بين القصيم وتهامة تشكلت جغرافية وكينونة، الدكتور جاسر الحربش الذي يؤمن بأن «القصيم» منحته ما هو عليه الآن من طموح ومثابرة وعدم رضوخ للفقر والجهل والقمع، لجأ إلى الطب بحثاً عن لقمة العيش ممسوحة ب «زبدة» الشهرة والجاه، ويرى أن أكثر الأمور التي استعصت على جيله في ذلك الوقت هو التعامل الشجاع مع أمراض التخلف الحضاري. ويؤكد أن أطباء جيله كانوا أكثر التزاماً وأقوى صبراً وعزماً من الأجيال اللاحقة، ويتذكر بحسرة حرب أفغانستان وفكر طالبان واجتياح العراق والإرهاب وكيف كانت وراء التوقف عن صولات مجلة «اليمامة» الصحافية وجولاتها ويقول: «أزعم أنني كنت من الرواد في تيار احتجاجي ضد الفكر الظلامي قبل 25 سنة، ولكنني تعرضت لتلفيق الأكاذيب والقدح والتثبيط والترهيب، وقد طوفت في الآفاق حتى قنعت من الغنيمة بالإياب». ويرى الحربش أن «باطنية» الشعب السعودي مترهلة ومتدلية مثل إسفنجة مليئة بالدهون والنشويات، وأن النساء يصبن بالاكتئاب لدينا، لأنه ينقصهن العضلات في مجتمع يقوم على التحكم والسيطرة. ولا يفوته أن يشير إلى أن مستوى نضج المجتمع يعتمد على مستوى تقديره للطبيبة السعودية وحرية الحركة لها من دون «مَحْرَم» أو سائق...فإلى تفاصيل الحوار : ما حكاية اسم جاسر في عائلة الحربش؟ - لا بد من أن سبب ذلك هو التفاؤل بغلام جسور مقدام، وهو تفاؤل صحراوي له جذور قبلية موغلة في القدم، كأن يكثر في قبيلة ما اسم مطر أو غياث لعل السماء تجود بالمطر بعد ولادته. على كل حال يكثر استعمال هذا الاسم «جاسر» ليس عند عائلة الحربش فقط، وإنما عند قبائل شمال المملكة العربية السعودية وجنوب الأردن (الصخور والشرارات) على العموم، وعائلة الحربش تنتمي إلى قبيلة الصخور (بنو صخر) وهي فرع رئيسي من قبيلة طي ويوجد معظم المنتمين إليها ما بين السعودية والأردن وفلسطين كنتيجة للهجرات المتتالية في مواسم الهجرة إلى الشمال، مع بقاء بعض العائلات في القصيم والطائف وشمال غرب المملكة العربية السعودية. إذاً، فبمثل ما يكثر اسم حمزة وعباس في الحجاز وعلي وحسن في المنطقة الشرقية وجنوب العراق كذلك يتكرر اسم جاسر في شمال المملكة العربية السعودية وجنوب الأردن عند قبائل بني صخر والشرارات ومن جاورهم. لكل اسم من صاحبه نصيب... ماذا منحك اسم جاسر؟ - النصيب قد يكون مكسَباً وقد يكون خسارة، فإذا كان المقصود أن لي من اسمي نصيباً إيجابياً في هذا الحيز الجغرافي وفي هذه الظروف التاريخية فهذا يعني أنني معتوه ومتهور، ولذلك أفضل أن يكون لي من اسمي نصيب بالمعنى السلبي. الظاهر أن هذا هو ما حصل ولذلك استطعت السباحة بين الحيتان والقرش والهوامير ولم أتعرض إلى أذى كبير، وأنا لستُ منهم، والسلامة غنيمة - كما يقول المثل. القصيم والتنوع ما أثر منطقة القصيم في نشأتك؟ وهل منحك ذلك حضوراً مختلفاً؟ - القصيم منحتني الكثير مما أنا عليه، الطموح والمثابرة وعدم الرضوخ لمثبطات الفقر والجهل والقمع. أعتقد بأن القصيم منطقة جغرافية مميزة بجمال أرضها ونقاء سمائها وتنوع تضاريسها مثل ما هي مميزة بحب أهلها للمغامرة والخروج من دائرة الجغرافيا الإقليمية إلى دائرة الجغرافيا الأوسع. كما تشهد على ذلك رحلات العقيلات إلى الشام وتغريبات أهل القصيم على مصر وشمال أفريقيا وتشريقاتهم إلى الهند وسرنديب، وكذلك مساهماتهم المعروفة في إنجاب الشخصيات النجيبة من الرجال والنساء في مجال الشعر والتجارة والإدارة والعلم والتعليم... ويقول إخواننا الحضارم إنهم لا يخشون من المنافسة إلا مع القصمان. اتجاهك إلى الطب... هل هو بحث عن الدواء أو حرب على الداء؟ - ربما لا هذا ولا ذاك. إذا كان السؤال حول الاتجاه لدراسة الطب. الأرجح أن الدافع الأساسي كان البحث عن لقمة العيش الممسوحة بزبدة الشهرة والجاه. كان هذا هو الدافع إلى الاتجاه نحو دراسة الطب أيام سذاجة وطموح الشباب. مع مرور السنوات وتراكم الخبرات وسبر أغوار الناس اجتماعياً ونفسياً وثقافياً من خلال معاناتهم مع المرض (كمرضى ومرافقين وأقارب). لم يبقَ عندي سوى الرغبة المتواضعة في أن أتعامل مع كل حالة على حدة، ومع كل مريض بحسب وضعه، يعني كل يوم بيومه حتى ييسِّر الله الشفاء، ثم أنتقل إلى طموحات اليوم التالي، أي أن المجهود يتركز على التشخيص للداء ومحاولة إيجاد التوليفة الدوائية المناسبة. أما مسألة الحرب على الداء فالله يرحم الحال، لأن هذا طموح لم يُفكَّر فيه بعد حتى الحكومات المدججة بالأموال والوزارات والطبول والمزامير في البلاد العربية. «دكتوراه في الطب» من ألمانيا... هل كانت ألمانيا خيارك أم هي تصنيفات من لجان الابتعاث؟ - بل هي تصنيفات لجان الابتعاث آنذاك، الطب لألمانيا والمعمار لإيطاليا والميكانيكا والنفط لأميركا. والظاهر أن ذلك الرعيل أحسن الاختيار، فجزاه الله خيراً في الدنيا والآخرة. ما الفارق بين خريجي طب مصر وباكستان وألمانيا؟ - الفارق يصنعه الشخص نفسه وقدرته على التعلم واكتساب المهارات. هناك بعض الفروقات، ولكنها ليست جوهرية. الباطنة ليست تخصصاً فقط تخصصك في «الباطنة»... هل يوحي بعمق الرؤية لديك؟ - طبعاً، لا. فهي مسألة إدراك شخصي لمحدودية القدرات الجراحية والمهارات اليدوية، ربما مع توافر بعض الميزات الأخرى في مجال الاستقراء والربط والاستنتاج التي هي شروط أساسية للطب الباطني. بما أنك من الأطباء الأوائل... كيف تقوّم هذه التجربة؟ - ستكون الشهادة في جيلي من الأطباء مطعون في صدقيتها، ولكنني سأتوكل على الله وأقولها: نحن أكثر التزاماً وأقوى صبراً وأشد عزماً من الأطباء اللاحقين، وأي استبانة شعبية ستبرهن على صحة ذلك. أروقة كلية الطب والمستشفيات الجامعية... هل هي من يصنع تاريخ الطب؟ - الذي يصنع تاريخ الطب هي الحرية الأكاديمية والكرم المالي من الدولة، وهنا يتساوى تاريخ الطب مع تاريخ كل العلوم. ولو جئت بجهابذة الطب من شتى أنحاء العالم ووضعتهم في الجو الأكاديمي العربي لما استطاعوا عمل شيء له قيمة علمية. ممارسة الطب... ماذا أضافت للحربش الإنسان؟ - جعلته يدرك أن الفرق بين الحياة والموت مجرد عتبة صغيرة لا عودة بعدها إلا في الآخرة، وعلى الطبيب أن يضع هذه العتبة أمام ناظريه كل يوم قبل أن يسقط هو فريسة للمرض ثم يموت ولا يترك من يترحم عليه. هل يلزم الأمر أن يكون ابن الطبيب طبيباً؟ - إنها الجينات ربما بمثل ما جعلتني الجينات أختار الطب جعلت بعض أبنائي يفعلون الشيء نفسه من دون تأثير خارجي، ربما مع بعض الاقتناع الإيجابي بشخصية الوالد، إذ إنني أعتقد أن ابن الطبيب الخائب لن يختار الطب مهنةً. كيف كان أثر بعثات الطب في أطبائنا الأوائل؟ - الخبر هو ما ترون لا ما تسمعون. بعثات الطب أنجبت من الأطباء الأوائل وزراء صحة وجراحين لامعين في مجال القلب والكلى والدماغ وفي زراعة الأعضاء وطب العيون والأطفال وغير ذلك. في السنوات التي أوقفت فيها البعثات ضمر الإنجاز الطبي عندنا بالشكل الذي نراه حالياً من خلال العجز عن سد حاجات المرضى في كل مجال و مكان. تدهور حال الطب عندنا كيف ترى التوسع الحاصل في دراسة الطب؟ - أيُّ توسع؟! لم أشاهد توسعاً بعْدُ يدعو إلى التفاؤل لسد الحاجات في السنوات ال20 المقبلة. لدينا حالياً فقط 18 في المئة من الكفاءات الطبية الوطنية ونحتاج إلى توسع يغطي ال82 في المئة الباقية... أين هذا التوسع؟ لماذا لا نجد أطباءنا في المنظمات الطبية التطوعية في العالم؟ - لأنهم إذا تطوعوا انقطعوا عن العمل في الداخل، وهذا يعني الموت جوعاً، لأن الدولة لا تدفع لهم. العمل الطبي التطوعي في الخارج عمل مؤسساتي حكومي سياسي أو كنائسي سياسي مدفوع الأجر. نحن ليس عندنا مثل هذا الترف. هل تغيرت آلية التدريس في كلية الطب لمصلحة الطلاب؟ - العكس هو الصحيح. التغيير يحصل لمصلحة الأستاذ لكي يتملص من مهامه التدريسية ويذهب جزئياً للعمل في القطاع الخاص لتحسين ظروفه المعيشية مقارنة بزملائه في التخصصي والحرس والعسكري. أما الطالب في كلية الطب فوضعه الحالي بائس ويدعو للرثاء والبكاء. حضور جامعة الملك سعود مثلاً في كلية الطب هو «لا من شاف ولا من درى». نحو 30 سنة في ممارسة الطب الباطني... كيف هي «باطنية» الشعب السعودي؟ - مترهلة ومتدلية مثل إسفنجة مليئة بالدهون والنشويات. هل تؤمن بأن أحداث العالم السياسية والاقتصادية لها أثر في انتشار الأمراض الباطنية؟ - نعم، ومنذ بَدء الخليقة حتى نهايتها. السعوديات أصبحن يُقبلن على الطب... هل ترى ذلك مؤشراً إيجابياً لنضج المجتمع نحو الطبيبة السعودية؟ - أرى في ذلك دليلاً على ارتفاع سقف الطموح عند الفتاة السعودية، لكن المؤشر لنضج المجتمع يعتمد حقيقةً على مستوى التقدير للطبيبة السعودية وحرية الحركة لها من دون محرم أو سائق إذا كان عملها يتطلب ذلك وتحسن فرصها في الزواج. انتشار مستشفيات خاصة للنساء... هل هو مرض أم استثمار فقط؟ - هو استثمار أولاً واستغلال للأمر الواقع في الفصل بين الجنسين ثانياً و«فَشْخَرة» ثالثاً. ولولا الوفرة المادية لما حدث ذلك. الإعلام والأخطاء الطبية الإعلام... هل هو منصف للأطباء؟ - هل تقصدين الإعلام المحلي؟ إنه غير منصف حتى لنفسه وهو عموماً لا يمتلك محترفين، بل مجرد عصابات من الهواة. الصحافة المحترفة ربما تكون موجودة عندنا فقط على مستوى كرة القدم والشعر الشعبي. أما على مستوى الطب والعلوم فيفتح الله. كيف تجد الحلول لمواجهة مشكلة الأخطاء الطبية؟ - لا توجد حلول حالياً، فالممارسة الطبية عندنا يحكمها واقع الضرورات التي تحمل بداخلها بعض المحرمات. والبناء الطبي حالياً يمثل غابة مليئة بالطحالب والأشواك والأغصان اليابسة إلى جانب الأزهار والأشجار الخضراء والثمار اليانعة، ولكن هذا داخل في ذلك، وعملية الفرز تحتاج إلى منهجية علمية أكبر من الرغبة والأماني والأشخاص. رواتب الأطباء... لماذا لا يوجد لها سقف كفاية؟ - لماذا لا يوجد أصلاً سقف كفاية في «العلالي» لمرتبات مديري البنوك والشركات وسقف كفاية على «الواطي» لمعلمات القطاع الخاص وحراس البنوك والمؤسسات؟. بصراحة... لا يوجد سقف كفاية عندنا لأي شيء. الموضوع يشبه - إلى حد ما - حارة غوار الطوشة. التأمين الطبي... هل خدم الصحة عندنا؟ - ربما أساء إليها، خصوصاً إذا صدقت الإشاعة عن مشاركة بعض المسؤولين في القطاع الصحي في شركات تأمين وهمية. هذا لا يعني أن التأمين الطبي غير ضروري. إنه ضروري جداً على شرط أن نقطع أيادي المتكسبين منه والمتلاعبين فيه. الثمانينات والأمراض أيُّ الأمراض استعصى على جيلك علاجها فورِثها الجيل الذي بعدكم؟ - استعصى على جيلي التعامل الشجاع مع أمراض التخلف الحضاري التي هي السبب الحقيقي في ما نعانيه من إحباط وازدواجية في الشخصية وتنازل عن الحقوق الأساسية للإنسان كإنسان. أستطيع أن أقول إن أمراض التخلف هذه كانت على أيام جيلي أخف وطأة وأقل وضوحاً منها على أيام الأجيال التي أتت بعده. الحديث في هذا المجال يطول، ولكنه يقع في صميم الخطاب السياسي والديني الذي كان سائداً في ال30 سنة الماضية وكان عنوانه الكفاح ضد الشيوعية والإلحاد والفكر القومي ولم يكن كذلك حقيقة بل كان حرباً لأصحاب النفوذ الكبير في مقدرات الشعوب كما أظهرت الأيام لاحقاً. في فترة الثمانينيات كان هناك حَراك ووهج.... من أطفأ كل شيء؟ - الذي أطفأ الوهج هو انتهاز الفكر الرجعي لفرصته السياسية التاريخية أيام حرب أفغانستان الأولى وثورة الخميني ورضوخ الفكر السياسي لتلك الانتهازية استجابة للضغوط السياسية من الخارج وللصراخ والتهديد من التيار الرجعي في الداخل. آنذاك تكونت قناعة استراتيجية بتأجيل النظر في مسألة التقدم إلى الأمام في المسيرة الحضارية واستبدل بها الرجوع إلى الماضي للتجييش، وهكذا همد الحَراك وانطفأ الوهج، لأن المناخ العام هبت عليه العواصف والأتربة ورياح السموم التي لا نزال نعاني من تبعاتها الإرهابية حتى الآن. «الصحوة»... هل أكلت الأخضر واليابس؟ - لا الصحوة ولا غيرها تستطيع أكل الأخضر واليابس في المسيرة الإنسانية. هي تستطيع إصابة العيون بالرمد والعشى موقتاً نتيجة الغبار الذي تثيره، ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح والضرورات التاريخية تفرض نفسها، لأن العقل المستنير ينتصر في النهاية على العقل «الظلامي». معركة المثقفين ورجال الدين لماذا خسر المثقفون المعركة مع رجال الدين؟ - أولاً هناك رجال دين تقدميون يقفون مع المثقفين جنباً إلى جنب، لأنهم أصلاً مثقفون ولأن المثقفين أصلاً متدينون (مع بعض التفاوت في العمق المعرفي الأكاديمي). وثانياً لم يخسر المثقفون المعركة مع رجال الدين المعادين للثقافة، ولكن الكفة رجحت موقتاً لمصلحة العداء للثقافة لأسباب جوهرية جداً يدركها الجميع، ولكن لا ينطق بفحواها أحد. المسألة أساساً هي مسألة خوف عدو الثقافة على امتيازاته التراكمية التاريخية من الثقافة وما تجلبه من شفافية وحوار حر وانفتاح معرفي وإنساني في المجتمع وما يترتب على ذلك من إعطاء كل ذي حق حقه على قدر ما يقدمه للمجتمع من فوائد وإنجازات. على أي حال مسألة الصراع بين العلم والجهل والثقافة والماضوية أزلية والزمن طويل. هل يعيش جاسر الحربش عزلة ما الآن؟ - أزعم أنني كنت من الرواد في تيار احتجاجي ضد الفكر الظلامي قبل 25 سنة، ولكنني تعرضت لتلفيق الأكاذيب والقدح والتثبيط والترهيب. وقد طوفت في الآفاق حتى قنعت من الغنيمة بالإياب. في مجلة «اليمامة» كانت لك صولات وجولات اجتماعية وسياسية وإنسانية... من حرمَنا منها؟ - حرب أفغانستان وفكر طالبان واجتياح العراق والإرهاب الذي أوقفني وأوقف كل جيل مجلة «اليمامة» الذين عاصرتهم آنذاك، خصوصاً أن ذلك تم مع غض النظر ممن يستطيعون التحكم في مسار الأمور. هل تغيرت مناخاتك الكتابية أم أن الأمر يحتاج إلى فواتح شهية في هذا الوقت؟ - لا مناخاتي القرائية ولا الكتابية تغيرت، لكن للشيخوخة أحكامها، خصوصاً حين أرى كثرة الأقلام الشابة اليانعة تشحن جوّنا الثقافي فكراً وثقافة بالصحافة والإنترنت وفي المداخلات الثقافية في الديوانيات والنوادي وغيرها. إنني أعجز عن ملاحقة الحدث الثقافي الحالي، لأنه بدأ يكتسب زخماً مشجعاً على رغم محاولات أعداء الثقافة الوقوف في وجهه. المائدة مليئة بما لذّ وطاب، ولم تعد هناك حاجة إلى فواتح شهية. باطنك سياسة وظاهرك قومية... ألا ترى أن كلاهما مريض الآن؟ - باطن كل عربي سياسة وظاهره انتماء، إن لم يكن قومياً فقبلياً على الأقل مهما حاول هذا العربي التستر خلف الأممية الإيديولوجية أو الدينية، وكل واحد على قدر عمقه الثقافي والمعرفي. إذا كان الانتماء القومي الذي يستبطن السياسة مرضاً فإن العالم كله يعاني من هذا المرض من أميركا غرباً إلى الصين واليابان شرقاً. كلهم قوميون وسياسيون بمفاهيم أوطانهم حتى ولو ادّعوا غير ذلك. الحوار الوطني والسلطة في سلسلة الحوار الوطني «جاسر الحربش» كان غائباً... هل تؤمن بأهمية الحوار في ظل هيمنة الإقصاء؟ - أما زلتم تسمونه حواراً؟ لقد كان مناكفة بين خصمين يحاول كل واحد منهما كسب السلطة السياسية إلى جانبه ثم أدركهما العقم كما هو متوقع، وأشكر الله على ذلك. لو شاركت في مثل تلك المناكفة لما كنت أستطيع قول أي شيء... والحمد لله على السلامة. هل الحوار - بعيداً عن المؤسسات الرسمية - مجد أكثر؟ - نعم، لأنه يتمتع بالبعد عن الرقابة ويكون أقرب إلى المصارحة والصدق، ثم إنه تمرين للمستقبل تظهر فائدته الحقيقية حين تكتمل القناعات بضرورة الحوار الحقيقي. هل تعاني المرأة السعودية في أمراضها من خصوصيتنا السعودية؟ - يعاني الرجل مثلما تعاني المرأة. إن مسألة الخصوصية عندنا في نظري ليست قناعة مثالية بتفردنا بين العالمين، بل هي تعبير عن خوف حقيقي من الدخول إلى المنتدى العام فتنكشف التناقضات والعيوب والممارسات الكاذبة. في هذه المسألة وملابساتها يستوي الرجل والمرأة، إلا أن الرجل يتمتع بميزات المجتمع الذكوري بينما هو يعاني من الخوف والشعور نفسهما بالنقص مثل المرأة. لماذا الاكتئاب أحد أمراض المرأة؟ - لأنها تنقصها العضلات في مجتمع يقوم على التحكم والسيطرة ويفضل الستر على الصحة والعافية. انتشار الثقافة الحقوقية ومراكز مواجهة العنف... هل سيسهم في التقليل من الأمراض الباطنية لمجتمعنا؟ - انتشار هذه المراكز يعد خطوة مهمة في محاولة الكشف عن الأمراض الناتجة من القهر والظلم ومصادرة الحقوق. بعض هذه الأمراض يدخل في مجال طب النفس وبعضها مثل الضغط والسكر والقرحة الهضمية في الطب الباطني. لكن الكشف عن هذه الأمراض من دون مسح ميداني والوصول إلى المقهورين المصادرين الذين لا يستطيعون بجهدهم الذاتي الوصول إلى تلك المراكز الحقوقية. المقاومة الشعبية في مقالات لك تحدثت عن أثر المقاومة... برأيك ما المقاومة الأجدى في تاريخ الشعوب؟ - هي المقاومة التي تستوعب كل الفعاليات الوطنية بصرف النظر عن الانتماءات المذهبية والقبلية والمناطقية، أي المقاومة الوطنية من أجل الوطن فقط بكل تكويناته التاريخية والدينية والجغرافية والحضارية. بماذا يوحي لك تاريخ المقاومة الشعبية؟ - في حالات الاجتياح الخارجي تصبح المقاومة الشعبية هي جهاد الدفع الذي تبيحه كل الشرائع الدينية والوضعية. إذا صودر حق أي شعب في هذا النوع من المقاومة ضاع الوطن، وحينئذ يضيع الدين والعرض والمال، ولم يبق للشعب إلا حياء البهائم. المقاومة والمقاطعة... كيف تتم التوأمة بينهما؟ - لا يمكن أن تتم. المُقاوِم يدفع عن نفسه وأهله ووطنه اجتياحاً غاشماً، أما المُقاطِع فهو يقوم بالتخلي الطوعي عن شيء يستطيع الاستغناء عنه، لكنه لا يتخلى عن حاجات لا يستطيع الاستغناء عنها مثل المنجزات العلمية والطبية والمواد اللازمة لتسيير الحياة في مجال الماء والكهرباء والعلاج والزراعة وغير ذلك. المُقاوِم يسير في طريق لا خيار له فيه وإلا ضاع، أما المقاطع فهو كمن يضع الشروط للحصول على معاملة أفضل لدى الطرف الآخر، وهذا ليس توأماً لذلك. هل تؤمن بأن التطبيع السياسي يجب أن يلحقه التطبيع الثقافي؟ - أنا لا أؤمن بالتطبيع أصلاً، لأن التطبيع يعني التطويع، وهذا امتهان للكرامة. لكنني أؤمن بالتكامل الحضاري من دون شروط، وكل بحسب مجهوده وإنتاجه وإبداعه. كلمة التطبيع صارت تستعمل عندنا كشتيمة على نفس منوال علماني وأصولي لتشويه السمعة، على رغم أن المستعملين لكلا المصطلحين يكذبان ويعرفان أنهما يكذبان. ما الذي يرسم خريطة الطريق الآن... هل هو الحوار أم القتال؟ - خريطة الطريق تذكرني بالشلة العنصرية أيام جورج بوش ومحافظيه الجدد قبّحهم الله، وهي مجرد كلمة مخادعة خالية من المضمون. الذي يرسم الطريق هو الإدراك والمعرفة والإرادة والتضامن الوطني. بعد هذا المشوار الحواري... ما شهادتك على كل شيء باطناً وظاهراً؟ - هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. جاسر بن عبدالله الحربش.. . 68 سنة تزيد أو تنقص قليلاً. مكان الولادة غريب أن أمتلك فعلاً مكانين للولادة، المكان الحقيقي (أي المكان الذي وُلِدت فيه فعلاً) وهو قرية الشقيق الواقعة على ساحل تهامة ليس بعيداً عن مدينة جازان، ثم مكان الولادة على الورق بحسب معطيات الانتماء المناطقي والسجل المدني، وهو مدينة الرس في منطقة القصيم. أما لماذا هذه المعجزة الجغرافية فذلك لأن أبي - غفر الله له - وهو قصيمي من أهل الرس ترامت به الأقدار أثناء السعي في طلب الرزق إلى سواحل تهامة بعد أن شارك في حملة الحُديدة ثم تقطعت به السبل في الجنوب، وهناك تزوّج قحطانية هي والدتي - رحمها الله - فأنجبت ثلاثة أولاد وبنت، مات منهم ولد وبنت وبقي ولدان أنا شقيقي عبدالرحمن ، ثم ما لبث الزمان أن اخترم الوالدان وبقي الولدان. لطلب وتدبير من عمي جاسر ابن سليمان الحربش انتقلت من الشقيق مع أخي إلى الرس في رحلة طويلة وشاقة لا تزال بعض أحداثها منطبعة في مكان قصي من الذاكرة، على رغم أنني كنت آنذاك طفلاً دون سن الرابعة، مثلما لا يزال منطبعاً أيضاً في الذاكرة أنهم هناك في القصيم أجرو لي جراحة الختان التي لم أكن قد حصلت عليها في تهامة، لأن أهل تهامة الجنوب يؤجلون الموضوع حتى تكتمل علامات الرجولة . بعد أن استقر بي المقام في الرس ودخلت المدرسة الابتدائية حلّت الرس محل الشقيق في الأوراق الثبوتية وفي الذاكرة الانتمائية ثم في السجل المدني لاحقاً، لكن الذاكرة الطفولية الممتدة إلى أقاصي العقل الباطن لا تزال تحتفظ هناك بالشقيق كالمنبت الأول حيث يرقد الحامل الحقيقي للنشوء والتكوين والولادة، أمي - رحمها الله وأسكنها فسيح جناته. السيرة الدراسية درست الابتدائية في المدرسة السعودية في الرس، وكذلك السنة الأولى والثانية من الدراسة المتوسطة ثم انتقلت إلى الرياض والتحقت بالمعهد العلمي الديني كمشروع خريج دراسات شرعية (شيخ) أو دراسات عربية (نحوي) ولكننا نقدر والله يفعل ما يريد، إذ صادف أن معظم طلبة التعليم المتوسط في نجد في ذلك العام التحقوا بالمعاهد الدينية طلباً للمكافأة الشهرية (200 ريال) بسبب الفقر الشديد وضيق أبواب الرزق. فأقفرت المدارس النظامية التي ليس لها مكافآت وكان المطلوب منها تخريج طلبة للبعثات الخارجية (تحضير البعثات) أو كتبة وموظفين للإدارات الحكومية، ما جعل بعض الرجال المخلصين في جهاز الدولة يرفعون