كلينتون، التي عقدت قبل أسابيع في جنيف، بطلب من الرئيس الاميركي نفسه، عن اتفاق يسمح باستئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية، كما توقع معظم المحللين. وكان الفشل مدعاة لتساؤلات حائرة ولتعليقات متباينة. فمن قائل بأن كلينتون راهن على تنازلات سورية محدودة بخصوص قضية الأرض في مقابل وعود بمساعدات اميركية سخية، ومن قائل بأن بعض مساعدي الرئيس الاميركي نجحوا في التغرير به وتضليله عندما أوحوا له بأن الرئيس السوري مهيأ لتقديم مثل هذه التنازلات بسبب تعجله، تحت ضغط عوامل صحية وداخلية اخرى للوصول الى اتفاق، ومن قائل بأن رغبة الرئيس الاميركي العارمة في أن يختتم حياته السياسية بعمل كبير دفعه تحت ضغط الوقت المحدود المتاح أمامه، الى التسرع في اقتراح اللقاء قبل أن تنضج شروط نجاحه، خصوصاً أنه لا يملك أوراق ضغط حقيقية على أي من الطرفين. غير أن مسارعة كلينتون في إلقاء اللوم على سورية وقوله بأن الكرة اصبحت الآن في الملعب السوري يجعلنا نميل الى الاعتقاد بتورط الادارة الاميركية في عملية ابتزاز لحساب اسرائيل. وربما يكون بعض معاوني الرئيس الاميركي، الذين تحركهم العقيدة الصهيونية أكثر مما يحركهم الحرص على المصالح الاميركية، نجحوا في استغلال وجود دوافع قوية لدى الأطراف المعنية بالتوصل الى اتفاق على المسارين السوري واللبناني لتوريط الرئيس الاميركي في هذه اللعبة الخطرة. إذ يبدو أنهم أقنعوه بأن مجرد اعتراف باراك بوديعة رابين يكفي لتأمين غطاء سياسي يسمح بإمكان زحزحة سورية امتار عدة بعيداً عن بحيرة طبرية ومن ثم بتمكين اسرائيل من السيطرة كلياً على منابع المياه في المنطقة. وعندما رفض الرئيس السوري حافظ الاسد رفضاً قاطعاً أن يتنازل عن شبر واحد من الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبل الرابع من حزيران وقع الرئيس الاميركي في حرج. وهنا خرجت الادارة الاميركية عن وقارها وراحت تمارس ضغوطاً على سورية ليس لها مثيل منذ بداية العملية السلمية. فلم تكتف الإدارة الاميركية بإلقاء اللوم على سورية وتحميلها مسؤولية فشل القمة، وانما راحت ترسل إشارات متتابعة وملحة حول استعدادها لتقديم الدعم اللازم لتمكين اسرائيل من تحقيق انسحاب منفرد من جنوبلبنان وهو ما يعني ضمناً، موافقة الولاياتالمتحدة على سياسة اسرائيل في دفع الأمور الى حافة الهاوية وتشجيعها على التشدد في موقفها التفاوضي المتعنت تجاه سورية. إن الدلالة الحقيقية الوحيدة التي يمكن استخلاصها من فشل قمة كلينتون - الاسد، على رغم إعلان باراك اعترافه بوديعة رابين وصدور تصريحات رسمية تؤكد استعداد اسرائيل للانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران يونيو، تتمثل في أن اسرائيل أرادت فقط اطلاق بالونات اختبار لمعرفة المدى الذي سيذهب الى الرئيس الاسد حول القضايا الخلافية الأخرى وبخاصة القضايا المتعلقة بالمياه وبالتطبيع والأمن وبعلاقة سورية المستقبلية بلبنان والقضية الفلسطينية. وعندما تبين لاسرائيل ان سورية وضعت كل شيء على طاولة التفاوض، وأفصحت عن مواقفها النهائية وأظهرت مرونة كبيرة في كل القضايا الاخرى، كشفت عن حقيقة موقفها من قضية الأرض مستخدمة قضية المياه ستاراً لتبرير هذا الموقف. إذ اصرت اسرائيل على إبعاد سورية كلياً ليس