يحتفل لبنان وشعبه المقاوم في هذه الأيام بانتصار مشرف، فاسرائيل بعد احتلال دام أكثر من اثنتين وعشرين سنة تجبر على ترك أرض هذا الوطن الصغير بمساحته والكبير بتضحياته وصمود ابنائه مخلفة ذيول الخيبة والاحباط لسياستها المتسلطة والعدوانية، ومشاركة فئة قليلة من اللبنانيين الذين تعاملوا معها ضحايا هزيمتها وسوء تقديرهم لعواقب الأمور وخضوعهم في بعض الأحيان لابتزاز والتهديد وظروف الضائقة الاقتصادية المتفاقمة. فما هو وضع هذه الفئة وما هي المسؤولية القانونية المترتبة على تصرفاتهم والتي يتحملون وزرها في مثل هذه الأحوال؟ لا شك أن مختلف تشريعات العالم تعاقب على الأخلال بأمن الدولة الداخلي والخارجي من منطلق الحفاظ على سيادتها واستقلالها واستمرارها واستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، وأشد الجرائم خطورة في هذا النطاق تتعلق بأفعال الخيانة والتجسس لصالح العدو وهي من الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي. وتتمثل بصور متعددة أبرزها في جرائم الخيانة حمل السلاح في صفوف العدو ضد الدولة اللبنانية، دس الدسائس لدى دولة اجنبية أو الاتصال بها لدفعها الى مباشرة العدوان على لبنان، أو دسّ الدسائس لدى العدو لمعاونته على فوز قواته، وأبرزها في جرائم التجسس سرقة الأسرار المتعلقة بسلامة الدولة وإبلاغ أو إفشاء تلك الأسرار. ولسنا هنا في مجال الخوض للبحث في عناصر التمييز بين هاتين الزمرتين من الجرائم لأن الوصف القانوني لأركانها يتدرج بالنسبة للمتعاملين مع المحتل الاسرائيلي في اطار جرائم الخيانة، خصوصاً ان التشريع الجزائي اللبناني ميّز بينهما بصورة دقيقة وتفصيلية في المواد 273 الى 284 من قانون العقوبات. واذا كنا في صدد اعتبارات طغت على الأحداث اللبنانية وتفاعلاتها، فإنه يمكن بين المنطلقات ذاتها ان يعتد بها في معالجة أية مسألة ترتبت على الاحتلال الاسرائيلي وهزيمته في لبنان، وأكثرها أهمية وخطورة التعامل مع العدو المحتل بشكل مباشر أو غير مباشر والتي تخضع للأحكام والمؤثرات الآتية: أولاً: احكام النصوص الجزائية: تجرّم أفعال الخيانة بمختلف صورها وتقرر بشأنها أقصى العقوبات، فكل لبناني حمل السلاح على لبنان في صفوف العدو يعاقب بالاعدام، كما ان كل لبناني، وان لم ينتم الى جيش معادٍ أقدم في زمن الحرب على أعمال عدوان ضدّ لبنان يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكل لبناني تجند بأي صفة كانت في جيش معادٍ ولم ينفصل عنه قبل أي عمل عدواني ضد لبنان يعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة وإن يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية المادة 273 عقوبات. كما أن كل لبناني دسّ الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها الى مباشرة العدوان أو ليوفر لها الوسائل الى ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة، وإذا أفضى فعله الى نتيجة يعاقب بالاعدام م 274 عقوبات، وكل لبناني دسّ الدسائس لدى العدوّ أو اتصل به ليعاونه بأي وجه كان على فوز قواته يعاقب بالاعدام م 275 عقوبات. ومن الملاحظ ان التميز المرن لهذه النصوص يقضي باعتبار حمل السلاح في صفوف العدو يتحقق به الركن المادي للجريمة ولو لم يشترك الفاعل في القتال وسواء انتسب الى صفوف ذلك الجيش أو الى احدى التنظيمات التابعة له أو المشرف عليها، وهذا ما ينطبق على ميليشيات جيش لبنان الجنوبي، أضافة الى ان الجريمة تتوافر بمدلول النص سواء ارتكبت ضد لبنان أو أية دولة أخرى ترتبط معه بمعاهدة تحالف أو وثيقة دولية تقوم مقامها م 279 عقوبات، والجاني يفترض ان يكون لبنانياً، وينزل منزلة اللبنانيين الأجانب الذين لهم في لبنان محل اقامة أو سكن فعلي م 280 عقوبات. وقد تثار مسألة اعتبار اسرائيل كدولة، خصوصاً ان لبنان لم يعترف بكيانها بعد، كما تثار مشكلة الهدنة بين المتحاربين فهل تنهي حال الحرب بشكل دائم؟ في ما يتعلق بالموضوع الأول ليس من الضروري ان يقوم النزاع بين الدول، اضافة الى ان المجتمع الدولي يقر بهذا الواقع بصرف النظر عن الأساس الذي يستند اليه، أما بشأن اتفاق الهدنة فهو وضع موقت قد يؤدي الى انهاء حال الحرب ولكنه بحد ذاته لا يعتبر انهاءً لها، ولذلك يبقى لبنان في مثل هذه الأوضاع في حال حرب مع اسرائيل، ولهذا الواقع يجب ان يخضع تطبيق النصوص الجزائية المتعلقة بجرائم الخيانة. ثانياً: المؤثرات والظروف الاستثنائية: وتتمثل بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الضاغطة في ظل الاحتلال والتي دفعت بالبعض الى السير في طريق الانحراف، ومثل هذه الأوضاع لا يشكل مبرراً للاعفاء من المسؤولية. إلا إذا انتفت عند الانسان حرية الارادة والاختيار، لأن الاكراه يعتبر من موانع المسؤولية في التشريع الجزائي ويفضي الى امتناعها، فهل مثل هذه المبررات تتوافر بحق المتعاملين مع العدو؟ لا يمكن من حيث المبدأ القبول بفكرة تبرير مسؤولية هؤلاء لأن الدوافع لا تنفي قيام الجريمة وبالتالي تحمل نتائجها، اضافة الى توافر خيارات كان يمكن اللجوء اليها من دون التورط في خيانة الوطن وخدمة العدو واشعال الفتن لتحقيق اهدافه وتشويه صورة النضال التي تمخضت عن ولادة مجد رائع لهذه الأمة في تاريخها الحديث. ولكن، على رغم قانونية هذا المبدأ فإنه يجب الأخذ بالاعتبار الحالات الفردية الخاصة وعوامل القهر والاكراه المادي أو المعنوي التي يمكن أن تؤثر على ارادة البعض فتجعلها منتفية أو تلغيها الى حد بعيد وبالتالي تؤدي الى تخفيف مقدار المسؤولية الجزائية بحقهم، وهذا الأمر يجب ان يخضع لدراسة كل حال على حدة ولا يجوز تعميمه لأن الضغوط التي يتعرض لها الأفراد ليست على مستوى واحد من التأثير، والدافع نفسه قد يؤثر على ارادة فرد ولا يؤثر على ارادة فرد آخر، لذلك يكون من المنطقي ان تبحث الحالات بشكل فردي حتى يتم سيادة حكم القانون والعدالة. ثالثاً: المؤثرات السياسية ومصالح الوطن العليا: وطبيعة هذه المؤثرات تكمن في غاياتها وأهدافها العامة فهي ليست فردية على الاطلاق وان كانت تحقق نفعاً على صعيد المصالح الفردية، فهي في بعض الاحيان تخضع الى توافق وتسويات مرنة تبقى في الاطار القانوني، ولكن ضمن الظروف المخفقة حتى لا تجر ذيولها القائمة الى واجهة المستقبل، أو يكون من مصلحة الوطن العليا اسدال الستار على أحداث دامية لبدء مرحلة جديدة في بنائه بمنأى عن سلبيات تلك الأحداث وتفاعلاتها، وضمن النظم القانونية السائدة كحالات العفو العام حيث لجأ المشّرع اليها أكثر من مرة كقانون العفو العام الصادر بتاريخ 24-12-1952 لطيّ الأحداث المؤلمة التي شهدتها البلاد قبل هذا التاريخ، وقانون العفو العام رقم 84 لسنة 1991 الذي صدر لطي صفحة الاحداث اللبنانية التي اندلعت سنة 1975 وتناول الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 28 آذار مارس سنة 1991 مع ملاحظته ان هذا القانون الأخير استثنى الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من الخضوع لأحكامه. وتجدر الاشارة الى حقّ الدولة اللبنانية في طلب استرداد الذين تعاملوا مع العدو وفروّا الى خارج الوطن، انطلاقاً من مبدأ سيادتها الاقليمية على أرضها والصلاحية الذاتية التي تخولها محاكمة الأفراد الذين يرتكبون جرائم مخلة بأمن الدولة اللبنانية بصرف النظر عن جنسية الفاعلين ومكان ارتكاب الجريمة م 19 عقوبات، وحتى في الحالات التي يُمنح فيها حق اللجوء السياسي الى هؤلاء فإن ذلك لا يسري على الذين اقترفوا جرائم خطيرة كالقتل والعنف، وتبقى المعاهدات المعقودة بين لبنان والدول الأخرى التي قد يلجأون اليها هي الواجبة التطبيق بالنسبة لهذه الأحوال، هذا مع العلم أنه يمكن للدولة اللبنانية وللقضاء اللبناني أن يحاكم هؤلاء بالصورة الغيابية باعتبارهم من المجرمين الفارين من وجه العدالة. والنظر بأمر هذه الجرائم لا يعود الى المحاكم العادية انما الى المحاكم العسكرية وفقاً لاحكام المادة 24 من قانون القضاء العسكري وتتشكل المحكمة العسكرية في الدعاوى الجنائية من ضابط رئيساً من رتبة مقدم على الأقل وأربعة أعضاء أحدهم قاضٍ، من ملاك القضاء العدلي. وتتشكل في الدعاوى الجنحية من ضابط من رتبة مقدم على الأقل رئىساً وعضوين أحدهما من القضاء العدلي، وتكون قرارات المحكمة العسكرية الغيابية قابلة للاعتراض وأحكامها الوجاهية قابلة للنقض أمام محكمة التمييز العسكرية. تلك هي الأوجه القانونية والاجتماعية والسياسية التي تحكم وضع المتعاملين مع العدو الاسرائيلي الذي استنفد طاقاتهم ورماهم فريسة للأقدار يواجهون مصيرهم القاتم بعدما أغرتهم وعوده الخادعة وغطرسته الفارغة فتخلوا عن انفسهم وعن الوطن وكان خيارهم الخاطئ مرتكزاً لتقرير مسؤوليتهم الجزائية وتحمل النتائج السلبية المترتبة عليه، وعلى أي حال فإن الحكم النهائي تتحكم به التطورات المستقبلية والتي قد تفرض إسدال ستار النسيان على هذه الصفحة السوداء من أجل عزة الوطن ومصالحه العليا، ويبقى للمواطن الحرّ والصامد والمضحي مجد هذا الانتصار النادر والعظيم في تاريخ الأمم والشعوب. * استاذ في كلية الحقوق - الجامعة اللبنانية.