صدر، أخيراً، الجزء الثاني من السيرة الذاتية للروائية البريطانية الكبيرة دوريس ليسنغ تحت عنوان "المشي في الظلال". ومفاجأة هذا الجزء من السيرة الذاتية الجادة تكمن، بين أمور أخرى، في نظرة ليسنغ الى نفسها المختلفة عن نظرة القراء. فهي تدير ظهرها، بجرأة غريبة، الى تقاليد وامتيازات طبقتها، وتفضح، باستمرار، سلبيتها الساذجة أحياناً، واذعانها الجبان أحياناً. وهذا الكشف الأخاذ عن عقل المبدع نجده، أيضاً، في "تحت جلدتي"، وهو الجزء الأول من سيرتها الذاتية حيث تظهر دوريس، منذ البداية، انسانة عنيدة تخوض معركة في كل منعطف ضد نمط تربيتها وبيئتها، وتنظر الى العالم بوضوح وصرامة، لكنها تكشف، في الوقت ذاته، عن شفافية، وحنو على البشر. تبدأ قصة "المشي في الظلال" في انكلترا الكاحلة التي دمرتها الحرب. وفيها تصف الكاتبة نسيج حياتها اليومية بمزاج بعيد عن التميز، كما لو انها تصف حياة انسان آخر. نجد امرأة راغبة في ان تنظر، بعمق، الى السماوات الأولى، امرأة تعترف: "اجل، لقد حملت تلك الفكرة، اما الآن فأرى انها كانت عبثاً". وعندما أصبحت تقاليد الواقعية التي تمسكت بها في البداية غير مجدية، تخلت عنها من اجل أشكال سرد اخرى، برزت، بشكل معين، في روايتها "الدفتر الذهبي"، وبأشكال اخرى في رواياتها اللاحقة. والسنوات التي تكتب عنها ليسنغ في هذا الجزء هي سنوات الخمسينات التي تصف تجربتها باعتبارها "حياة بطيئة" تشبه "الخروج زحفاً من حفرة". وتشير الكاتبة الى انها فكرت في وضع القضايا السياسية في جزء واحد، لتوفر لمن يسأمون السياسة وهي تزدري هذا النمط من الناس امكان تخطي مثل هذه الأحداث، غير انها لم تفعل ذلك لحسن الحظ، فالسياسة تهيمن على هذه الفترة من حياتها. وما هو أكثر جاذبية في هذا الكتاب لا يكمن في تفسير سبب انتماء ليسنغ الى الحزب الشيوعي، ثم تركها الحزب، على رغم أهمية هذا الحدث، وانما في التجلي التدرجي لحياتها الداخلية التي شكلت مصدر كتاباتها الى حد كبير. وكانت دوريس ليسنغ قد ولدت العام 1919 في ايران لأب بريطاني فقد ساقه في الحرب، وأم بريطانية فقدت خطيبها. وانتقل والداها، عندما كانت في الخامسة، الى مزرعة في جنوب روديسيا. وشأن كاتبات اخريات من جنوب افريقيا، ممن لم يتخرجن من المدرسة الثانوية، مثل أوليف شراينر ونادين غورديمر، ثقفت ليسنغ نفسها ذاتياً. ويبدو ان طفولتها التعيسة كان لها تأثير حاسم في حياتها اللاحقة. ففوق هذه الطفولة كانت تحوم "غيمة سوداء داكنة مثل غاز سام". ومن الدلالة البليغة انها اشارت، أخيراً، الى ان مثل هذه الطفولة تخلق كتاب رواية، اذ اجابت على سؤال وجه لها في شأن هذه المسألة قائلة "هذا صحيح على رغم انه لم يكن واضحاً بالنسبة اليّ في ذلك الحين. بالطبع لم أكن أفكر في ان أصبح كاتبة يومئذ. كنت، طيلة الوقت، أفكر بالطريقة التي أستطيع بها الهرب". في العام 1937 انتقلت الى سالزبيري للعمل