اتسمت الحرب الأثيوبية الاريترية بالعبثية. بيد ان هذه العبثية لا تشذ البتة عن تعريف كلاوزفيتس للحرب بأنها استمرار للسياسة بوسائل اخرى. ان لهذه العبثية "عقلانية" تحكمها، ولهذه الحرب أكثر من سبب وأن لم يكن لها ثمة مبرر. هذا ما يؤكده كتاب فتحي الضو محمد "حوار البندقية - الأجندة الخفية في الحرب الأثيوبية - الاريترية" في جمع بين الجهد التحليلي الملموس والتسجيل الحي للوقائع، مظهراً تلك السهولة التي يرهق بها دم الانسان، ومعنى ان يتأقلم الانسان مع الظروف. ينقلك الكتاب من المقدمات التاريخية للصراع الأثيوبي - الاريتري الى المواقع الأمامية في جبهات القتال بحكم وجود المؤلف كمراسل في اريتريا زمن الحرب، اذ ان اريتريا لم تعمد الى التضييق على الاعلام الا في وقت متأخر من الأزمة. تكمن القيمة الاساسية لهذا العمل في انه يعيد الاعتبار للسياسة عند تناول نزاعات القرن الافريقي. فالأطراف المتحاربة ليست مجرد قبائل تائهة في بحور من دم بسبب بضعة جيوب حدودية جدباء قاحلة، وليست مجرد بيادق تتناقلها الدول الكبرى وتحركها عن بعد. الحرب الأثيوبية - الاريترية الأولى 1961-1991 كانت أطول حرب تحررية في تاريخ افريقيا. الحرب الثانية 1998-2000 هي أكبر حرب بين بلدين من القارة. حق تقرير المصير لشعب اريتريا شكل محور الحرب الأولى بين البلدين، وعنوان الأجندة المعلنة لهذه الحرب. محور الحرب الثانية أبعد ما يكون عن اجندتها المعلنة. لا يمكن ان تتولد حرب ضروس من رحم نزاع حدودي فقط لا غير، مثلما لا يمكن ان ترد اسبابها الى مؤامرة خارجية. ان الأجندة المعلنة في هذه الحرب تغيرت "بصورة مذهلة" في مجرى النزاع المسلح، وأفصحت عن "أجندة خفية". وآثر فتحي الضو في كتابه عن الحرب تعقب "الأجندة الخفية" من الجذور. قام برصد أساسيات هذه "الأجندة"، الأثيوبية بالدرجة الأولى، انطلاقاً من الجانب الاريتري. هذه الأجندة لم تنجز الحرب أهدافها إلا بصفة جزئية. وعليه فإنها أجندة لحرب لم تنته بعد. صراع بين شخصيتين كيانيتين اريتريا الممتدة على طول البحر الأحمر، والمتفاعلة مع الجوار العربي والاسلامي، والمتعددة اثنياً ودينياً، هي كيان غير الهضبة الأثيوبية، الدولة الحبيسة التي اعتادت تعريف نفسها كجزيرة مسيحية في محيط اسلامي، مع العلم ان أكثرية مواطني أثيوبيا من المسلمين. ان الصراع بين البلدين هو صراع بين شخصيتين كيانيتين مختلفتين نوعاً. لقد صقلت الهوية الوطنية الاريترية بغريزة البقاء في وجه سياسة الأرض المحروقة التي توارثتها أنظمة الحكم المتعاقبة على أثيوبيا. لم تحد أثيوبيا عن "الثوابت الامبراطورية" سواء اعتلى العرش "ملك الملوك" هيلاسيلاسي، أو قائد الثورة الاشتراكية مانغستو هايلي ميريام، أو متبج بوعود ديموقراطية مثل مليس زيناوي، رئيس الوزراء الحالي. هذه الثوابت هي نفسها سواء كانت قومية الأمهرا في الحكم أو قومية التيغراي، كما هو الحال اليوم. الاتكاء على الخارج أول هذه الثوابت. يشير المؤلف الى "ان التطلع نحو الخارج هو في حقيقته نهج ثابت لدى كل الحكام الذين تعاقبوا على حكم أثيوبيا، فدائماً ما يتم تغليب هذا العنصر في مواجهة تناقضات الشعوب الأثيوبية ص68. ان عدم الاستقرار هو السمة الملازمة لسلطة الاقلية القومية. أما المجاعة فهي احدى آليات السلطة الأثيوبية الحاكمة على اختلاف طبيعتها. حكم التيغراي يعود الصراع الراهن بين الجبهتين الحاكمتين في أديس ابابا وأسمرا الى الماضي التحالفي بين الجبهتين ضد حكم مانغستو، اذ قام هذا