فاجأ الطرفان السوري والاسرائيلي القوى السياسية العربية والفلسطينية والمراقبين السياسيين بالاعلان عن استئناف مفاوضاتهما. وبدأت مفاوضاتهما على مستوى عال بين رئيس الوزراء الاسرائيلي "باراك" ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع. وعقد الطرفان جولة اولى برعاية اميركية في واشنطن، وسيعودان للقاء ثانية مطلع السنة المقبلة. ولا يقلل اعلان الرئيس كلينتون عن الاتفاق بعد ابلاغ عدد من الزعماء العرب ومن ضمنهم رئيس منظمة التحرير، من المفاجأة واثرها على العلاقات العربية، ولا يلغي الاستنتاج القائل ان القيادة السورية قررت ادارة معركتها التفاوضية بمعزل عن التنسيق مع مصر ومنظمة التحرير، وبتنسيق محدود مع الأردن في القضايا المشتركة وبما يخدم تطوير العلاقة بين البلدين. واذ لم يكشف الرئيس كلينتون ولا اي من الطرفين أسس استئناف المفاوضات وقواعدها، فمن الواضح انها استؤنفت من حيث توقفت، وتم البناء على "ما اتفق عليه" في لقاءاتهما السرية التي سبقت الاعلان. ويشير اتفاقهما على ابقاء أسسها سرية الى انهما توصلا الى تفاهم واسع بشأن قضايا الخلاف الجوهرية التي اعاقت استئنافها. وعالجا مسألة "الوديعة" التي تؤكد استعداد اسرائيل للانسحاب من الجولان حتى حدود 4 حزيران يونيو 1967 مقابل ترتيبات امنية تضمن أمن اسرائيل واقامة علاقات سلام كامل بين الطرفين. ودخلا مرحلة متقدمة من الثقة المتبادلة عكست نفسها بتسهيلات متبادلة لإخراج الموضوع داخلياً واقليمياً. وتبادلا تأكيد الرغبة القوية بتحقيق انجازات ملموسة خلال فترة قصيرة، وجسداها بافتتاح المفاوضات بقوة وعلى مستوى عال. وأياً تكن المسافة التي قطعها الطرفان على طريق الاتفاق عبر مفاوضاتهما السرية المباشرة وغير المباشرة، فمصالحهما الراهنة والاستراتيجية بعيدة المدى تدفعهما الى التوصل الى اتفاق قبل تموز يوليو المقبل، وبالحد الاقصى قبل نهاية ولاية الرئيس كلينتون اواخر عام 2000. فالرئيس كلينتون حريص على مغادرة البيت الابيض بانجاز خارجي كبير يسجله التاريخ، ويغطي على ما شوه سمعته. ويعتقد اركان البيت الابيض ان ظروف التوصل الى اتفاقات سانحة على هذا المسار، لكنها غير متوافرة على المسار الفلسطيني، قبل رحيل ادارة كلينتون وقبل اجراء الانتخابات. واذا تم الاتفاق فإنه سيكون بمثابة اختراق نوعي يحققه الرئيس كلينتون على طريق صنع السلام في المنطقة شبيه بالاختراق الاستراتيجي الذي حققه الرئيس الاميركي كارتر في كامب ديفيد في عهد بيغن والسادات. الى ذلك أظن ان تحقيق المصالح الوطنية العليا السورية في اطار النظام الدولي السائد، يدفع بالقيادة السورية الى تسريع المفاوضات، ودفع ثمن التوصل الى تسوية نهائية للنزاع السوري - الاسرائيلي، تسترد فيها الجولان كاملاً، وتحفظ لها مصالحها المهمة في لبنان، وتعزز دورها الاقليمي. ويبدو ان الوصول الى مثل هذه التسوية بسرعة بات امراً ضرورياً ايضاً لاعادة ترتيب وتنظيم الاوضاع الداخلية والاقتصادية السورية، وترتيب علاقاتها الخارجية، إذ لم يعد معنى للانتظار فترة اطول، ويعني المزيد من التأخير تكريس مزيد من الحقائق على ارض المنطقة بمعزل عن دور سوري فاعل فيها. اما بشأن المصالح الاسرائيلية، فقد خاض باراك معركته الانتخابية تحت شعار "اسرائيل واحدة" ودولة للجميع، ولم يكن شعاره مجرد دعاية موقتة بل جسّده في تشكيل حكومته. والتزم امام ناخبيه ومنافسيه موقفين عمليين اساسيين، الاول اجراء استفتاء شعبي حول اي اتفاق يتم التوصل اليه بشأن قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين، ولم يحدد سقفاً زمنياً