جبل جليد غاطس لم ندرك حجمه ولا اتجاهه إلا عندما أطلت قمته فوق السطح في سياتل. عندها اتضحت أمور لم تكن واضحة، وانفجرت ألغام لم يكن يعرف إلا القليلون بوجودها. وانكشفت أسرار بذلت جهود كثيفة لإبقائها طي الكتمان. كانت عند الناس شكوك تأكد بعضها، وبقيت شكوك في مكانها لا تتغير أو تتأكد، كانت هناك شكوك تتعلق بثمار العولمة، وبالموقف الاميركي من العولمة ومن هذه الثمار وكلفتها، والتأثيرات التي تحفرها مسيرة العولمة على وجه الحياة الاميركية وتقاليدها السياسية والاجتماعية. وكانت عند الناس شكوك خاصة بالعلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. وعلاقة هذه العلاقات بقضية الشيشان وبأحوال شرق ووسط أوروبا. وبمستقبل حلف الأطلسي ومستقبل الاتحاد الأوروبي في آن واحد. تراكمت الشكوك حتى طلع علينا صموئيل هنتنغتون بمقال جديد وإضافة جديدة إلى أطروحته التي أظن أنها كانت بمثابة مرتبة من مرتبات التحليل النظري، تحولت في أقل من شهور من تحليل وتنظير إلى منهج سياسي تلتزمه الدولة الأعظم في العالم، وشبح أو تحدٍ يخيم حول كثير من وزارات الخارجية والمراكز والمجالس المهتمة بالتخطيط للشؤون الدولية. كان أول ما أثار انتباهي، وجعلني أتريث في مناقشة تطورات سياتل والضربة التي تلقتها منظمة التجارة العالمية في سياتل، هو تعليق همس به واحد من طليعة الخبراء الذين ساهموا في مفاوضات الغات على مدى أعوام طويلة، وكان هذا الخبير الصديق شارك في معظم المحادثات التي جرت منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية وتابع عن قرب التطورات كافة الساعية الى تحرير التجارة الدولية، واطلع على دخائل وربما تنصت على مباحثات لم يكن طرفاً فيها هو وغيره من خبراء العالم الثالث المشكوك في ولائهم لقضية تحرير التجارة بالمعنى الأكثر حداثة وتقدماً وعولمة، واسبقيتها على مختلف اعتبارات السيادة وعقلانية التدرج والحساسيات الحضارية والثقافية. قال الصديق إن لديه من الأسباب ما يجعله يعتقد أن بعض، ولا يقول كل أو معظم، ما حدث في شوارع سياتل، وبعض قاعات مقر المؤتمر الوزاري، كان مدبراً أو معداً إعداداً جيداً من جانب جهاز أو آخر من أجهزة الحكومة الاميركية، ولن أناقش هنا أسبابه وحججه، وإن كان انطباعي أن أكثرها له وجاهة وقابل للتصديق، وبعضها يحتمل عدم التصديق، ولكن لا شيء في كل ما قاله، ولا في كل ما أعرفه عنه، وعن توجهاته الفكرية، يلمح إلى ميل شخصي أو سياسي في اتجاه نظرية أو أخرى من نظريات المؤامرة. وعلى كل حال إلى أن تتضح حقيقة ما حدث قبل وأثناء انعقاد مؤتمر سياتل أتصور أنه يجب علينا نحن - المتهمين - وبقلق على مستقبل معظم شعوب العالم النامي في ظل داروينية اجتماعية وسياسية جديدة ولكن طاغية ومتوحشة، أن نناقش هذا الاحتمال، احتمال أن تكون اميركا أقدمت فعلاً على اثارة الشغب وتعطيل محادثات المؤتمر الوزاري السابع لمنظمة التجارة العالمية. الواضح، والمؤكد الآن، هو أن تصريح الرئيس كلينتون الذي أثار زوبعة من الانتقاد بين دول العالم النامي ومعظم دول أوروبا الغربية صدر لاعتبارات سياسية داخلية. في هذا التصريح هدد كلينتون بفرض عقوبات تجارية على الدول التي لا تلتزم معايير معينة في العمل