كان المسؤول الاريتري الذي التقيت به في الدوحة مع مجموعة من الضيوف في حفل غداء رسمي يتساءل بمرارة عن السر وراء صمت العالم وبالذات العرب ازاء تعرض بلده للعدوان الاثيوبي، ولم يكن المقام يسمح بإجابة على هذا السؤال. ولكن ربما كان صمت الجميع جواباً على المسؤول الاريتري، لإتاحة الفرصة له ليخلو الى نفسه ويبحث عن الجواب وبالتأكيد فإنه لن يجد مشقة في ذلك، خاصة انه ديبلوماسي محترف، يعيش في العالم العربي، والعربية لغته، ويدين بالاسلام بما يجعله يتحسس المشاعر العربية الاسلامية ويتفهمها. والآن وقد كادت الحرب ان تضع أوزارها، فسنحاول الإجابة على تساؤل الديبلوماسي الاريتري، بما يمكن من استسقاء الدروس التي تعين على التعامل مع المستقبل. فخلال حرب التحرير ولمدة ثلاثين عاماً والتي انتهت باستقلال اريتريا عام 1993 نظر العرب الى الثورة الاريترية كثورة جديرة بالدعم لشعب من حقه ان يحصل على حريته، خاصة ان هذا الشعب إن لم يكن عربياً فهو أقرب الشعوب الى العرب، وتربطه بهم روابط التاريخ والجغرافيا والمصالح الاستراتيجية. ولقد عشت سفيراً في دمشق في الفترة 74 - 79، وكانت آنذاك معظم قيادات الثورة الاريترية إما مقيمة في دمشق، أو لها مكاتب هناك، من منطلق تعاطف ودعم سورية لهذه الثورة، مما أتاح لي التعرف الى هذه القيادات، والإطلاع على تطلعات الشعب الاريتري والتعاطف معه في قضيته، ولا زالت هذه العلاقات قائمة مع البعض منهم من المقيمين في الخارج، مما يمكنني من متابعة التطورات في اريتريا. وكان العرب يعلقون الآمال الكبيرة على استقلال اريتريا، تعاطفاً مع هذا الشعب، وايضاً لأهمية اريتريا للأمن العربي في استقرار اقليم البحر الأحمر، وإبعاده عن التحالفات الضارة بالمصالح المشتركة لاريتريا وجيرانها العرب. ولا جدال ان التضحيات الجسام للشعب الاريتري وصموده العامل الحاسم في انتصار ثورته وحصوله على استقلاله، ولكن ايضاً يبقى الدعم العربي السياسي والمادي عاملاً من عوامل هذا الانتصار، وقد عايشت هذا ولمسته في دمشق، وخلال حياتي الديبلوماسية بعد ذلك. ولكن ماذا حدث بعد الاستقلال؟ لم يكن لثورة ضد الاحتلال ان تنجح الا إذا كانت ثورة شعب بأكمله، هذا هو شأن الثورات التحررية واريتريا ليست استثناء. والنجاح يكتمل بأن يقطف الشعب بأكمله ثمار هذا الانتصار وليس فصيلاً معيناً كما حدث في اريتريا وللأسف ايضاً في مواقع اخرى من دول العالم الثالث. فبعد الاستقلال سعت كل الفصائل في اريتريا لبدء مرحلة البناء بالمشاركة والتعاون والديموقراطية. وبعيداً عن التدخل في الشؤون الداخلية، ولكن من كوني مراقباً لشؤون اريتريا متعاطفاً مع شعبها الطيب ولتأثير استقرارها على الأمن العربي، فإني أرى ان غياب المشاركة وسيطرة حكم الفرد واضطهاد الانسان وراء جر هذا الشعب الى المهالك، وبقدر ما ينطبق هذا على اريتريا ينطبق على غيرها من الدول، التي قاد فيها حكم الفرد المطلق الى اسوأ العواقب، ودفعت الشعوب والأمم أبهظ الأثمان لمثل هذه الممارسات. لقد حصلت اريتريا على استقلالها عام 1993 وسط مناخ اقليمي داعم، خصوصاً من الدول العربية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية ومصر والسودان واليمن تلك الدول التي يشكل البحر الأحمر مجالاً حيوياً لأمنها واستقرارها. واستبشرت الدول العربية خيراً باستقلال دولة جارة أقرب ما تكون اليها، فجزء كبير من شعبها يتحدث العربية ويدين بالاسلام، وعبرت الدول العربية عن استعدادها للتعاون مع اريتريا ودعمها لتنميتها، وتحقيق المصلحة المشتركة في تحقيق الأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية. وإذا كانت