حتى مطلع الثمانينات بدا عهد الرواية السيكولوجية في بريطانيا كأنه انقضى الى غير رجعة. فالتركيز على الدوافع والحوافز النفسية كسبيل لبناء الشخصية الروائية أو لتفسير أزماتها وسلوكها لم يعد وارداً في سياق ثقافة تنزع منذ الانقلاب الذي شهدته الحياة الاجتماعية والمناهج المعرفية والعلمية في عقدي الستينات والسبعينات الى الكف عن التعامل مع الفرد كموضوع للدراسة، والإعلاء من شأن الذات وكأن ما يبدر عنها، أو يجري في مدار ادراكها ليس إلاّ بمثابة اعراب عن سعيها الى عقلنة العالم من حولها، وبما هي محاولة لا تقل شرعية عن أي مسعى آخر. وقد تجلت هذه الثقافة على وجهها الجمالي من خلال الانعتاق من الأطر الواقعية التي تزعم امكانية اعادة ترتيب الوقائع وفق التفكير السببي بما يجيز اكتشاف الأسباب والقوانين التي تتحكم بمجريات الواقع. فالواقع هو من التعقيد، من اختلاط العقلاني فيه باللاعقلاني، ومن التباس الغائي بالعبثي، ما يجعل محاولة تصويره على نحو هندسي دقيق ليست إلاّ محاولة عقل ساذج وغافل عن صعوبة الإحاطة بالعالم احاطة شاملة ودقيقة. لكن مع حلول عهد الثمانينات وشهود الساحة الأدبية البريطانية ولادة أصوات أدبية اتسمت أعمالها بالتنوع والاختلاف، وبما كرس "تعددية جمالية"، على حد تعبير الناقد البريطاني ديفيد لودج، صار من الممكن أن تستعيد الرواية ذات النزعة السيكولوجية موقعها الى جانب الكثير من الروايات ذات المنازع والأساليب المتضاربة والمتفاوتة ما بين التقليدية وتلك الممعنة في الشكلانية التجريبية، فضلاً عن تلك التي حاولت الجمع ما بين تقاليد واتجاهات وتقنيات مختلفة. والرواية السيكولوجية التي برع فيها الكاتب البريطاني اين مكيون منذ روايته الأولى "حديقة الإسمنت"، 1978، أفادت من شيوع هذه الليبرالية الجمالية بما سوّغ لها أحياناً اتباع نهج السرد الخيطيّ التقليدي، بضمير المتكلم أو الغائب، أو في أقل تقدير أن تتجاهل تقنيات السرد التجريبية والحديثة عموماً من دون أن تعرض نفسها للاستبعاد أو التهميش، وأن لا تتوانى، في أحيان أخرى، عن توظيف بعض هذه التقنيات، كالتقطيع المشهدي الذي يفصل النص الى فصول أو أجزاء لا رابط بينها سوى ذلك الضمنيّ أو الإيحائي، أو كتضمين استشهادات من كتب وبحوث في متن الرواية أو الحاقها به كهوامش وحواش تنير طبيعة شخوص الرواية وتوضح مجرياتها. غير أن هذه الرواية السيكولوجية وان أفادت، من فرضيات او تحليلات علم النفس إلاّ أنها لم تتعامل مع الفرد وكأنه كينونة مستقلة بذاتها ومفارقة لبيئتها، أي لما هو اجتماعي وسياسي. فإذا ما صير الى رد سلوك الفرد في سياق الرواية الى الدوافع النفسية الدفينة للشخصية الروائية، فإن الإحالة غير المباشرة الى ما هو اجتماعيّ أو ثقافي أو سياسي لا يغيب عن أفقها، حتى وان لم يتصدر موقعاً بارزاً فيها. فلئن دلّ ما يبدر عن الأطفال الذين يتركون لحال سبيلهم في رواية "حديقة الإسمنت" عن نوازع مظلمة في النفس البشرية ما انفكت تتحكم بسلوكها مهما بلغت شأناً