والعمالة. ليس مهما على كل حال أن واشنطن عادت فخففت من لهجة التصريح من دون أن تعتذر. فقد حقق التصريح أهدافه، وكانت متعددة حسب الظن السائد الآن. فقد وصلت الرسالة المطلوب إبلاغها الى نقابات العمال الاميركية، وهي جهة التمويل المهمة في أي حملة انتخابية اميركية، ورضاها ضروري لنجاح أي مرشح عن الحزب الديموقراطي لمنصب رئيس الجمهورية. كذلك أراد كلينتون أن يرضي قطاعات في المنظمات الأهلية الاميركية متزايدة القوة والنفوذ مثل المنظمات المهتمة بالبيئة. ولكن يردد محللون وخبراء أن أجندة كلينتون كانت تحتوي على موضوعات أخرى لم تكن في يوم من الأيام مطروحة علانية على بساط السياسة الخارجية الاميركية وقليلون هم الذين جازفوا بالكتابة فيها. يتصدر هذه الموضوعات موضوعان أساسيان، أولهما القلق الذي لا يخفي ولا تخفيه أجهزة سياسية أميركية بسبب الفجوة التي نشأت، ثم بدأت تتسع، بين الفوائد التي حققتها بعض المصالح الاميركية في مسيرة العولمة الاقتصادية، وبين الأضرار التي لحقت بمصالح اميركية أخرى، قرأت لمن يقول إن اميركا المستفيدة من الانحسار الملحوظ في "قوة وأهمية الدولة"، في مختلف أنحاء العالم ومن تدهور المكانة القانونية والسياسية لمبدأ السيادة، هي اميركا نفسها المنزعجة من أنها صارت أقل صرامة، وأقل نفوذاً، في مواجهة عواقب الاندماجات الضخمة بين شركات دولية عملاقة، وبخاصة الشركات المتعدية الجنسية العاملة في مجال الاتصالات. كان الظن دائماً هو أن معظم الشركات المتعدية الجنسية، هي في الحقيقة شركات اميركية، مقارها الأساسية في اميركا، وهو ظن في الغالب صحيح، ولكن الواضح أن هذه الشركات - ولو كانت اميركية - بلغت من الضخامة والقوة ما جعل بعضها يتصرف أو يتدخل في السياسة الدولية وفي الاقتصاد الدولي باستقلالية تتصادم احياناً مع المصالح القومية الاميركية، حسب فهم القوى والنخب السياسية الحاكمة في الولاياتالمتحدة لهذه المصالح. لذلك، كان مناسباً الضغط عليها من خلال تظاهرات ومظاهر احتجاج تقوم بها منظمات تنتمي للمجتمع المدني، وتندد بهذه الشركات وتطالب بفرض الرقابة عليها، وحماية الإنسان والمجتمعات من طغيانها. الموضوع الأساسي الثاني ليس جديداً، ولكنه يتفاقم بمعدل سريع، إنه موضوع العلاقات بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، أو بمعنى أدق، العلاقات بين اميركا وأوروبا. فقد كان هناك باستمرار ما يزعج واشنطن في تصرفات السياسيين الفرنسيين، وفي بعض طموحات وخطط المفوضية الأوروبية، ولكن لم يحدث من قبل أن تجمع هذا الحشد من مصادر الازعاج المتبادل بين السياسات الاوروبية والسياسات الاميركية. أحد هذه المصادر هو ما عبر عنه سياسيون أوروبيون متعددون بالاتجاه الاميركي المتزايد نحو احتكار صنع القرار الدولي، أي احتكار الحق في إعادة تشكيل العالم. إن أحداً لا يجادل في حقيقة أن الهيمنة الاميركية بلغت من الاتساع ما لم تبلغه هيمنة أخرى في التاريخ، خصوصاً وأنها لا تفرض نفسها بالاحتلال المباشر إلا في حالات قليلة. ولكن صحيح أيضاً ما كتبه برجنسكي منذ سنوات في كتابه "رقعة الشطرنج العظمى" وبخاصة عندما قال إن هذه الهيمنة بقدر ما هي متسعة فهي سطحية. أكثر القلق الأوروبي هذه الأيام ناتج