في مهن مختلفة. وفي التاسعة عشرة تزوجت فرانك ويزدوم وأنجبت طفلين وسرعان ما انجذبت هناك، بعد خيبة أمل بزواجها، وخشيتها من عواقب استمرار ذلك، الى "نادي الكتاب اليساريين"، وهم مجموعة من الشيوعيين "الذين كانوا يقرأون كل شيء بغض النظر عن جاذبيته للقراءة". وبعد فترة قصيرة من انضمامها الى النادي تزوجت غوتفريد ليسنغ، الذي كان عضواً في هذه الجماعة، وانجبت منه طفلاً. وخلال سنوات ما بعد الحرب بدأت تفقد أملها، على نحو متزايد، بالحركة الشيوعية حتى تخلت عنها تماماً العام 1954. وكانت قد عادت، العام 1949، الى لندن مع أصغر ابنائها، ومخطوطة روايتها "العشب يغني"، وهي قصة علاقة معقدة بين زوجة مزارع بيضاء وخادمتها السوداء. ومنذ ذلك الحين بدأت عملها ككاتبة محترفة. وهذه السنوات الأولى موصوفة في "تحت جلدتي" الصادر العام 1994، والذي يعد قصة مذهلة عن تكون شخصية امرأة ونشأتها العاطفية تحت أشعة الشمس الساطعة. واذا كانت حياتها الأولى في روديسيا تبدو وكأنها تتخذ شكل سرد طبيعي، وتتميز في جوهرها بالكثير من الدراما، فإن الجزء الثاني من سيرتها الذاتية يعد تحدياً أكبر بالنسبة اليها. وأعمال دوريس ليسنغ تؤرخ لعصرنا. وعلى رغم صعوبة تصنيف الكاتبة، فإن عملها مهتم، على الدوام، بالبحث عن "شيء جديد" مقابل "التكرار الكابوسي" للتاريخ. ففي روايتها الخماسية "أطفال العنف" 1951 - 1959 تتابع الروائية تاريخ مارتا كويست منذ طفولتها في روديسيا، عبر بريطانيا ما بعد الحرب، حتى نهاية تتنبأ بها الكاتبة العام 2000. وفي هذه الرواية تظهر دوريس مريدة لجورج إليوت أطلق عليها بعض النقاد لقب "جورج إليوت المعاصرة". فمنذ طفولتها وجدت مارتا كويست، بطلة "أطفال العنف"، التي يشير اسم عائلتها ذاته Quest الى البحث عن هويتها، وموقعها في العالم، وجدت نفسها في تعارض مع المجتمع الكولونيالي، ومع عائلتها أيضاً. وفي هذه الرواية تضيء الكاتبة العلاقات بين مارتا وأمها، الواقعة، كلية، في شرك الأعراف الاجتماعية. بيد ان مارتا، التي بدأت تمردها ومقاومتها منذ الرابعة عشرة من عمرها، تحمل أملاً بحياة أفضل. ولفترة طويلة ظلت مارتا تنظر الى الجنس والعائلة كتهديد لهويتها واستقلاليتها، لكنها تتزوج، في نهاية المطاف، فتؤدي دور الأم وربة البيت المخلصة. وسرعان ما يصدمها أسلوب الحياة السائد، الذي سبق لها ان احتقرته، فيساعدها حسها الداخلي بالسخط، وروحها المتمردة على التخلص من هذا المستنقع العائلي، فتنتمي الى مجموعة شيوعية، لكن أملها بالأخلاقيات الاشتراكية خاب منذ زمن. وكانت ليسنغ، شأن بطلتها، متأثرة بالجوانب الأخلاقية لانتمائها السياسي الذي كانت اهدافه مشوشة في ذهنها. وكتبت عن هذا التشوش في مقدمتها لطبعة 1972 من روايتها "الدفتر الذهبي" الصادرة العام 1962. وتشعر مارتا بأن شخصيتها مركبة من شظايا، وهي تنتظر ان تبدأ حياة حقيقية تمنع معنى لشظايا نفسها. صحيح