من الحضارة، فإنها تدل على أن للاجتماعي دوره الأساسي في قمع هذه النوازع أو اتاحة السبيل لظهورها. ففي غياب أدنى أثر لعلاقات الجوار أو علاقات القرابة، أي غياب أقرباء أو جيران ممن كان من الممكن أن يأخذوا بأيدي الأطفال اليتامى، ما ينم على أن العالم الذي تجري فيه أحداث الرواية مما يتيح الانحدار الى سلوك بري كذلك الذي ينحدر اليه أولئك الأطفال بعد رحيل ذويهم. وإذا ما أمكن استخلاص خلاصة كهذه حول الواقع الذي تجري فيه الرواية، فليس هذا لأن الرواية تنطلق من فرضية كهذه، أو تسعى جاهدة الى بلوغها، وإنما لأن السرد في سياق حرصه على تصوير ما هو "سيكولوجيّ" النزعة في القالب شبه المألوف لحياة الطبقة الوسطى يفلح في ابراز ما هو غائب من خلال التركيز على ما هو حاضر وظاهر. صحيح أن جلّ روايات مكيون تستوي وفق ثيمة محددة، ولا سيما ثيمة الشر الفردي الظاهر الذي يدل على شرّ جمعيّ باطن، غير أن الكاتب في تركيزه على الجزئي والآني من الحوادث متوسلاً سرداً بالغ الدقة والاتزان يفلح في تحاشي الفرضيات العامة الفضفاضة حتى في أشد كتاباته افصاحاً عن موقف سياسي كما هو الأمر في رواية "الطفل في الزمن" حيث يعرض بالنقد سياسة الدولة البريطانية في ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية في ظل حكومة السيدة تاتشر. بيد أن هذا السرد الذي يصبّ اهتمامه على الآني والجزئي من الحوادث والسلوك لا يخفق في خلق شخصيات مألوفة ومقنعة في حضورها وان لم نعلم من أمر سيرة حياتها العامة الشيء الكثير. فإذ لا تمدنا رواية "راحة الغرباء" مثلاً بخلفية تاريخية واجتماعية لبطليها السائحين في مدينة البندقية، كولن وماري، فإنها لا تفشل في تقديمهما كشخصيتين مليئتين بالحياة، أو كبشر من لحم ودم. فحيث أن محور الرواية هو العنف الذكوري، الظاهر منه والكامن، فلا حاجة للرواية لأن تسوق سيرة لشخوصها إلاّ بالقدر المحدود الذي يسهم في بلورة الفكرة الرئيسية. مكيون على أية حال من الروائيين الذين لا تعرف مخيلتهم تحققاً إلاّ من خلال سبيل اخبار وصفي وتصويري لحركة الشخوص وما يعتمل في أفئدتهم أو ما يصدر عنهم. ومن ثم فإن محاولة لإنارة سلوك الشخصيات من خلال سرد تقريري يعرض لما هو عام وشامل غالباً ما يمنى بفشل واضح. وأننا لنعثر على نموذج بيّن لذلك في رواية "كلاب سود". فالسرد إذ يسعى الى أن يصوّر حالة انقلاب روحاني من خلال حادثة محددة، سرعان ما يصير فضفاضاً ومعدوم التماسك ما أن يسعى الى ادراج هذه الحادثة في سياق منطقي من الحوادث العامة التي تنتظم حياة الشخصية المعنية. وهذا ما تعاني منه أيضاً روايته الأحدث "امستردام" الفائزة بجائزة بوكر في العام الماضي وان بقدر أقل وضوحاً. وإذ تسعى الرواية الى تقصي التنازع الذي يعتمل في نفوس شخصياتها من خلال تصوير توزعهم ما بين رغباتهم وميولهم النفسية وما بين مبادئهم الأخلاقية ومواقفهم السياسية، فإنها لا تجد مناصاً من اتباع نهج سرد يقرر طبيعة الشخصية بدلاً من أن يصورها تصويراً