التحالف على قاعدة الاختلاف البين بين المقصد الوطني التحرري للجبهة الشعبية لتحرير اريتريا، والمقصد العرقي الاقليمي للجبهة الشعبية لتحرير التيغراي الوياني الذي كان يشكل خطراً على الهوية الوطنية الاريترية المتعددة قومياً، نظراً لعلاقة القربى الاثنية بين التيغراي والتيغرينيا كبرى قوميات اريتريا. منطقياً يفترض بالتداخل العرقي ان يكون حافزاً على تقريب المسافات، بيد ان مآسي افريقيا تعلمنا ان هذا التداخل من مسببات الحروب الدامية نظراً لهزالة الدولة الوطنية وضعف مفهوم الجنسية. على رغم تأرجح العلاقة بين الطرفين، الاريتري والتيغراني، الا انها استمرت علاقة هيمنة اريترية تعوض على المستوى الأثيوبي عن عدم قيام الوحدة الوطنية المطلوبة على الساحة الاريترية، وتعوض بالنسبة للتيغراي عن تلاشي الخيارات التحالفية على الساحة الأثيوبية. ضيقت هذه العلاقة الخناق على نظام مانغستو المحاصر من كل الجبهات اريتريا، أوغادين، التيغراي، الأرومو، العفر والمفتقد لحلفائه نهاية الثمانينات بعد اختفاء حلف عدن وانهيار الاتحاد السوفياتي. دخل مقاتلو التيغراي وحلفاؤهم العاصمة الأثيوبية في 25 ايار مايو 1991 بمؤازرة قوات اريترية ظلت ترابط في شوارع أديس أبابا مدة ثلاث سنوات جسدت خلالها علاقة المساعدة المتبادلة. التيغراي ساعدوا الاريتريين على نيل الاستقلال من دون عقبات، والاريتريون ساعدوا التيغراي على تثبيت سلطتهم الأقلوية. نالت اريتريا استقلالها سنة 1993 بموجب استفتاء عام وقبلت عضواً في هيئة الأممالمتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية. لم يكن سهلاً على النظام الأريتري ان يتحول من منطق الثورة الى منطق الدولة، فظل يتجاهل مبدأ فصل السلطات، وبقيت ديموقراطيته معيارية، تقوم على "التوأمة" بين الحكومة والجبهة وتربط قيام التعددية السياسية بانتهاء الفترة الانتقالية. على رغم ان اسم الجبهة الحاكمة عدل وأصبح "الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة" الا ان صنع القرار في اريتريا ظل محصوراً بالرئيس أسياس افورقي ومعاونيه. أما تجربة أثيوبيا ما بعد مانغستو فهي تجربة استيلاء انفصاليين على مقاليد الحكم في العاصمة المركزية التي كانوا يحاربون للاستقلال عنها. بعد اسقاطهم حكم قومية الأمهرا لم يعد للتيغراي مصلحة في الانفصال. استخدم قادة التيغراي موقعهم في رأس السلطة لتنمية اقليمهم المتاخم لاريتريا من دون سائر الاقاليم، واستخدموا خيار الانفصال فحولوه الى خيار متاح بموجب الدستور الذي يمنح حق تقرير المصير لكل شعب في أثيوبيا الفيدرالية. يقوم النظام الأثيوبي الحالي على اساس واجهة متعددة إثينا في الشكل، تسمى "الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب أثيوبيا" الاهودق، وتدور في فلك "الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي" خصوصاً بعد خروج "جبهة تحرير الأرومو" من الحكم وحملها السلاح من جديد الأرومو أكبر قوميات أثيوبيا - 40 في المئة من مجموع السكان، يليها الأمهرا، ثم التيغراي - أقل من 10 في المئة. الأجندة الأثيوبية استفادت الحكومة الأثيوبية من عدم جهوزية القوات المسلحة الاريترية لأي عمل هجومي بعد ان سرّحت القيادة ثلثيها، واستدعت الثلث الآخر لحملة وطنية للتنمية. بدأ النزيف الدموي من بادمي في السادس من ايار 1998، وتطور الى حرب بعد ان قام الاريتريون بطرد الأثيوبيين منها، ما اعتبرته أديس ابابا غزواً لأراضيها، مستفيدة من عدم امتلاك الوسطاء