بخطورة الوضع إلى الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - فكان أن صدر قرار تعميمي إلى المعاهد العلمية الدينية بفصل جميع من التحقوا بها في ذلك العام وإعادتهم إلى المدارس النظامية في التعليم المتوسط. هكذا عدت إلى المدرسة المتوسطة في الرس مرة أخرى وفي جيبي ثلاثة رواتب هي كل ما حصلت عليه من الدراسة المبتورة في المعهد العلمي. بعد حصولي على شهادة الكفاءة عدت إلى الرياض مرة أخرى والتحقت موظفاً مدنياً في وزارة الدفاع أدقق حسابات الضباط والجنود والموظفين في قسم التأدية في الإدارة المالية نهاراً وأدرس ليلاً في مدرسة النهضة الليلية للمرحلة الثانوية. جرت العادة آنذاك أن أهل كل قرية أو مدينة صغيرة قدموا إلى الرياض كانوا يتآلفون كمجموعات صغيرة مكونة من خمسة أو ستة أفراد ويستأجرون بيتاً طينياً قديماً ويتشاركون هكذا في تكاليف الإيجار والمعيشة وفي توزيع المهمات من كنس وطبخ وغسيل. كما جرت العادة أيضاً أن أهل القصيم كانوا يفضلون السكن في حلة القصمان في البطحاء بالقرب من حراج الكويتية، وكنت أحد الذين مروا بتلك التجربة المميزة بالكفاح والصبر والطموح، والتي أثمرت - في ما بعد - وزراء وقضاة وأطباء ومهندسين ورجال دولة من كل طراز ولون. ليسمح لي شباب اليوم أن أذكر لهم شيئاً مما كان شباب ذلك الزمان (وهم في سن المراهقة) يقومون به من العمل نهاراً في مقابل أجر والدراسة ليلاً وتدبير شؤونهم اليومية من طبخ وكنس وغسيل ملابس وفوق كل ذلك توفير الجزء الأكبر من مرتباتهم المتواضعة لإرسالها إلى أسرهم في القرى والهجر والأرياف. أكملت على هذا المنوال السنتين الأولى والثانية والأشهر الثلاثة الأولى من السنة الثالثة الثانوية، ثم خيل إليّ أنني لو التحقت بالدراسة النهارية لتحسنت فرصي في الحصول على بعثة دراسية في الخارج، وهكذا فعلت. قدمت استقالتي من العمل في وزارة الدفاع والتحقت بمدرسة اليمامة الثانوية ثم ابتعثت لدراسة الطب في ألمانياالغربية (كان هناك آنذاك ألمانياشرقية وغربية). السيرة المهنية حصلت على بكالوريس الطب من جامعة هايدلبرج عام 1969-1970. عدت إلى الرياض وعملت 4 سنوات «طبيب عام» في مستشفى الملك عبدالعزيز (كان يسمى مستشفى طلال) وتزوجت ورُزقت بابنتي رشا. عدت إلى ألمانيا عام 1975 وتخصصت في الطب الباطني. رجعت عام 1980 إلى الرياض وعملت رئيساً لقسم الأمراض الباطنية في المستشفى الوطني لمدة عام. التحقت بعد ذلك بالطاقم التعليمي لكلية الطب في جامعة الملك سعود حتى منتصف عام 1406ه استقلت من العمل الحكومي وبدأت العمل الخاص في عيادتي في حي الملز حتى شهر شعبان 1427ه. حالياً أعمل في القطاع الخاص ثلاثة أيام بالأسبوع وأرتاح، أو بالأحرى أتصرف بالأيام الباقية بحسب ما تتطلبه الظروف الحياتية والاجتماعية والمعرفية. السيرة العائلية عائلياً أنا زوج سعيدٌ منذ 36 سنة، ولي من الأولاد 3 أبناء و3 بنات، كلهم خريجو دراسات عليا، ما عدا الابن الأصغر عمره 15 سنة في المرحلة المتوسطة