تدريجياً. فنحن على سبيل المثال لا يمكن أن نعي حقيقة التشتت الذي يسيطر على شخصية الوزير الذي يميل الى ارتداء الملابس النسائية ما لم نُخبر أيضاً بأنه من أصحاب المواقف اليمينية والعنصرية التي تتخذ من الدعوة الى الفضيلة والمُثل الأخلاقية قناعاً. وحيث لا يتسع مجال رواية قصيرة كهذه الى سرد يبيّن على نحو تدريجي هذا التناقض فإن اللجوء الى اخبار تقريري يكون أمراً لا محيد عنه. لم يخفق مكيون في كتابة رواية سيكولوجية معاصرة رغم ما يشوب بعض أعماله من قصور وشوائب. وما روايته الأكبر والأنضج "حب يدوم"، التي نعرض لها هنا ببعض الإسهاب، إلاّ العمل الأمثل لرواية سيكولوجية معاصرة، لا تركن الى النظريات العلمية ولا تعزل الفرد عن بيئته الاجتماعية والسياسية، وتفيد في الوقت نفسه مما شهده الشكل الروائي من تحولات خلال العقود القليلة الماضية. وتتخذ رواية "حب يدوم" من ظاهرة التعقب التي تفشت في بريطانيا منذ بعض الوقت منطلقاً لأحداثها. والتعقب هو حصيلة ولع امرىء بشخصية، غالباً ما تكون شخصية معروفة، والمرجح أن تكون امرأة طالما أن أكثر المتعقِبين هم من الرجال. فيعمد المتعقب الى اقتفاء أثرها كظلها. وقد تتفاوت حالات التعقب وفقاً لتفاوت درجات الولع أو لتفاوت الحالات النفسية والعقلية للفاعلين. فبعضهم قد يكتفي بمتابعة أخبار موضوع ولعه، كجمع صورها وملاحقة تحركاتها، والبعض الآخر قد يمضي الى حد ملازمتها أينما حلّت وارتحلت، متلطياً على مقربة. على أن هناك من يذهب شوطاً أبعد من ذلك بكثير، فيحاول عقد صلة مع ضحيته ويجوز في هذه الحالة اعتبارها ضحية واقامة علاقة معها واستمالتها الى ما تزيّن نفسه له من أوهام. والمتعقِب في رواية مكيون ينتمي الى هذا الصنف الأخير، وان بفارق اضافي، فهو لا يتعقب امرأة وإنما رجلاً. ف"جِد باري" لا يكتفي بملاحقة "جو روز" بطل الرواية وراويها، وإنما يقبل على مهاتفته ومراسلته بانتظام ظناً منه أنه بذلك يستجيب لما يريده جو منه، فالمتعقِب الغافل عما حوله إلاّ في حدود ما يتوافق مع أوهامه يظن أن الضحية يشجعه على فعل ما هو مقدم عليه من غير كلل. أما حقيقة أن جو يصده على الدوام بل وأنه يطالبه من دون مواربة بأن يكفّ عن ملاحقته، فإن صاحبنا لا يأخذ الأمر إلاّ على محمل التلاعب والتمنع. وهذا السلوك إنما هو من أعراض ما يعرف بحالة "كليرامبو" حيث يقع امرؤ ضحية اعتقاد راسخ بأن امرأةً، أو رجلاً، من مرتبة اجتماعية أرقى واقعة او واقع في حبه، وأنه بدوره لا يقوم إلاّ بالتسليم بهذه الحقيقة والاستجابة الى ما تمليه. ومن المرجح ألا يكون بينه وبين هذا الرجل، أو المرأة موضوع الوهم، أدنى صلة أو معرفة. أما احتمال أن يكون "الموضوع" متزوجاً، فهذا ما لا يضير المتعقِب طالما يظن أن هذا مجرد أمر نافل لن يحول دون تحقيق مأربه في النهاية. فإذا ما أبدى الموضوع، احتجاجاً وراح يصده، فإن المريض والحالة هذه لا يعتبر الأمر أكثر من اعراب عن سلوك متناقض لا ينال من تصميمه وثبات عزمه. وبالإضافة الى المعتقدات