الدوليين وعلى رأسهم سوزان رايس مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية الخلفية الكاملة للنزاع، ناهيك عن التحيز لأثيوبيا. وفيما دعت اريتريا الى جعل المنطقة موضع النزاع منطقة منزوعة السلاح واللجوء الى التحكيم بواسطة طرف ثالث، أعلنت أثيوبيا رفضها التفاوض مع من "يحتل" جزءاً من أراضيها، وبعد ان امتدت الاشتباكات على طول الحدود، صعدت أثيوبيا جوياً وقصفت مطار أسمرا في 5 حزيران يونيو 1998، وردت اسمرا بقصف مطار ميكلي عاصمة اقليم التيغراي، اذ تجنبت قصف أديس ابابا أملاً منها في استفراد التيغراي وتأليب بقية القوم عليهم. بيد أن رفض اسمرا للمبادرة الأميركية - الرواندية المتماثلة مع الدعاوى الأثيوبية أدى الى ابراز اريتريا كدولة معتدية ورافضة لمبادرات السلام. يبرز فتحي الضو منطق المعالجة الأميركية للأزمة: اريتريا لا تعاني من أزمات سياسية ولا حدة فيها بين الحكومة والشعب والحكم فيها قوي خلافاً لما هو الوضع في أثيوبيا، اذاً فالتنازلات مطلوبة من اريتريا كي تخرج أثيوبيا من مأزقها الداخلي. مثلما تجاهل حكام القرن الافريقي ثقافة السلام، تجاهل الاميركيون والوسطاء الدوليون ثقافة المنطقة. بدت الجولة الأولى مطمئنة للجانب الاريتري، وعبر أفورقي عن ذلك بقوله: "لن ننسحب من بادمي حتى وان لم تشرق الشمس" ص220. لم تصمت المدافع الا بصورة موقتة في أيلول يوليو 1998 اذ جاء الموسم الزراعي الاستثنائي للتخفيف من اعباء الحرب الاقتصادية. مكنت "الهدنة" الجانب الأثيوبي من تعزيز قدراته الهجومية والتعبوية مستفيداً من تأثر ثالوث احتواء الأزمة مجلس الأمن، الخارجية الأميركية، منظمة الوحدة الافريقية بمواقفه، وتكوّن قناعة دولية بأن اريتريا دولة مشاغبة ومزاجية صعبة المراس. اندلعت الحرب الشاملة في الجولة الثانية منتصف كانون الثاني يناير 1999 بعد سباق غير متكافئ بين أرنب الحرب وسلحفاة الجهود السلمية. شملت هذه الجولة الجبهات كلها، وأبرزت ما ادخرته أثيوبيا من قدرات، فقد تولى فريق روسي بقيادة الجنرال المتقاعد يوناكوف قيادة قوات الطيران الأثيوبي. كما رفضت أثيوبيا القرار 1227 الصادر عن مجلس الأمن، والذي يحظر بيع الأسلحة للطرفين، بحجة أنه قرار متحيز لإريتريا التي تمتلك موانئ قادرة على امدادها بالسلاح عوضت أثيوبيا عن ذلك بواسطة ميناء جيبوتي ما صعد التوتر بين اريتريا وجيبوتي. عكست الجولة الثانية تفوقاً كمياً أثيوبياً عبر عنه أسلوب "الموجات البشرية" فضلاً عن القصف الجوي الشامل. يقوم هذا الأسلوب على اندفاع آلاف الجنود في شكل موجات من دون ان يطلقوا رصاصة واحدة، ومن دون ان يعبأوا لوابل القذائف التي تحصد الآلاف منهم فيظلوا يتقدمون مسنودين بالدبابات حتى السيطرة على المواقع المعادية في خاتمة المطاف، ملتحمين بالسلاح الأبيض واللحم الحي على طول الجبهة. جاءت الجولة الثالثة بعد مجاعة نيسان ابريل 2000 التي هددت حياة 8 ملايين أثيوبي ونصف مليون اريتري، فسميت الجولة حرب الهياكل البشرية. لم تشفع موافقة اريتريا على استخدام ميناء عصب لإغاثة جارتها اللدودة في تأجيل هذه الجولة يوماً واحداً، فقد قابل حكام أثيوبيا هذه البادرة بالتعنت: "لن نتخلى عن سيادتنا بسبب المجاعة". رفضوا اعتبار الحرب من أسباب المجاعة فكانت النتيجة أن تحولت المجاعة الى احد دوافع الحرب. اندلعت الجولة الثالثة كما كان متوقعاً سلفاً في 12 أيار 2000. ارادتها أثيوبيا جولة حسم تعتمد على الكثرة العددية والترسانة العسكرية، في حين وقف المجتمع الدولي ينتظر نتيجة المعركة ليحدد موقفه. كشفت هذه الحرب الأجندة الخفية الأثيوبية في مسعاها الى زعزعة الكيان الاريتري وصولاً الى اسقاط نظام "الشعبية" في اسمرا، وفرض واقع جديد على ميناء عصب وتشريد اقليم الغاش الذي يمد اريتريا بالغذاء. الانسحابات الاريترية من المناطق المتنازع عليها لم توقف القتال، حتى بعد بدء المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين في الجزائر 30/5/2000 في ظل موشحات "انتصارية" أثيوبية تمثلت في الهجوم الكبير على جبهة بوري، واقتراب المعارك من عصب، واحتلال تسني، ولم يتوقف القتال الا مع توقيع وثيقة وقف الأعمال العدوانية في العاصمة الجزائرية 18/6/2000 ما اعتبر نجاحاً كبيراً للديبلوماسية الجزائرية وللرئيس بوتفليقة الذي اعاد امكان تسوية المسألة الحدودية من طريق المفاوضات والتحكيم. بيد ان فتحي الضو يعتبر ان الصراع ما زال مرشحاً لجولة رابعة لحوار البندقية، خصوصاً ان الأجندة الخفية لم تحقق ما تصبو اليه الا جزئياً، فهي استعادت الأراضي المتنازع عليها، ومن الممكن ان تخسرها وفقاً للترسيم والتحكيم، وهي ان استطاعت فرض منطقة عازلة موقتة في داخل اريتريا محطمة عقدة الدونية عند التيغراي، الا انها عجزت في تغيير نظام الحكم في أسمرا، أو في خلق واقع جديد في عصب والدنقال. يحذر المؤلف مما يسميه تقمص أثيوبيا لحالة المنتصر أو "ايديولوجية" القوة سواء على الصعيد الداخلي أو الاقليمي، وهو يؤكد "ان الادارة الأميركية ستعمل على رمي ثقلها في أثيوبيا لمساعدتها في لعب دور الشرطي" ص 370، اذ ان الحرب حجمت الدور الاقليمي لاريتريا وجعلتها تنكفئ الى معالجة مشكلاتها الداخلية. باتت اريتريا بأمس الحاجة الى الانفتاح على المؤسسات المالية العالمية، وتجاوز خيار الاعتماد على الذات، مع كل ما يتضمنه ذلك من عواقب المديونية ومن اضعاف استقلالية القرار السياسي تخفيض عديد الجيش كشرط للمساعدات، ومعلوم ماذا تعنيه الاستقلالية بالنسبة لأسمرا. تبرز مصلحة أميركية في اسناد وظيفة اقليمية لأثيوبيا، معتمدة على العلاقات الوثيقة بين أثيوبيا واسرائيل التي ظلت تنظر على الدوام "للقرن الافريقي من خلال أثيوبيا، وتنظر لأثيوبيا من خلال اريتريا" ص50. ان العلاقة مع اسرائيل هي من اوجه الثبات في السياسية الخارجية الأثيوبية. يعتبر فتحي الضو انه على رغم كل الدعاية حول ارتباط اريتريا بها، فقد واصلت اسرائيل امداد اثيوبيا بالسلاح والطائرات مكافأة لعملية ترحيل يهود الفلاشا بيت اسرائيل والفلاشا مورا الذين تحولوا الى المسيحية من موطنهم في جوار غوندار، ومن معسكراتهم في جوار السفارة الاسرائيلية في أديس أبابا حيث يقيم 26 الفاً منهم الى "ارض الميعاد" التي قدم منها اجدادهم مع عودة ملكة سبأ من رحلتها قبل آلاف السنين! ويقلّل المؤلف من أهمية العلاقات الاريترية - الاسرائيلية، وهو على هذا الصعيد يخرج عن الهم الأساسي للكتاب في اعادة الاعتبار للسياسة عند تناول نزاعات القرن الافريقي، فيجعل تلك العلاقات استشفائية وغير سياسية، أو يأتي على ذكرها جزئياً منتقداً تضخيم ما يسميه "الجفوة المفتعلة" بين بلدان بعينها وأسمرا بسبب علاقات الأخيرة مع اسرائيل، ومقدماً التبريرات حول تمنع اريتريا عن الانضمام لجامعة الدول العربية بسبب ازدواجية هويتها، وكون الدول المزدوجة الهوية بلا ثقل في هذه الجامعة، وكون الجامعة أصلاً عديمة الفاعلية. بيد انه لا يمكن ان نتغافل عن الحضور الاسرائيلي في مسألة ارخبيل حنيش مع اليمن، ليس لأن الحكم اليمني يثير قلق اسرائيل بل لأن لاسرائيل مصلحة حيوية فيه. قد نختلف مع المؤلف في موقف من هذا القبيل، فيكون اختلافنا جزئياً مع مرجع عربي أساسي لدراسة حرب القرن الافريقي، علماً ان ما نختلف عليه لا يقتصر على مسألة الدور الاسرائيلي في اريتريا، بل هو اختلاف منهجي أشمل. لقد اهتم المؤلف في ابراز تناقضات أثيوبيا، والهوية الاثنية الاقلوية لنظامها الحاكم، في حين اهتم بابراز جوانب الصمود الاريتري في قالب نقدي حريص على الديموقراطية والدولة المؤسسة. ان المؤلف من موقعه كمراسل في اريتريا اهتم باظهار تناقضات أثيوبيا لكنه لم يعط التناقضات الاريترية ما تستحقه من معالجة مماثلة، خصوصاً وأنه الأعلم بها. صحيح ان التناقضات الاريترية "غير مأزقية"، وأن حكم أسياس افورقي قوي ومنيع بما فيه الكفاية، وأن اريتريا خاضت الحرب كدولة، ولكن هل تنعدم أهمية لحظ التناقضات في المجتمع الاريتري، بين شمال البلد وجنوبه، بين مسلميه ومسيحييه، بين العرب والتيغرنيين والعفر وغيرهم؟ يؤكد الكتاب ان تيغراي أثيوبيا كانت لهم مصلحة في الحرب كي يؤكدوا زعامتهم لبلادهم، عاكفاً على اظهار الأجندة الخفية الأثيوبية، ولكن ماذا عن الأجندة الاريترية في الصراع؟ النظام الاريتري سعى في كل نزاع مع الجوار لكي يؤكد انه ليس من هذا الجوار، وكي يحصن مناعته الداخلية. في صراعه مع اليمن بيَّن هذا النظام انه "غير عربي"، وفي صراعه مع السودان تمكن ان يبرهن انه "غير مسلم"، وفي صراعه مع أثيوبيا أعاد التأكيد انه لن يعود الى حظيرتها. لا يقل "الدافع الأمني" عند حكام أسمرا عنه عند حكام أديس أبابا، لاحظ ارتفاع موازنة الدفاع في البلدين في العامين اللذين سبقا الحرب. ينقل الكتاب عن آفورقي ما قاله امام الجالية الاريترية في واشنطن 8/4/2000: "الواقع أن الوياني قد أضحت مكروهة أكثر من مانغستو، ولو خير الشعب الأثيوبي اليوم لاختار مانغستو بدلاً من وياني، وبصرف النظر عن تصرفاته كان لدى مانغستو وطنية، كان يعرف ما يسمى أثيوبيا، وكان يؤمن بكل ما هو أثيوبي، واذا أراد توسيع حجم أثيوبيا فكان ذلك لكل أثيوبيا، ولم يكن لتوسيع وتكبير مديريته أو منطقته". ان هذه الكلمات يجب ان تحمل الجانب الاريتري على مراجعة خياراته في التعويل على تفتيت الكيانات الأخرى، بدلاً من رسم دور اقليمي يقوم على زعزعة الكيانات. واذا كانت "المعارضة الاريترية" المقيمة في الخارج قد فقدت صدقيتها مع انجرارها الى تحالف ضمني مع المعادلة الأثيوبية - السودانية، فهذا يدعونا للتفكير بمصير كل المعارضات المتشابهة التي تعاني من سياق مماثل. تقمع وتحظر من قبل النظام الحاكم فتنتقل الى الخارج، وتفقد في الخارج مناعتها وينعدم في أعمالها التمييز بين العمل ضد النظام والعمل ضد بلدها، ما يساهم في تدعيم النظام. يا لها من معادلة جهنمية تصعب امامها اخلاقية وسياسية الترجيح. والترجيح هو من عاداتنا أمام كل حدث عربي أو افريقي أو دولي. والترجيح يبرر نفسه بتأكيده لا امكان الحياد، وهو تأكيد صائب يستخدم في غير مكانه، لأنك عندما ترجح يجب ان يكون لك هامش أوسع من الخيار، ومقدار أقل من التماثل بين المتحاربين. ان هاجس التحكيم يشغل بال المؤلف أكثر من المطلوب، وان حاول المؤلف مداراة هذا الهاجس ببعض المآخذ على الجانب الاريتري. * * فتحي الضو محمد "حوار البندقية - الأجندة الخفية في الحرب الأثيوبية - الاريترية". مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2000. * كاتب لبناني.