نعتقد أحياناً أن كلامنا بالمجّان وأنه غير قابل للبيع، ولكننا في الواقع نبيع كلامنا وله ثمن، وهناك كلام لا يمكن أن نقدّره بكنوز الدنيا كلها ولا يمكن أن نتخيّله أو نستشعره أو حتى لا نصدّقه، فقد اختار الله أن يكلّم نبيه موسى عليه السلام من بين البشر فهو كلام من نوع آخر (وكلّم الله موسى تكلميا)، أما حسابات البشر فهي مقامات واعتبارات ومحادثات ونصائح ومعاتبات ومحبّة، وخصام، وأكاذيب، وتمثيل وحفظ أدوار ومسرحيّات. وكل يدفع الثمن حسب مكانته ومصلحته ومحبّته وصدقه، وهي حروف ومشاعر وفي النهاية يحكمها الضمير إن كان ما زال حيّا أو مات ودفن في مقبرة المنافقين. وقد وصف زهير ابن أبي سلمى اللسان: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم الذي نراه اللسان فقط، ولكن ماذا يخفي هذا اللسان؟! فمن اتقى الله حرّكه فيما يرضيه، ومن باعه بثمن رخيص اشترى بحروفه أو بدراهمه ألوان الكذب وساحات النفاق ومسلسلات المجاملات، وكم خسرنا بطيبتنا أو بصدقنا مع أنفسنا أناساً كنا نعتقد أنهم أقرب الناس إلينا عندما كنا في أوج حياتنا ورخاء معيشتنا، وحين تغيرت الصورة تبدّلت الأحوال وتلاشت من حولك الأصوات تدريجياً أو حين يكتفون منك ولم تعد لهم حاجة منك تصير فعلاً ماضياً يجوز حذف الفاعل فيه. والمتنبي مثال في سيرة الشعراء، فكم تكسّب بحروفه عندما مدح سيف الدولة الحمداني وعندما قلّت عطاياه تولّى عنه ومدح من يعتقد أنه مكسب له، فمدح كافور الأخشيدي في مصر ولكن حساباته كانت خاطئة فانقلب عليه هاجياً. وهذا من طبع بعض البشر، والأمثلة من الحياة كثيرة، وفي قلب كل منّا قصة مختلفة بخيرها وشرّها تروي لنا حروفاً وكلمات لها ثمن غالٍ كالذهب لا تفسده الأحقاد ولا تقلبات الأيام، أو حروف تصدأ بعد عدة أيام من الكلام وتتأثر بسوق الكذب والمجاملات، ولا بد أن نعرف من أين نشتري حروفنا وفي أي سوق نبيعها ولمن نهديها بكل حب وبدون مقابل، وهذا قمة الرقي في المعاملات والصدق في العلاقات اليومية والشخصية ووضع الثقة في مكانها الذي تستحقه، وندع هؤلاء القلة الذين يثبتون مع الأيام رخص معادنهم، والغنيمة في الابتعاد عنهم، وسوف تصل أشعة الشمس بدونهم وفي هذه الحياة، ومع هؤلاء البشر علينا أن نتعلم في معترك الحياة أن حروفنا معادن نفيسة إذا عرفنا لمن نبيعها ومن يشتريها أو أنها معادن رخيصة لها لمعة، ولا بد أن يظهر مع مرور الوقت العيب فيها، وما علينا إلا معرفة السوق الذي تباع وتشترى فيه، وهذا اختيارنا وكل يكسب حسب ما استثمر فيه.