الدينية قد تلعب دوراً أساسياً في تعزيز أوهام المصاب بمرض كهذا، كما هو الأمر عليه بالنسبة لباري، فهو يظن بأن ما يحدث إنما هو مقسوم ومقدر. هذا على الأقل ما يمكن استخلاصه من التشخيص الوارد في نهاية الرواية. ففي هذه الرواية، كما في بعض رواياته السابقة، لا يكتفي مكيون بدور الراوي المحايد، وان أفصح سرده عن حياد ودقة في التعبير لا يضاهيان، وإنما أيضاً ينزع الى التحليل في سياق ابتكاري غير مناقض للشكل الروائي. فيأتي التشخيص المشار اليه بمثابة بحث أكاديمي يستند الى مراجع اضافية في ما يتعلق بهذا السلوك المرضي، مستل من دورية بريطانية معروفة وكملحق للسرد. أما الحرص على الحاق بحث كهذا بنهاية الرواية، فليس مما يمكن عزوه الى نية أو رغبة الكاتب أن يلعب دور الطبيب، أو الخبير النفسي الذي يكشف للجمهور سرّ هذا السلوك وما قد ينجم عنه من مخاطر، وإنما هو كذلك لأمر يتعلق بطبيعة الرواية، من جهة، وبخلاصتها، من جهة أخرى. فبفضل حقيقة أن جو روز، هو رجل علم، حاصل على "دكتوراه" في الفيزياء، وكاتب متفرغ في شتى الشؤون العلمية، تتكرر في متن النص اشارات الى أبحاث ونظريات علمية حول الطبيعة الإنسانية، بما يجعل البحث الملحق يرتبط على نحو وثيق ببناء الرواية. الى ذلك فإن ما يمكن أن نخلص اليه من خلال التناقض البارز ما بين ما يتمتع به روز من معرفة علمية وما بين سلوكه حيال المتعقِب هو أن ثمة اخفاق في توظيف هذه المعرفة كوسيلة للتعامل مع مشكلة كهذه. فما أن يظهر المتعقب في حياة روز حتى يبادر هذا الأخير على الفور الى صده. وإذ يخفق في نهيه عما هو ممعن فيه فإنه يلجأ الى الشرطة. وحينما لا يقدم له هؤلاء العون المطلوب، فإنه يمضي شوطاً أبعد في هذا السبيل. فيعمد الى ابتياع سلاح غير مرخص، لن يتوانى عن استخدامه حينما تبلغ المحنة ذروتها. هذا في حين أنه كان من المتوجب أن يوظف ما يتمتع به من معرفة في سبيل حلّ هذه المشكلة من دون أن يدفعها الى ما لا تحمد عقباه. مثل هذه الخلاصة قد تسوّغ الظن بأن ما يحاوله مكيون هو احياء الثيمة الكلاسيكية القائلة بقصور العلم عن ولوج بواطن النفس الإنسانية والإحاطة بأسرارها الكثيرة. غير أن من كان على اطلاع كافٍ على كتابات مكيون القصصية، بل وكتابات الكثيرين من الروائيين البريطانيين الذين ظهرت أهم أعمالهم في عقد الثمانينات، يدرك أن في هذه الرواية تجسيداً لأحد أبرز مظاهر الميتروبول المعاصر، ولأشدها خطراً، ألا وهي "ثورة النخبة"، على ما ينعتها الباحث الأميركي الراحل كريستوفر لاش. و"ثورة النخبة" هي الانسحاب التدريجي لأفراد النخبة المختلفين في اختلاف وظائفهم وتباين اهتماماتهم، عن المدار العام، والاستعاضة عنه بمدار خاص يجمعهم ويفصلهم، في الوقت نفسه، عن بقية المجتمع. وهذا، على ما يجادل لاش، ما حدث في الولاياتالمتحدة في غضون العقدين الأخيرين. وهو أمر ينطبق الى حد كبير على بريطانيا طالما أن السياسة التي أفضت الى حدوثه في الولاياتالمتحدة مشابهة حدّ التطابق للسياسة التي