ان تجربة حب اخرى تهزها عاطفياً وروحياً، لكن آمالها في ان تجد هويتها تخيب مرة اخرى. هكذا تصل مارتا الى طريق مسدود، ذلك انها لم تستطع ان تجد هويتها، بل ان المجتمع نفسه تفسخ وفقد هويته. ولكي تفتح الكاتبة كوة في هذا النفق المظلم تعلق آمالها على "توارد الخواطر"، الذي تعتقد بأنه يمكن ان يساعد الناس في ان "يخترقوا بعضهم بعضاً" فيحققون "فهماً مشتركاً". هكذا يجري ادراك الحلم بالوحدة بين الفردي والاجتماعي في شكل ملتبس في اليوتوبيا. وهذا هو الموضوع الذي نجد تنويعاتها في روايات اخرى للكاتبة. كانت فترة أواسط الخمسينات، بالنسبة الى دوريس ليسنغ، فترة ريبة واضطراب داخلي انعكست في روايتها التراجيدية "التراجع الى البراءة" 1956، وهي رواية ألقت بظلالها على العديد من كتاباتها اللاحقة، اذ نجد هذا المزاج بصورة واضحة وجريئة في روايتها "الدفتر الذهبي" المثقلة باليأس والارتباك، والتي عبرت عن وجهات نظر نموذجية تبناها كثير من المثقفين البريطانيين آنذاك الستينات، وفي سنوات لاحقة أيضاً. ففي هذه الرواية يترافق الشك والحيرة مع البحث اليائس عن المثل، وهو ما منح الرواية طابعها التراجيدي المميز. وتلفت الانتباه في "الدفتر الذهبي" حاجة بطلة الرواية أنا وولف الى تقسيم حياتها الى "دفاتر ملونة" تعكس تلاوين تجربتها كامرأة. فالدفتر الأزرق مليء بوجع الحب الفاشل والمجابهات غير المتكافئة مع الرجال المتبجحين، والدفتر الأحمر يصف الوعد الأول وخيبة الأمل من السياسات الماركسية، والدفتر الأسود يسرد التجربة المبكرة في افريقيا حيث التوتر بين السود والبيض، فيما يعكس الدفتر الأصفر تجربتها كإمرأة كاتبة. واعتبر النقاد "الدفتر الذهبي" أفضل كتبها، بينما اعتبرتها الحركة النسائية معلماً مهماً وبارزاً. وفيها تعالج، في كل دفتر، التجربة من زاوية مختلفة عبر السرد الروائي، والمحاكاة الساخرة، والتوثيق السياسي، والتسجيل الواقعي للأحداث. وهي طريقة تعكس احساسها بالتشظي. اما روايات ليسنغ اللاحقة وبينها "ايجاز من اجل الهبوط الى الجحيم" 1971، و"ذكريات باق على قيد الحياة" - 1975 فتأتي في اطار ما يسمى بپ"رواية الفضاء الداخلي" التي تكشف عن انهيار الفرد العقلي وانهيار المجتمع. وتؤشر مجموعة الروايات التي كتبت في الفترة من 1979 حتى 1983 الى انقطاع ليسنغ الكامل عن الواقعية التقليدية، ففيها تصف الأحداث الملحمية والأسطورية في عالم روائي بحرية ابتكار مذهلة. ومن بين روايات ليسنغ الأخرى "الارهابي الطيب" 1985 وهي حول مجموعة من متطرفي السياسة من الطبقة الوسطى، و"الطفل الخامس" 1988، وهي قصة كابوسية حول تأثير طفل قبيح وعنيف في زوجين عاديين. كما أصدرت الكاتبة العام 1992، مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان "مشهد لندن". وكتبت ليسنغ مجموعة من الأعمال الروائية وغير الروائية كشفت عن اهتمامها بالفكر الصوفي، وهو ما وصلت