عن اقتناع كثير من قادة أوروبا الغربية أن اميركا لم تعد تضع في اعتبارها المصالح الاوروبية. فأميركا التي كانت تلح، والى عهد قريب خلال حرب كوسوفو، على أن تزيد أوروبا مساهمتها في نفقات العمليات العسكرية الغربية في مناطق التوتر والنزاع في أوروبا وغيرها، تعلن عبر عدد متزايد من نوابها وشيوخها والمسؤولين السياسيين، عدم رضاها عن التقدم المتسارع في الجهود الأوروبية لإنشاء قوة دفاع أوروبية قوامها 000،60 جندي، وتشارك فيها بريطانيا. من ناحية أخرى لم تكن أوروبا مرتاحة للضغوط الاميركية التي مورست على مختلف اعضاء حلف الأطلسي بغرض الإسراع بقبول انضمام دول من شرق ووسط أوروبا إلى الحلف. لم يكن خافياً على جانبي الأطلسي أن سباقاًَ أو تنافساً هادئاً بين الاتحاد الأوروبي من جهة واميركا أي حلف الأطلسي من جهة أخرى لضم هذه الدول، كل الى منظمته قبل أن تضمه الأخرى. حول هذه المنافسة لم يهتم معظم المحللين باعتبار أو بافتراض أن كل أعضاء الاتحاد الأوروبي هم في النهاية أعضاء في الحلف الأطلسي. وبالتالي فلا تناقض في هذا التنافس، بل هو تكامل أكثر منه أي شيء آخر. كان يمكن قبول هذا الاعتبار أو الافتراض في سنوات ما بعد الحرب الباردة مباشرة، عندما كان الاتحاد الأوروبي كالحلف يركزان اهتمامهما على تأمين الانتقال السلمي لدول أوروبا الشرقية والوسطى، وبخاصة روسيا، من الشيوعية إلى الرأسمالية. أما وقد اطمأن الجميع إلى أن الانتقال حدث - وإن بكثير من التشوه - ولا خوف من الارتداد، ظهر أن لاميركا أجندة مختلفة. فهي تريد مثلاً أن تصل إلى القوقاز وتنتزعه من الهيمنة الروسية ويكون لها في هذه المنطقة موضع قدم ومصالح مقيمة. وهي تريد كذلك فرض حصار جديد على روسيا. وليس هذا فقط ولكن تريد أن تعرف موسكو، وبقية أوروبا الشرقية، أن هذه هي نية اميركا.. فرض حصار جديد حول روسيا. بمعنى آخر ما زالت المدرسة التي أدارت أزمات الحرب الباردة قوية ومسيطرة على عملية صنع القرار في واشنطن، وهي المدرسة التي يمثلها خير تمثيل هنري كيسنغر وآخرون ليس أقلهم شأناً زبينيو برجنسكي. ولذلك يستمر الضغط في محاولة لاقناع أوروبا الغربية بأن الخطر الروسي ما يزال ماثلاً وستكشف روسيا عن انيابها قريباً وعند أول فرصة سانحة. ولأوروبا رأي آخر مختلف إلى درجة أن الأوروبيين لا يخفون أن السياسة الاميركية تجاه روسيا يخطط لها وينفذها مجموعة من المغامرين ومنهم من يحمل عداء حقيقياً لكل ما هو أوروبي. تعترف اميركا بأنها دولة مهيمنة، ولكن يقول صمويل برغر رئيس مجلس الأمن القومي الاميركي إنها "هيمنة حميدة"، مستعيراً تعبير تيموثي غارتون آش في آخر كتاب له بعنوان "تاريخ الحاضر". لأنها، أي اميركا، تعمل لمصلحة العالم كما تعمل لمصلحتها. ويقول كذلك إن الآخرين منحوها مشروعية القيادة، ليس على أساس قوتها العسكرية ولكن على أساس القوة المعنوية وجاذبية القيم الاميركية. ولكن ما لا يريد برغر أن يقر به هو أن هذه الهيمنة الحميدة لم تقنع روسيا. ويقول اكاديمي روسي تعليقاً على هذا التعبير، إن المسؤولين الروس على اختلاف مشاربهم يعتقدون أن الهيمنة الاميركية "هيمنة خبيثة" وأن هذا الاعتقاد هو الذي جعل العسكريين الروس يشتركون مع فلاديمير بوتين