فقط عن بحيرة طبرية و إنما ايضاً عن أي ارض سورية يمكن ان تحول دون سيطرة اسرائيل الكاملة على كل ما يتصل بمصادر المياه. وهذا المواقف معناه في التحليل النهائي، أن اسرائيل لم تتخذ بعد قراراً واضحاً وصريحاً ونهائياً بالعودة الى خطوط 4 حزيران يونيو وتصر على إدخال تعديلات تعتبرها "طفيفة" على هذه الخطوط على رغم انها تقتطع من سورية أراضي كانت خاضعة لسيادتها بموجب اتفاق 1923. واتضح من ملابسات ما جرى في جنيف ان اسرائيل لم تدرك بعد أنه سيستحيل على سورية قبول هذا الموقف بسبب بسيط، وهو ان الكل يعرف تمام المعرفة أن بحيرة طبرية كانت هي الحدود الفاصلة بين سورية واسرائيل عند ساحلها الشمالي الشرقي عشية حرب 1967. وبالتالي فإن إبعاد سورية متراً واحداً عن بحيرة طبرية عند هذه المنطقة لن يكون له سوى معنى واحد وهو أن دمشق رضخت في النهاية وقبلت بالتفريط في الأرض. وفي تقديري أن الرئيس حافظ الأسد لن يوقع مطلقاً على أي اتفاق يحمل شبهة تنازل سورية عن حبة رمل واحدة من الاراضي التي كانت خاضعة لسيطرتها قبل حرب 1967، فهل معنى ذلك ان احتمالات التوصل الى تسوية على المسار السوري انهارت كلية؟ الواقع أن الدلائل كافة كانت تشير، وبخاصة قبل قمة جنيف، الى أن اسرائيل ربما تكون أشد الأطراف حرصاً على التوصل الى اتفاق مع سورية وذلك لسبب جوهري هو أن اطماعها الحقيقية في الارض توجد في فلسطين وليس في سورية. ولذلك ساد الاعتقاد لفترة بان اسرائيل ربما تضطر اضطراراً الى الانسحاب الى خطوط 4 حزيران يونيو على الجبهة السورية، مقابل ضمانات أمن مبالغ فيها ونصيب في المياه السورية، ولكنها ستقبل في النهاية دفع هذا الثمن المحدود مقابل اخراج سورية من حلبة الصراع كي تتفرغ لافتراس ما تستطيع من أرض فلسطين، والتي هي مطمعها الحقيقي. وبناء على هذا الاعتقاد ساد تصور مفاده أنه اذا ما نجح باراك في إبرام معاهدة سلام مع سورية فإنه يكون بذلك تمكن من انجاز أهم عملية اختراق في تاريخ الصراع لاستكمال حلقات التسوية مع "دول الطوق" كي يصبح مطلق الحرية بعد ذلك لفرض ما يشاء على المسار الفلسطيني. فإبرام معاهدة مع سورية تتيح لباراك الفرصة لتأمين حدوده مع لبنان بعد تنفيذ وعده بانسحاب القوات الاسرائيلة قبل تموز يوليو المقبل، ومساعدة كلينتون على تجاوز اثار فضيحته الشخصية ودعم موقف مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات المقبلة، وهو ما ستطالب اسرائيل بثمن باهظ في مقابله. لكن الأهم من ذلك أن هذه المعاهدة ستكون أداة لتصفية الاتجاهات الراديكالية الرافضة للتطبيع مع اسرائيل، ولفك الارتباط بين سورية وايران، ولتمهيد الطريق أمام إحياء المفاوضات المتعددة الاطراف، ولتنشيط مؤتمرات التعاون الاقتصادي الخاصة بالشرق الاوسط وشمال افريقيا،، ألخ، ومن المرجح ان يؤدي الزخم الذي ستولده هذه المعاهدة الى خلق اجواء ضاعطة على السلطة الوطنية الفلسطينية لتقديم تنازلات حول القضايا الجوهرية، خصوصاً اذا غلّفت هذه التنازلات بحلول شكلية مصطنعة مثل طرح منطقة ابو ديس، وهي احدي ضواحي القدس، لتصبح عاصمة للدولة الفلسطينية او اذا نشطت حركة الاعمار في المناطق التي تخضع للسلطة الفلسطينية حينئذ أن تبرر تنازلاتها بالضغوط العربية وبأن الشعب الفلسطيني كان تُرك وحيداً. وبهذا يكون