هيمنت في بريطانيا الثمانينات. فإطلاق يد السوق ومحاباة قيمها، من وجه، والجنوح، من وجه آخر، الى سلطة مركزية تُخضِع أشدّ الهيئات والأطر مساساً بحاجات المجتمع، ولا سيما حاجات الطبقات الدنيا والأقليات الأثنية، لسياسة حكومية متشددة، أشاع مناخاً من اللامبالاة والعدمية بما أدى الى ظهور صدوع في الهيكل الاجتماعي البريطاني. لقد تخلت النخب، على ما يذهب لاش، عن التضلع بدورها التقليدي في البلدان الليبيرالية بأن تكون صمام الأمان أمام ما قد يتهدد القيم والأعراف التي تكفل التوازن والاستقرار، من جنوح الى اسراف وتطرف، بل وباتت هي السبّاقة الى اهمال هذه القيم والحطّ من شأنها. فما الذي يفعله جو روز حينما يوقن أن لا أمل له في الحصول على موقع في الميدان الأكاديمي سوى تبني قيم السوق؟ وهو إنما يخفق في الحصول على موقع في هذا الميدان إلاّ من القائمين على الأكاديمية وحيال سياسة تقليص موازنة الصرف العام، لم يجدوا محيداً عن الانصياع الى ما يمليه السوق من شروط. وما الذي بوسع روز أن يفعله سوى أن يذعن أيضاً لمطالب السوق ويوظف علومه وكفاءته في تأليف كتب علمية شعبية التوجه تحظى على الفور برواج يكفل لمؤلفها ثراءً سريعاً. ونحن نتعرف في مستهل الرواية على جو روز كرجل في منتصف العمر، يقطن وشريكته، كلارسيا التي هي نفسها أستاذة جامعية عاكفة على كتابة سيرة حياة الشاعر كيتس، في شقة مترفة، في مجمع سكني حديث قرب "الهايد بارك" تبلغ قيمتها نصف مليون جنيه استرلينيّ. وعليه فإنه في حياة يقوم عماد أمنها على ما توفره الشروط المادية الجيدة والعزلة الاجتماعية، لا يبدو أن ثمة متسعاً لتقبل الآخرين فيها، وبالتالي للتعامل بحكمة مع ما قد يظهرونه من غرابة أطوار وشذوذ. لعل أبلغ دليل على ذلك أن اقتراح كلاريسا بأن يدعو جو المتعقِب الى فنجان شاي ويحاول اقناعه بالحسنى انعدام جدوى ما هو ممعن فيه، يبدو اقتراحاً سخيفاً، لا بالنسبة لجو وحده وإنما بالنسبة للقارىء أيضاً. فمثل هذا الحل لا يبدو وارداً في سياق ما تصور الرواية من علاقات قائمة. وما الإخفاق في التفاهم مع المتعقِب إلاّ دلالة على الأسس الواهية التي ترسو عليها هذه العلاقات بما يجعلها أقرب الى اتفاقات تبادل تحكمها مصالح الأطراف. بل أن صلة جو نفسه بكلاريسا لا تبدو إلاّ من قبيل هذا النوع من العلاقات. فإلى أن يتطفل المتعقب على حياتهما فإنهما يبدوان وكأنهما يتمتعان بخير ما يشاءه زوج في أواسط العمر. لكن ظهور باري سرعان ما يكشف عما يكتنف حياتهما المشتركة من نواقص: انعدام الرضا والثقة وضآلة الاهتمام المتبادل. بل ان انعدام الثقة من الاستفحال بما يحمل كلاريسا على الشك بصحة ما يخبرها جو بما يبدر عن المتعقب. وكلما تعاظم تطفل هذا الأخير على حياتهما يتبيّن بأن علاقتهما أقل تماسكاً مما قد حُملنا على الظن. أما حينما يبلغ الاحباط المتعقب حداً يدفعه الى ما هو متوقع من مريض مثله، فإن علاقتهما تبدو وكأنها قد استنفدت مبررات استمرارها. لا يتخذ مكيون من شخصية المتعقِب ذريعة لتصوير ما يعتور النفس الإنسانية من شرور، أو ما يعرو النسيج الاجتماعي من تفكك. فهو لا يسوق هذه الشخصية للدلالة على ما هو معلوم على نحو مسبق، وإنما يأتي الأمر أشبه بامتحان مفاجىء. امتحان لا نعرف نتيجته في ما يتعلق بعالم بطل الرواية إلاّ بعد فشل هذا الأخير في تحاشي اللجوء الى العنف. فالإخفاق في التخلص من المتعقِب من دون الانحدار الى ما تمليه شريعة الغاب، وليس وجود المتعقِب نفسه أو شيوع ظاهرة التعقب نفسها، هو ما يكشف أو يدل على هشاشة نفس بطل الرواية وعالمه. بل ان ما هو أدلّ على هذه الهشاشة حقيقة ان الاخفاق لم يكن حصيلة اساءة تقدير وتصرف من قبل الفرد وإنما كان أمراً محتوماً في ظل ما يحكم واقعه من شروط. هشاشة النفسي وانحدار الاجتماعي، أو انعدام الحوائل الاجتماعية التي تحول دون اللجوء الى العنف، ليسا العيبين الوحيدين اللذين تحيلنا اليهما هذه الرواية، وإنما أيضاً هشاشة المادي أو الجسماني. إذ ليس من المصادفة أن الرواية تبدأ بمشهد وقوع رجل من علو شاهق بينما يحاول انزال منطاد فقد راكبه، وهو طفل في العاشرة من العمر أو نحوه، السيطرة على قياده. والتصوير الدقيق والمريع لما يلحق بجسد الرجل من تضعضع وتشوه من جراء ارتطامه بالأرض لا يظهر من قبيل حرص الكاتب على نقل ما حدث نقلاً حرفياً، وإنما يبدو وكأنه محاولة لإظهار المفارقة الكامنة ما بين الاعتداد بالنفس الذي يظهره الضحية في الإقبال على معالجة الموقف وضآلة المناعة التي يتمتع بها الجسم الإنساني في مواجهة حوادث الطبيعة ومزالقها. ان الجسد مُعرّض للهلاك في أبعد الظروف التي قد تخطر على البال، وان الحصانة التي نتمتع بها أضعف مما نظن ونزعم، ليست أطروحة طارئة على أدب مكيون وإنما هي من المحاور الأساسية لجلّ رواياته، ففيها تظهر هشاشة الجسم الإنساني وكأنها دليل دامغ على هشاشة أبعاد الوجود الإنساني الأخرى. وعليه فإن الأمن والاستقرار اللذين نفرط في الاطمئنان الى استتبابهما قد لا يكونان أكثر من مظهر لحالة طارئة قد تزول في أية لحظة. وإذا ما كان الأمر باعثاً على التشاؤم والعدمية، فإنه في هذه الرواية يكون حافزاً على التقارب والمصالحة. فالنهاية الفاجعة لذلك الرجل تتحول الى مناسبة لاجتماع أفراد مختلفين ما كانوا من الممكن أن يلتفوا حول بعضهم البعض في أية مناسبة أخرى. والأهم من ذلك، أن يعيشوا لحظة مكاشفة ومواجهة صريحتين. والرواية إذ تسلك هذا المسلك، فإنها تنحو الى الخلوص الى أنه إذا كانت الشرور الناجمة عن الانجرار خلف الأهواء والمصالح الذاتية من دون اعارة الآخرين أدنى اهتمام هو ما يؤدي الى الفرقة والتشتت، فإن الشرور التي يتعرض لها الناس في حوادث وظروف ليست من صنيعهم، ولا تقع في مدار اراداتهم، كفيلة بأن تنبههم الى هشاشة وجودهم، وبما قد يُفضي الى التئام شملهم. وأي نهاية أكمل لرواية تركز اهتمامها على نوازع النفس وأهوائها في سياق ما يحيط بها ويؤثر فيها من نهاية تنبه الى هشاشة الوجود الإنساني وقابليته للفناء.