وغيره في التخطيط للاستعداد لحرب الشيشان تمهيداً لمواجهة مقبلة، إن آجلاً أو عاجلاً، مع الوجود الاميركي في مختلف أقاليم القوقاز. وعبر الرئيس جاك شيراك ورئيس وزرائه ليونيل جوسبان عن واقع الخلاف الاوروبي - الاميركي في تصريحات مهمة، أدليا بها خلال الأسبوع الأخير، أي في أعقاب تفاقم المواقف في سياتل والشيشان وغيرها. قال شيراك في تحدٍ واضح إن القرن المقبل لن يكون بأي حال قرناً أميركياًَ، فالصين والهند وأوروبا وروسيا كلها ستكون دولاً عظمى في هذا القرن. وعدّد نقاط الخلاف بين أوروبا واميركا. فأشار إلى رفض الكونغرس اتفاقية الحظر على التجارب النووية، وإلى مبادرة كلينتون إقامة درع الصواريخ المضادة للصواريخ، مبيناً أن هذه المبادرة تهدد أمن أوروبا لأنها تفتح الباب أمام سباق تسلح رهيب. قال، وكان على حق، إن الإنسان منذ أن بدأ يشن حرباً لم يتوقف السباق بين السيف والدرع، ويشهد التاريخ أن السيف خرج دائماً منتصراً. وناقش رئيس الوزراء الفرنسي نقطة خلاف أخرى حين اتهم اميركا بأنها لا تراعي مصالح دول العالم النامي خلافاً للاتفاق الذي توصل إليه مؤتمر الدول الصناعية الذي عقد في كولونيا، والخاص بتخفيض ديون العالم الثالث، فقد رفض الكونغرس الاميركي في الأيام الماضية طلباً من الحكومة يقضي بتخصيص مبلغ 370 مليون دولار لمساعدة البنك الدولي على تنفيذ القرار المتخذ في مؤتمر كولونيا، ولم يفت جوسبان انتقاد الموقف الاميركي في سياتل الذي "أدى إلى فشل المؤتمر"، ووعد بأن تقود فرنسا عملية تهدف الى عقد مؤتمر جديد فور توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من العام 2000. وبالمناسبة، تتجمع جهود دول كثيرة في العالم النامي للرد على ما فعلته اميركا في سياتل وذلك بالاحتشاد في مؤتمر الأونكتاد مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية الذي سيعقد في مدينة بانجوك خلال شهر شباط فبراير المقبل، بهدف محاولة كبح جماح ثور هائج اطلقته قوى العولمة، وفي ظنها أنه قابل للترشيد وكبح الجماح بعد أن يؤدي مهمته في ترويع دول العالم النامي ونشر الفوضى الشاملة في ربوع اقتصاداتها. من ناحية أخرى. يبدو أن اليابان ليست خارج صورة الخلافات المتفاقمة في الغرب، خاصة بعد أن تبين أنها ترفض بشدة استخدام الأقمار الاميركية للتجسس والاستطلاع العسكري وتصر على استخدام أقمار يابانية الصنع والتوجيه، وقد أعربت الولاياتالمتحدة عن قلقها من هذا التوجه الياباني خاصة أنه يأتي مع توجه أوروبي مشابه. وفي كل الأحوال، وسواء كانت الولاياتالمتحدة سبباً في فشل مؤتمر سياتل، أو كان السبب خلاف الأغنياء على تقسيم أو احتكار كعكة العولمة، أو كان السبب هجمة الأغنياء على الفقراء وعلى منتجاتهم الرخيصة، تبقى أميركا - وستبقى لسنوات قادمة غير قليلة - مهيمنة هيمنة حميدة في أماكن وخبيثة في أماكن أخرى. ولكن في كل الأحوال فاعلة. كثيرون الآن يدافعون عن أدورنو حين كان يقول "من لا يريد أن يتحدث عن اميركا افضل له أن لا يتحدث عن أوروبا"، ونظرة سريعة إلى حال العالم وبخاصة حالنا في العالم العربي، تشجعنا أن نضيف إلى النصف الثاني من عبارة أدورنو كلمتين فنقرأ "أفضل له أن لا يتحدث عن أوروبا أو غيرها". * كاتب مصري