لذلك. والثاني، سحب الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان خلال فترة اقصاها "تموز 2000"، والوصول الى ترتيبات امنية تضمن عدم تعرض المدن والقرى الاسرائيلية في الشمال لهجمات عسكرية تشنها المقاومة اللبنانية، وفك ارتباط اسرائيل بقوات انطوان لحد وبما يعفيها من المسؤولية عن مصيرها. وتجربة باراك وأركانه العسكريين والمدنيين خلال 6 شهور من الحكم اكدت لهم ان طريق تحقيق الالتزام الاول تسوية نهائية مع الفلسطينيين طويلة ومعقدة، وأقصى ما يمكن تحقيقه خلال عام لا يتعدى اتفاق اطار فضفاض للمفاوضات حول قضايا الحل النهائي، لا يمنح باراك اي امتياز خاص. وبينت لهم ان الوفاء بالالتزام الثاني يستوجب ليس فقط استئناف المفاوضات مع السوريين، بل ايضاً التوصل الى اتفاق معهم حول الجولان، قبل الاتفاق مع اللبنانيين على الانسحاب من جنوبلبنان وتسوية الوضع هناك. واقتنعوا بأن المسارين السوري واللبناني توأمان مترابطان في المصالح ومتلازمان في الحركة على طريق الحرب والسلام، وان لا مصلحة لبنانية في فك ترابطهما، وان الانسحاب من جانب واحد لا يؤمن الاهداف السياسية والعسكرية التي التزم باراك بتحقيقها. ومصالح سورية العليا تدفع قيادتها نحو العمل لتأخير اي اتفاق لبناني - اسرائيلي لحين الاتفاق، كحد أدنى، على الخطوط العريضة "لاعلان مبادئ" لحل مشكلة الجولان. وعلاقاتها باللبنانيين حكومة وبرلماناً وقوى سياسية تؤمن لها هذا الهدف التكتيكي. وعدم الاعلان، بذات الوقت، عن استئناف المفاوضات على المسار اللبناني، لا يؤشر على فك ترابط المسارين السوري واللبناني بل كرسه، ويشير الى ان باراك سلم بذلك، وأقر بأن نتائج المفاوضات السورية - الاسرائيلية هي التي ستحدد آفاق المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية ونتائجها. الى ذلك أكد كلينتون وباراك في اتصالاتهما بالرئيس ياسر عرفات ان استئناف المفاوضات مع سورية لن يكون على حساب حركتها على المسار الفلسطيني. اعتقد انهما جادان بحدود، اذا تم حصر الحديث في حدود تنفيذ معظم قضايا المرحلة الانتقالية وليس كلها، وبخاصة ما تم توقيعه في اتفاق شرم الشيخ. لكن حديثهما عن الاستمرار في منح الاولوية للمسار الفلسطيني ولمفاوضات الحل النهائي يفتقر للدقة والصدق حتى لو كرر مرات عدة. فالرئيس كلينتون لا يستطيع الضغط على اسرائيل في نهاية عهده، ويهمه استرضاء باراك لتمرير الاتفاق مع سورية. ويمكن القول بثقة ان باراك غير مستعد لتقديم تنازلات جوهرية على الجبهات الثلاث الفلسطينية والسورية واللبنانية دفعة واحدة في وقت واحد. باعتبار ان ذلك، من وجهة نظره، خطر على أمن اسرائيل، كما ان بعض اركان حكومته يعتبرها تنازلات "خطيرة". ومهما كانت درجة اجحافها بالحقوق العربية ستتضمن تنازلات واجراءات اسرائيلية وصفها باراك ب "المؤلمة". وهو يعرف اكثر من سواه، انها لا تزال تفوق قدرة الاحتمال لدى مجتمع اسرائيلي منقسم على نفسه. ثم انها تتعارض مع شعار "اسرائيل واحدة"، وتحرك بقوة التناقضات الايديولوجية والصراعات الحزبية الكثيرة التي طفت على سطح المجتمع الاسرائيلي خلال الانتخابات وبعدها. واذا كانت اتجاهات الرأي العام الاسرائيلي وتركيبة حكومته تؤشر الى وجهة حركته الرئيسية، فشبه الاجماع الاسرائيلي على ضرورة الانسحاب من جنوبلبنان يشجعه على الاندفاع نحو التوصل الى اتفاق حول الجولان، وآخر حول جنوبلبنان. ويعرف باراك ان الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية - الاسرائيلية، التي يعرفها جيداً بحكم مشاركته الشخصية فيها، والبناء على "ما تم مؤخراً"، يمكّنانه