سيناريو التسوية بالشروط الاسرائيلية اكتمل تقريباً أو هو في طريقه نحو الاكتمال. غير أن فشل قمة جنيف بين كلينتون - الاسد، وما تبع ذلك من تصعيد من جانب اسرائيل والولاياتالمتحدة، يطرح احتمال ان تكون اسرائيل قررت نهج طريق آخر وهو ما يتطلب ضرورة اعادة فحص وتقويم التصور السابق في ضوء ما طرأ على الساحة من مستجدات. اذ اتخذت اسرائيل خطوات عملية تهدف الى تأكيد عزمها على المضي قدماً في تنفيذ قرارها بالانسحاب من لبنان وأخطرت به الأممالمتحدة رسمياً وتم التشاور معها حول ترتيبات ما بعد الانسحاب. ثم اعلنت الولاياتالمتحدة رسمياً تأييدها الكامل لاسرائيل في تلك الخطوة وأبدت استعدادها في الوقت نفسه لتقديم التسهيلات الضرورية المطلوبة لضمان تنفيذها. لكن الأخطر من ذلك ان اسرائيل قررت كذلك إلغاء القيود كافة التي كانت قد فرضتها على النشاط الاستيطاني في الجولان، وهو ما يوحي بأنها باتت تستبعد كلياً إمكان التوصل الى تسوية مع سورية في القريب العاجل. وهنا يثور التساؤل حول ما اذا كان الهدف الحقيقي من مجمل هذه الخطوات، والتي توحي بتحرك اميركي - اسرائيلي متناغم، هو مجرد ممارسة أقصى قدر من الضغوط لحمل سورية على تقديم التنازلات المطلوبة، أم أنه يعبر عن يأس حقيقي من إمكان زحزحة الموقف السوري وبالتالي عن رفض قاطع ونهائي لتلبية مطالب سورية بالانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران مهما كانت النتائج؟ الواقع أنه يصعب تصور أن تكون الولاياتالمتحدة واسرائيل اتخذتا قراراً بتجميد عملية التفاوض مع سورية والمضي قدماً في تنفيذ خطة الانسحاب المنفرد من جنوبلبنان. فهذا القرار قد يؤدي في نهاية المطاف الى نسف عملية السلام برمتها نهائياً. فالانسحاب من دون تسوية مع سورية ولبنان ليس له سوى معنى واحد وهو أن اسرائيل ليست معنية بتحقيق السلام للجميع بقدر ما هي معنية بوقف نزيف الدم لجنودها في الجنوب. فالانسحاب المنفرد لا يحل قضية جيش لبنانالجنوبي او قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أو غير ذلك من القضايا التي يتعين حلها في إطار أي تسوية دائمة. وسيتعين على جيش لبنانالجنوبي إما ان يرحل مع جيش الاحتلال أو يسلم نفسه للسلطة اللبنانية لمحاكمة من تثبت عليهم تهمة الخيانة العظمى والتعاون مع قوات احتلال أجنبي ما سيفتح بابا آخر للقلاقل والخلافات بين الفصائل اللبنانية. في الوقت نفسه فلن تكف اسرائيل عن محاولة إثارة القلاقل لسورية وإظهارها كقوة احتلال للبنان. وقد تستغل بعض العناصر الفلسطينية المسلحة هذا الوضع للتحرك حتى لا ينسى العالم تلك الأوضاع المأساوية للاجئين الفلسطينيين في لبنان. باختصار فإن الجبهة اللبنانية ستظل جبهة قابلة للتفجر والاشتعال في أي لحظة. بل وقد تفتعل اسرائيل نفسها بعض الازمات او تدبر عمليات مأجورة على الحدود لتبرير ما تخطط له من عمليات هدفها إثارة الاضطرابات الداخلية في لبنان وإظهار عجز "قوة الاحتلال السوري" عن حمايته ضد التهديدات الخارجية أو تحقيق الاستقرار الداخلي له. من ناحيتها فليس من المتوقع ان تقف سورية مكتفة الأيدي أمام هذه المستجدات. والأرجح انها ستعمل على دعم علاقاتها بكل القوى الرافضة للتسوية بالشروط الاسرائيلية والوقوف بالمرصاد أمام أي محاولة لتوسيع نطاق التطبيع مع "العدو الصهيوني" على المستويات الرسمية أو الشعبية كافة أو لتنشيط المفاوضات متعددة الاطراف، ألخ. وسيصعب على السلطة الفلسطينية في مثل هذه الظروف أن تقبل بأي تسوية لا تتضمن انسحاب اسرائيل الى خطوط الرابع من حزيران يونيو على الجبهة الفلسطينية. وستواجه السلطة الفلسطينية في كل مرة تضطر فيها الى تقديم تنازلات حول القضايا المؤجلة، وهي كثيرة ومهمة وموقف اسرائيل منها شديد التعنت، بمعارضة أقوى بكثير مما لو كانت سورية وقعت مسبقاً على اتفاق مع اسرائيل. لكل هذه الأسباب يبدو لي أن باب استئناف المفاوضات بين سورية واسرائيل لم يغلق بعد، وأن الأرجح ان يكون الهدف الحقيقي من التحركات الاميركية الاسرائيلية الأخيرة هو ممارسة اقصى قدر من الضغوط لحمل سورية على تقديم المزيد من التنازلات عن طريق دفع الأمور الى حافة الهاوية. ومع ذلك فإن احتمال انقاذ الموقف في اللحظة قبل الأخيرة ليس مؤكداً دائماً. فسياسة حافة الهاوية قد تفضي الى الوقوع في الهاوية فعلاً خصوصاً اذا لم يكن اللاعب على درجة كبيرة من المهارة. وعلى عكس ما قد يبدو على السطح فإن اسرائيل بدأت تتخبط فعلاً ولم تعد تملك زمام المبادرة الديبلوماسية ربما لأنها لم تعد تعرف ما تريد أو ربما لانها غير متأكدة من قدرتها على تحقيقه. أما سورية فلا تزال تملك أوراقاً حقيقية حتى بعد الانسحاب الاسرائيلي المنفرد من جنوبلبنان. فلا أحد يستطيع أن ينكر على الاطلاق ان سورية شاركت بنصيب كبير في صنع انتصار المقاومة الذي أجبر اسرائيل على الانسحاب في النهاية. غير أن قدرتها على ان تستمر في اللعب بما تملكه من أوراق تفاوضية بنجاح مرهون باستمرار إرادة الصمود لديها. وفي تقديري ان سورية ستخسر أكثر اذا ما وقعت اتفاق سلام مع اسرائيل ينطوي على تنازلات تتعلق بالارض. وعدم التوقيع مع سورية معناه استحالة تحقيق تسوية شاملة وربما دفع الأمور باتجاه الاستعداد الفعلي للحرب. على صعيد آخر يتعين على الدول العربية ان تدرك ان السلام سيظل هدفاً بعيد المنال حتى اذا رضخت اسرائيل في النهاية ووقعت اتفاقاً مع سورية يضمن الانسحاب الى خطوط 4 حزيران يونيو. فتوقيع سورية على مثل هذا الاتفاق، اذا تمّ، قد يكون خطوة ايجابية في حد ذاتها، غير ان هذه الخطوة ستكون بالقطع بداية لمرحلة جيدة بالغة الخطورة تتطلب أكبر قدر من اليقظة والانتباه في العالم الغربي. فالطريق نحو السلام لم يكتمل بعد وما تبقى منه لا يزال أطول بكثير مما قطعناه حتى الآن فبعد توقيع سورية ستظهر عشرات العقبات التي ستثير خلافات حادة بين جميع الاطراف. وكما سبق ان قامت اسرائيل بافتعال مشكلة طابا مع مصر، رغم توقيعها على معاهدة سلام معها، وكما قامت اسرائيل بافتعال عشرات المشاكل مع الفلسطينيين، فمن المؤكد ان اسرائيل ستفتعل الكثير منها مع سورية ايضاً بمجرد التوقيع ورغم التوقيع. وحتى بافتراض ان اسرائيل لن تفتعل مشاكل جديدة مع سورية وستلتزم معها بما ستوقع عليه فهل يتصور أحد أن التوقيع مع سورية سيغير موقف اسرائيل من القدس ومن المستوطنات ومن عودة اللاجئين. وهل ستقبل اسرائيل نزع سلاحها النووي والعمل الجدي من أجل إخلاء الشرق الاوسط من أسلحة الدمار الشامل؟ أشك كثيراً على رغم أنني اتمنى أن أكون مخطئاً. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة