أشبه بنص تراجيدي هي رواية الكاتب الجزائري ابراهيم سعدي "فتاوى زمن الموت" منشورات التبيين الجاحظية، الجزائر 1999. ولا ضير في ذلك طالما ان الشكل الجمالي التراجيدي يبدو الشكل الانسب لمن شاء تصوير حرب داخلية كحرب ما بين جماعات البلد الواحد، متكافئة في الشرعية او في انعدامها، ومتساوية في مسؤولية ما يجري وما ينتج عن حرب كهذه. فحيث ان الحرب من هذا النوع هي مظهر بارز من مظاهر غياب الاجماع فإنه لا يستقيم تصويرها بمثابة حرب وطنيين ضد عملاء او دعاة عدل وحرية ومساواة، من جهة، وضد جائرين ومستغلين ومستبدين، من جهة اخرى. فالتمييز بين من يعمل لمصلحة الوطن ومن يعمل ضده، او من هو على حق ومن هو على باطل، انما في هذه الحالة يكون خاضعاً لمعيار كل جماعة من الجماعات المتحاربة، ومن ثم فإنه اذا لم يشأ الكاتب الانحياز الى طائفة دون اخرى وتبني معيارها، فإن لمن الاوفق له تقديم العامل القدري على العوامل الاخرى التي يمكن ان تقترح ذاتها كتفسير وافٍ لما جرى ويجري. وعليه فإن الاستعاضة عن مقياس تمييز الحق عن الباطل في حقيقة تصادم الاقدار التي تستوي التراجيديا وفقها، هي الخيار الانسب في حالة كهذه. ويلعب العامل القدري دوراً مهماً في هذه الرواية التي تدور إبان الحوادث الدامية التي شهدتها الجزائر في غضون العقد الماضي. فثمة منذ البداية ما ينذر بوقوع بلاء لا راد له. فالشجار الذي يقع في مستهل الرواية ما بين الميكانيكي وبائع الخردة لا يكون، على ما يتضح لاحقاً، مجرد واحد من تلك الشجارات المألوفة التي تحصل في شكل يومي في الاحياء الشعبية من النمط الذي يصوّر الكاتب في روايته، وانما يكون فاتحة حملة كراهية وعنف تحصد الابرياء وغير الابرياء، ويتواطأ فيها الصديق على قتل صديقه ويفتي فيها الاخ بقتل اخيه. وفي لحظة تالية بالغة الدلالة في امر التشديد على العامل القدري، تظهر شخصية عابرة تذكرنا بشخصية العراف الذي يتفوه بتنبوءات تُنذر بسوء ما هو آت، تماماً كما في التراجيديا الاغريقية. ففي اثناء جنازة احد ابناء الحي يظهر رجل يدعى الشيخ عبود، لا يعرف الناس، بحسب قول الراوي، اذا ما كان حكيماً او مجنوناً، ليحذرهم مما يبيّت لهم القدر من ويلات: "ارى زلازل تدمركم، وحكاماً تعبدونهم.. ارى اصحاب الناي والمزمار بلا ايدٍ، والشعراء بلا ألسنة.." وسرعان ما يتحقق التنبؤ. غير ان في الرواية توتراً واضحاً بين ما يقتضيه كلّ من الشكلين الجماليين. فعلى رغم ان الكاتب يميل، من وجه، الى تصوير ما يجري في إطار تراجيدي، الاّ انه من وجه آخر، لا يبخس شروط الشكل الروائي حقها، ومن ثم فإنه لا يخفق في سوق سرد لحوادث لا تتعالى عن طبيعة الحوادث السياسية والاجتماعية في البيئة التي تجري فيها. فلا يبدو الحي الشعبي الذي تدور فيه مجريات الرواية بأقل واقعية من تلك الاحياء الشعبية التي تنتشر على نطاق المدن الكبرى ويقطنها مهاجرون وابناء مهاجرين من الريف يبقون متوزعيّ الولاء بين موطن اقامتهم المديني وموطنهم الريفيّ الاصليّ. ويبدو الراوي حريصاً على رصد التغيرات التي تحصل في الحيّ نتيجة تحولات اجتماعية وسياسية لا تعصي على منطق الدراسة والبحث. ومن خلال تلك الحكايات الجانبية التي يحفل بها السرد يُقيض لنا الاطلاع على بعض وجوه التغيرّ التي طرأت على الحيّ واهله. وعلى هذا الوجه يصوّر ما يؤول اليه الامر، بعد رحيل مريم وانقطاع المعجبين بها، وهم نمط من العشاق التقليديين كان الحيّ ألفهم، عن التردد على المكان: "وكان مجنون مريم آخر عاشق متيم عرفناه. والحقيقة ان موجة من التقوى والعفة بدأت تهب على الحي في تلك الايام. اصبح الناس يحترمون الدين، فصاروا يؤدون الصلاة ويصومون رمضان ويقضون اوقاتهم في الجامع. وقد تخلّوا عن السراويل وراحو يرتدون الجبّات البيضاء الطويلة ويضعون الشاشيات على رؤوسهم ويتركون لحاهم مرسلة. ولم تعد تسمعهم يتحدثون عن البنات وعن جمال النساء، ولكن عن الاحاديث النبوية وعن القرآن.." ولا يختلف تصويره للوعي بما هو سياسي وعام عمّا يكون عليه الحال في بيئة لا تعرف من امر السلطة السياسية سوى قوى الامن الغائبة الاثر عن كل ميدان ما خلا ميدان تعقّب المعارضين السياسيين. فالسياسة بالنسبة لابناء حيّ كهذا تتمثل في افراد ومؤسسات بعيدة مغرقة في الفساد بما يحض في النهاية على البحث عن قيادة سياسية قريبة وصادقة تتضلع بمهمة الخلاص الاخلاقي والاجتماعي ولا سيما حيث تكثر الموبقات الاجتماعية والرذائل وتنعدم اية خدمات اجتماعية. وعلى هذا فإنه لمن السهل إناطة امر القيادة المأمولة الى من يظهرون درجة عالية من السوية والاستقامة الاخلاقيين ومن يستمدون معاييرهم من الشريعة الدينية. ولا تقتصر القيادة المخلصة، على ما يخبرنا الراوي، على اولئك الذين يشبّون على روح التقوى والورع، امثال شقيقه، وانما، وهذا هو الاخطر، تتجاوزهم الى اولئك الذين تحوّلوا الى السبيل القويم بعدما كانوا محض شذاذ آفاق يعيثون في الارض فساداً. فهؤلاء ما ان يبصروا نور اليقين ويثوبوا الى طريق الرشد بما يخولهم اكتساب الاحترام الذي لم يحظوا به من قبل، حتى تراهم يقدمون انفسهم بإعتبارهم المؤهلين دون غيرهم الى إنقاذ الآخرين اسوة بإنقاذهم لأنفسهم. غير ان سياسة كالتي يتقدم بها هؤلاء، خلاصيّة ومتعالية على شروط العالم، لا تنجلي عن الغاية المرجوة، وانما ما لا يقل على حرب شاملة على المجتمع والدولة يكون فيها العنف سيد الموقف. بيد ان العنف الذي يطبق على الحيّ في النهاية ويكاد يودي بحياة الجميع، لا يكون عاملاً دخيلاً على ما يتضح من سياق الرواية. ولعل هذا ايضاً من دلائل التمسك بسرد روائي ممعن في تصوير حياة شريحة اجتماعية بعينها. فعلى رغم ان الرواية لا تني تحيلنا الى "موجة التطرّف" التي هبّت على الحيّ كدليل على التحول الجذريّ الذي طرأ فجعل العنف سيداً، الاّ ان في مجريات الرواية ما يشي بأن العنف هو احد مظاهر الحياة المألوفة في الحيّ من قبل حدوث التحوّل المعنيّ. فالشجار والعراك لهما من الامور التي تحدث على نحو يوميّ، بل ان ثمة ما يوحي بأن حادثة كحادثة تواطؤ الاخ لقتل اخيه لم تبرز فحسب مع شيوع "موجة التطرّف"، وما اعقبها من إرهاب، وانما لم تكن بعيدة عن بيئة اجتماعية كهذه. ففي قصة اخرى من القصص الجانبية التي ترد في سياق الرواية، تكون هناك اكثر من علامة على ان الاخ قد يكون متورطاً في قتل اخيه. حتى لو كان الامر محض اشاعة من اشاعات ابناء الحيّ، فإن المخيلة التي لا تستبعد حصول امر كهذه، تحوي ما ينبىء بامكان وقوعه فعلاً. وحري بالتذكير، ان هذه المخيلة هي نفسها التي تنبذ السياسة بمفاهيمها المعهودة، وتستعيض عنها ما يشبه عملية تطهير ذاتيّ جمعي، ما يجيز عنفاً شاملاً من ذاك الذي يغرق فيه الحيّ. وعلى هذا فإن العنف السياسي لا يكون سوى تحقق مخيلة العنف الاجتماعي التي ترهص لحرب شاملة. هذا ما يبدو ان الرواية تقوله، وهو بالتالي ما يسوّغ مزاوجة شكلين جماليين، الرواية والتراجيديا، دأب المعلقون على الزعم بأن ولادة الاول هي ايذان بموت الآخر. * كاتب فلسطيني مقيم في لندن