كانت المناهج الدراسية تؤهلنا لمتابعة أحداث العالم من خلال الصحف ونحن في نهايات المرحلة الابتدائية، وتؤهلنا لقراءة الروايات العربية والمترجمة ونحن في المرحلة المتوسطة، وتؤهلنا للنقاش والبحث العلميين ونحن في بدايات الثانوية، لأننا كنا منفتحين على النظريات العلمية من دون وصاية، مثل نظرية "النشوء والارتقاء" لداروين. كنا كذلك ندرس أن "المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم". ولم تكن مهمة صحة هذه النظريات أو خطأها. كنا ندرس التاريخ من دون تزوير أو تزويق، ولذا تخرجنا جيلاً بأساس ثقافي لا بأس به، جيلاً يشارك بمسؤولية في قضايا بلده وأمته. وتشكل إثر ذلك قادة مثقفون في مناحي الحياة المختلفة كما تشكل رجال دولة بحق كالوزراء الحكماء والسفراء الشعراء والموسيقين والمثقفين تثقيفاً عالياً. لكن هذا النهج الكويتي تغير تماماً حتى بتنا اليوم نشهد الاعتماد الكامل على القوى المحافظة في وضع المناهج، فألغيت كل هذه النظريات، وقدم التاريخ للطلاب بشكل مناقض للحقائق، وملئت أدمغة الأطفال بحشو معلوماتي، واقتصرت المعارف على "فك الخط" وعلوم الكلمات المتقاطعة السطحية. في الثمانينات كنت أُدرِّس في جامعة الكويت، وكان الطلاب المتخرجون في الثانوية لا يستطيعون كتابة فقرة من دون أن يدخلوا مفردات عامية فضلاً عن الأخطاء الإملائية الفادحة. لكن التعليم هو القاعدة الأساسية لثقافة أي مجتمع. وإذا كان التعليم في الأربعينات والخمسينات والستينات انتج رجال دولة رواداً في الثقافة والعلوم والتربية، فنحن نخشى من المستقبل المجهول للكويت عندما يقودها خريجو الثمانينات والتسعينات. تعامل أصحاب الشهادات العليا مع قضايا الكويت والأمة العربية والعالم بمسؤولية وعمق، أما الآن وعلى رغم تضاعف عدد حملة شهادة الدكتوراه إلا إننا نلحظ أن كثيراً منهم حصل على اللقب لكنه لم يحصل على العلم والخبرة، حصلوا على هذه الشهادات لأسباب نفعية بحتة، لما توفره "الدال" التي تسبق أسماءهم من مكانة اجتماعية ووظيفية، وهؤلاء إما سيكونون وزراء وأعضاء مجلس أمة أو مسؤولين في الدولة، أو سيكونون مسؤولين عن بناء عقول أجيالنا القادمة. لم يتغير شيء في الكويت، فالإدارة السياسية العليا ما زالت كما هي، والطموح بالتقدم والرقي ظل كما هو، لكن ما تغير هو سيطرة القيم والأفكار المحافظة وتنامي وانتشار القيم القبلية المتخلفة بالذات، واصبح انفتاح المدينةالكويتية هو الشذوذ، والقاعدة هي الخوف من حرية التعبير، والخوف من ممارسة الفرح، وعدم الأمان الاجتماعي، وتآكل الناتج القومي وضياع الأجيال القادمة في ظل غياب خطط التنمية التي من أهمها التنمية الثقافية بدءاً بالتعليم. تواجه الكويت اليوم عشرات الآلاف من خريجي الجامعة والمعاهد المختلفة الذين إما لا يجدون عملاً، أو يوظفون في أماكن لا تناسب تخصصاتهم. والمسألة بدأت بالتخلي عن الخيار الثقافي الذي كان يضمن تعليماً جيداً، ورؤية واضحة، وإنساناً حراً ومسؤولاً وآمناً. وأملنا أن التراجع لا يعني الفناء، وان النهوض ليس استحداثاً من عدم، فهل سيكون الاحتفال بالكويت 2001 عاصمة للثقافة العربية نهوضاً جديداً؟؟ * كاتب كويتي.