من تحقيق هذا الهدف خلال اقل من 6 اشهر. الى ذلك يدرك اركان حزب العمل ان في امكانهم، بمتاعب قليلة، ضمان موافقة قوى الائتلاف الحكومي على اي اتفاق حول الانسحاب من الجولان وجنوبلبنان، وضمان تمريره في استفتاء شعبي. وان غالبية الاسرائيليين باتت مقتنعة ان السلام مع سورية بات ممكناً، وان الحركة على اوتوستراد التطبيع مع العرب عبر طريق حيفا - دمشق اقصر وأسرع من الطريق التي يصنعها مسار التفاوض مع الفلسطينيين. ويعرفون تماماً ان اي اتفاق حول قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين سيكون أشد ايلاماً، واكثر اثارة للأوضاع الداخلية من الاتفاق مع السوريين. وتمريره في استفتاء شعبي غير مضمون. فهو يستنفر قوى اجتماعية اوسع من القوى التي يستنفرها الاتفاق حول الانسحاب من الجولان، ويخلق متاعب متنوعة كبيرة داخل الائتلاف الحكومي قد تفجر اوضاع الحكومة. وبصرف النظر عن رأي القوى الفلسطينية والعربية والشعبية المعارضة لعملية السلام، او التي قد تتحفظ على الاتفاق السوري اللبناني - الاسرائيلي القادم، فإن استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية، يؤكد بدء مرحلة جديدة من السلام العربي - الاسرائيلي، وسيكون لاتفاقهما المقبل نتائج وآثار واسعة على مجمل اوضاع المنطقة، الواضح منها ارساء أسس نوعية اضافية لبناء مزيد من العلاقات السلمية بين شعوب المنطقة، وصنع سلام شامل بين دولها. ويعزز افكار ومواقع المعتدلين وقوى السلام في اسرائيل على حساب القوى والافكار اليمينية المتطرفة. ويخلق حقائق اضافية تجعل طريق السلام نهجاً ثابتاً لا رجعة عنه لسنوات طويلة مقبلة، ويصلب عود الاتفاق الأردني الاسرائيلي الطري، ويفتح آفاقاً جديدة لعلاقة اردنية - سورية خاصة، ويحرر اراضي فلسطينية هامة منطقة الحمّة ومثلثات كعوش، يمكنها استيعاب بعضاً من اللاجئين. ويوفر للمفاوض الفلسطيني ثلاثة نماذج يمكنه المطالبة بتطبيقها في مفاوضاته مع الاسرائيليين. الاول تنفيذ القرارين 343 و338 والانسحاب حتى حدود 4 حزيران 1967، والثاني مصير مستوطنات الجولان ويرجح ان يتم اخلاؤها، وان لا يعتمد الطرفان نموذج ياميت وتدميرها، والثالث حل مشكلة المياه. لا شك أن من حق القيادة السورية توقيع الاتفاقات التي تمكنها من استرداد الجولان، ومن حق لبنان العمل على استرداد جنوبه الغالي، تماماً كما مارست القيادة الفلسطينية حقها في توقيع اوسلو وما تلاه من اتفاقات. الا ان هذا الحق لا يعني للحظة واحدة التخلي عن الحقوق العربية في فلسطين، وترك الجانب الاسرائيلي يستفرد بمنظمة التحرير، ويفرض على القيادتين السورية واللبنانية التشاور مع القيادة الفلسطينية حول موضوع اللاجئين، ومستقبل الحمة الفلسطينية التي ظلت وديعة عند السوريين منذ نكبة عام 1948. وأخطر ما يواجهه النظام الرسمي العربي بعد استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية، هو الدخول في تسابق بين المسارات، وفتح الابواب امام موجة جديدة من الصراعات الداخلية تزيده عجزاً على حالة العجز التي يعيشها منذ مطلع الثمانينات. الى ذلك من المفيد تذكير الادارة الاميركية وباراك وقادة حزب العمل وكل المعنيين باستقرار اوضاع المنطقة ان وقائع الحياة اكدت ان الاتفاقات الثنائية العربية - الاسرائيلية تصنع ترتيبات امنية وتسويات موقتة رجراجة. وان السلام الدائم يتحقق فقط بعد حل المشكلة الفلسطينية حلاً عادلاً. وتجربة نصف قرن من الصراع اكدت ان لا أمن ولا استقرار في المنطقة بدون حل مشكلة القدس واللاجئين حلاً عادلاً وقيام الدولة الفلسطينية. * كاتب سياسي فلسطيني