السياسة الداخلية شأناً داخلياً، علينا ان نتطرق اليه بالكثير من الحذر، فإن سياستها الخارجية ذات تأثير كبير على استقرار منطقتنا العربية فسواحل اريتريا تغطي جزءاً كبيراً من شواطى البحر الاحمر الذي تطل عليه دول عربية مؤثرة، كما ان عدو العرب اسرائيل تتربص للسيطرة على هذه المنطقة. إن السودان واليمن بالذات من أكثر الدول ترابطاً بإريتريا بحكم الجغرافيا والتاريخ، والعلاقات الاجتماعية. وقد لعب هذان البلدان دوراً لا يمكن إنكاره في دعم الثورة الاريترية وكان هذا الدور من العوامل الحاسمة في استمرار الثورة ونجاحها. فالسودان يشكل البعد البشري والجغرافي لإريتريا، وكانت الدولة الداعمة لإريتريا بكل الوسائل، فاحتضنت اللاجئين اللاريتريين، وعاملتهم خير معاملة كما شكلت البعد الاستراتيجي للثورة الإريترية خلال الثلاثين عاماً، واستضافت القيادات الإريترية ووفرت لها كل سبل الاتصال بالداخل. فما الذي تلقته السودان من ثمن لكل هذا بعد انتصار الثورة؟ لقد تحولت اريتريا الى قاعدة للمتمردين ضد السودان وزودتهم بالتدريب والسلاح، وتعاونت مع الدول الاخرى المعادية للسودان ضده، وعرضت أمنه واستقرار للخطر، وحتى أثناء الحرب الأخيرة لم يسلم السودان من تأثيرها، بل لجأ مئات الآلاف اليه، فشكلوا عبئاً اقتصادىاً وأمنياً. وماذا عن اليمن؟ ان اليمن كانت احدى الدول الرئيسية الداعمة لإريتريا وثورتها بكل الوسائل المتاحة، سمعت ذلك من أكثر من شخصية اريترية اثناء الثورة. كما سمعته من اليمنيين أنفسهم. ومن الطبيعي ان تقف اليمن هذا الموقف لعوامل عدة منها العامل التاريخي والاجتماعي الذي يؤكد عمق الروابط، ولكن ايضاً للجغرافيا تأثيرها الذي يجعل أمن اليمن مرتبطاً بأمن اريتريا. ولذلك وقفت اليمن الى جانب الثورة الاريترية، فاستضافت اللاجئين الاريتريين واستضافت بعض القيادات، وقدمت الدعم السياسي وغيره لهذه الثورة وماذا كانت النتيجة؟ لقد كادت اريتريا ان تجر اليمن الى حرب ضروس حين قامت باحتلال جزر حنيش اليمنية ولولا حكمة القيادة اليمنية ورباطة جأشها وتحاشيها للصدام، وقبولها بالتحكيم، لكانت حرباً مدمرة لليمن واريتريا. ولم يكن حظ جيبوتي بأقل من ذلك من اريتريا. اما سورية فإني أشهد على تبنيها للثورة الاريترية واستضافتها لقياداتها، ولقد لمست ذلك بوضوح خلال فترة عملي كسفير لبلادي بدمشق خلال أعوام حاسمة للثورة الاريترية، وكانت القيادة السورية تحث الدول العربية على دعم هذه الثورة. وكانت سورية تتطلع ان يكون استقلال اريتريا دعماً لها في مواجهتها مع الصهيونية. فهل تحقق ذلك؟ لقد قال الرئيس الإريتري في مؤتمر الجبهة الشعبية الحاكمة والتي يرؤوسها في 12/2/1994 "إن الجبهة الشعبية لم تراهن تاريخياً على علاقاتها مع العرب، وتعتبر هذه العلاقات فاشلة من الناحية التاريخية، ولا أساس لها في تفكير الثورة الاريترية، وتطلعات الدولة الاريترية المستقلة"، وتساءل: "أين موقع الفصائل الاريترية التي راهنت على العرب" والنتيجة التي توصل اليها: "إن العلاقات مع اسرائيل هي البديل، وان مصلحة اريتريا العليا تقتضي تطويرها معها الى مجالات أوسع" وحين مرض الرئيس الاريتري لم يجد مكاناً أفضل من اسرائيل للعلاج. لقد كان جزاء العرب من حكومة اريتريا - ولا أقول شعب اريتريا - جزاء سنمار. ألا يزال سؤال المسؤول الاريتري يحتاج الى جواب؟ إننا لا زلنا نؤمن بعمق الروابط التاريخية والدينية والجغرافية التي تربط بيننا وبين اريتريا، ولا زلنا نتطلع ان يعين الله اريتريا على التغلب على محنتها، ولن يكون ذلك إلا باستيعاب الدروس وإدراك مصلحة اريتريا الحقيقية داخلياً وخارجياً. * كاتب قطري.