اليه أنّا وولف في نهاية "الدفتر الذهبي" وتطور، في ما بعد، من خلال اهتمامها بالقضايا الروحية. تضاف الى ذلك رواياتها العلمية، والمواضيع الأخرى التي تعكس اهتمامها بالقضايا السياسية، ومصائر النساء، والخوف من الكارثة التكنولوجية. اما آخر روايات ليسنغ، وهي "الحب ثانية" فقد صدرت العام الماضي، وهي تصور الوقوع في الحب عندما يكون المرء كبير السن، وعندما لا تكون هناك منفعة بيولوجية محتملة. وفي هذه الرواية نجد الفن يقلد الحياة، فالموضوع هو الحب، وما يلازمه هو الألم. والفرق الأساسي بين سيرتها الذاتية وهذه الرواية هو الفرق بين الشباب والشيخوخة. و"الحب ثانية" تعكس التحدي بأسلوب مفعم بالحميمية والحيوية، وتفجر اليقينيات المألوفة، وتكشف عن الطبيعة المتشظية للحياة والحب. وتسعى الكاتبة هنا الى تسجيل الحقيقة التي تجربها، وتظهر لنا فوضى وتشوش الحياة من خلال مرآة المبدع. ومن بين خصائص رواية ليسنغ انها ذات صلة عميقة بالسيرة الذاتية، فالكثير منها منبثق من تجارب حياتها، خصوصاً في افريقيا، اذ اعتمدت على ذكريات طفولتها، وانغمارها الجدي في القضايا السياسية، والاهتمامات الاجتماعية، واضاءتها لموضوع تصادم الثقافات، والمظالم العنصرية، والتناقضات في اطار شخصية الفرد، والصراع بين ضمير الفرد ومصلحة المجتمع. تعالج ليسنغ طائفة واسعة من الأفكار والتجارب. وهي منشغلة، على الدوام، بعالم الراهن، ذلك انها لا تعالج تلك القضايا المثارة في الفترة التي تكتب فيها فحسب، وانما، أيضاً، القضايا التي لا بد من الجدال فيها، وهي قضايا لا يبدو المجتمع الذي تكتب له مستعداً تماماً لمواجهتها. ففي أوائل الخمسينات كشفت عن لغة العنصرية في "العشب يغني". وفي أوائل الستينات كشفت عن قضايا كثيرة تمتد من المواقف النسوية الى الانهيارات العقلية في "الدفتر الذهبي". وفي السبعينات كتبت عن أهمية التكيف مع الفضاء الداخلي في "ايجاز من اجل الهبوط الى الجحيم" و"ذكريات باق على قيد الحياة". وفي الثمانينات عالجت الجوانب المعقدة لموضوع الارهاب في "الارهابي الطيب". ولا تكتب ليسنغ النمط ذاته في الرواية، فهي دائمة التجريب، وتمتد أساليبها من السرد التاريخي، الى الأساليب المركبة، وأسلوب الرواية العلمية، فضلاً عن اسلوب الرواية الواقعية. وفي كل ذلك تجسد وعيها بغنى وتعقيد اللغة. وتتجلى قدرة ليسنغ الابداعية، بين أمور اخرى، في تصوير لحظات الأزمات. ففي "الدفتر الذهبي" تصور أنّا ومولي وهما تدركان خواء الرطانة السياسية المسلم بها جدلاً في السابق. وتكشف عن الكيفية التي تؤثر بها الولاءات السياسية، أو الاعلام، أو أعراف الفئة الاجتماعية التي ننتمي اليها، على الكلمات وعلاقاتها. فهي تضع، ببراعة، لغات مختلفة في مواقف مختلفة تجعلنا نكتشف فروقها بوضوح، ونصغي الى روح الجدال، ونستخلص الخبرة بأنفسنا… دوريس ليسنغ أحدى أعظم مستكشفات العالم المعاصر ومتحدياته!