لتظاهرة واشنطن الحاشدة التي أقيمت قبل ثلاثة أسابيع، مثلها مثل تظاهرة سياتل التي سبقتها والتي نُظِّمَتْ في شهر تشرين الثاني نوفمبر من العام المنصرم، دلالات بالغة حول التحوّل في اشكال التحرك المدني ضد هيمنة النموذج النيو - ليبرالي على اقتصاد وسياسة العالم. فتحت اسم العولمة شرع الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بتفكيك واعادة تركيب تدريجاً أنظمة سلسلة بلدان تقع كلها في جنوب الأرض منها ما هو كبير، كالبرازيل، ومنها ما هو صغير، كتونس والإكوادور على نحو يتناسب مع مصالحه الاقتصادية والسياسية، في سياق استراتيجية غير مُعلنة تؤدي عملياً الى مضاعفة ثروات بلدان الغرب وافقار بلدان الجنوب. وأجمع الإعلام الغربي على تهيّب تظاهرة واشنطن التي نظمتها وشاركت فيها كوكبة من تنظيمات المجتمع المدني في الولاياتالمتحدة، بالتنسيق مع تنظيمات مدنية أخرى واقعة خارج القارة الأميركية. حيث ان هذه التظاهرة كانت ترفع شعارات مناهضة للعولمة في صيغتها الراهنة، في عقر دار المؤسسات الكبرى التي كانت تعتبر نفسها حصون العولمة العتيدة. بيد ان الإعلام العربي قد تعامل مع هذا الحدث في شكل سطحي، وكأنه يشبه مجرد طوفان نهر في بلاد الأند، علماً ان ما حدث في واشنطن يصبّ في ما يدعو اليه المثقفون العرب في سوادهم الأعظم من ضرورة التصدّي للعولمة المتنامية الأطراف اليوم. لكن، هنا أيضاً، يختلف مفهوم التصدّي عند العرب عن مثيله في الغرب، وربما تكمن هنا أسباب برودة الموقف المحلّي، الكلامي والخطابي، الذي كشفت وهنه وقصوره المواقف العملانية لتظاهرتي سيتل وواشنطن، فالمجتمع المدني الغربي، المنزعج هو أيضاً، ولأسباب تتعلق بفهمه للديموقراطية ولحقوق الإنسان، قد أفرز شريحة سياسية جديدة من أنصار الطبيعة وحماة البيئة ومن أصدقاء الديموقراطية تتميز بخاصتين: أولاها رفض المسار العام للازدهار الغربي كما هو معيش حالياً في شمال الأرض" والثانية وضع خطة عملانية للتصدّي لهذا الازدهار المزعوم، اللاإنساني، بأساليب مناسبة وديموقراطية، تجعل من المستمسك القانوني والإعلامي رأس حربة لها. فالتنظيمات المشاركة في تظاهرة واشنطن لا تشبه أولئك الأفراد الذين يكتبون هنا وهناك ضد العولمة، عبر العالم، انهم معنيون بالعولمة ويجدون فيها ما يقنع عقلهم من حيث المبدأ. حيث ان فهمهم للديموقراطية شديد الالتزام بفهمهم لإنسانية العلاقات بين البشر وعموميتها. فالعولمة، ان صحّت، بإمكانها أن تتحوّل الى رافعة حقيقية للبشرية خلال الألفية الثالثة، إلاّ أن اعتراضهم عليها اليوم هو في عدم التزامها بهذه المُثل العليا. فلو قارنّا بين التحركين، الغربي والعربي، ضد العولمة، نكتشف مباشرة ان الأول ينطلق من معرفة موضوعية كما تعنيه العولمة ومن هنا تركيز هجومه على المؤسسات الكبرى الثلاث المولِّدة لممارسات العولمة كما نعرفها، وهي منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في حين ان الثاني يتعامل مع الموضوع تعاملاً ضبابياً ونظرياً، في ظل معرفة ذاتية طاغية. شعار التظاهرة الأساسي، في واشنطن، كان "المزيد من العدالة العالمية" و"أوقفوا هذه الفظاعة الاقتصادية"، غير ان التصريحات التي أدلى بها المشاركون ومسؤولو التنظيمات الطلابية كالطلاب المتحدين ضد محترفات البؤس في جنوب الأرض والتنظيمات المهنية الأميركية الخائفة على التوجّه العشوائي للرساميل والأعمال الأميركية الى بلدان سوف تأخذ منهم وظائفهم كالصين مثلاً قد ذهبت أبعد من ذلك مطالبة منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بتصفية أوضاعهم كلياً أو بتغيير سياساتهم السابقة "كفانا من خمسين سنة"، يرددها الجميع، معتبرين ان اللعب بمصير العالم ينبغي أن يكون شفافاً وصادقاً وصحيحاً. فما يفيد البلدان الصغيرة، الخارجة عادةً من أزمة كما حصل في آسيا خلال السنوات الأخيرة على سبيل المثال أن تعتمد سياسة "اصلاحات اقتصادية بنيوية" تجعلها مقبولة من المعايير التي تفرضها عليها الإجراءات سوى الى تفاقم الأزمة الاجتماعية فيها. فما يطالب به طلاب ومهنيو المجتمع المدني الأميركي الجديد هو انصاف مزدوج، داخلي وخارجي، حيث انهم يشعرون ربما أكثر من سواهم لأنهم ينعمون بازدهار استثنائي لكن هش وبمعدّلات انخفاض في البطالة لم تشهدها البلاد من قبل، ولكن غير دائمة في المدى المنظور بصعوبة المعادلة العامة التي يقوم عليها ازدهارهم الاقتصادي الخارق. فعلى الصعيد الداخلي يشعر المهنيون ان المستقبل يتهددهم ولا يبدو زاهراً لجهة ضمان استمرارية عملهم. وعلى الصعيد الخارجي يشعر الطلاب ان ضميرهم غير مرتاح. ذلك ان وقع ضوابط العولمة المالية والاقتصادية تنعكس ازدهاراً ملطخاً عليهم وإفقاراً مطرداً على الدول الصغيرة. فالحلم الأميركي الذي لم يكن ليشكك بمصداقيته أحد في بلاد العم سام أضحى اليوم - وأخيراً! - موضع تساؤلات مبنية من قبل جيل جديد من المهنيين والطلاب. وتلاحم هاتين الفئتين في تظاهرة واشنطن على نحو خاص حيث ان كل واحد كان قد تظاهر على حدا خلال تظاهرة سيتل يذكرنا الى حدّ ما بما حدث في باريس في أيار مايو 1968. فقضايا العولمة برمّتها مطروحة للنقاش العام، وليس للاختصاصيين فقط ضمن جدران الأبنية الحديثة. مما يعني ان الازدهار يستثير الكلام حول نقيضه، الفقر. من منطلق ان مَن هو معني بالازدهار معني به أينما كان، على قاعدة العولمة السالكة على خطين. أما عندما يكون الازدهار من حصة بلدان الشمال والفقر كما بيّنه تقرير البنك الدولي الأخير بذاته من حصة بلدان الجنوب، فهذا يعني ان العولمة قد ضلّت طريقها، أو أنها خدّاعة. وفي الحالين، على المؤسسات الدولية، يقول متظاهرو واشنطن وسيتل وغداً بروكسل وجنيف وميللو وبراغ، بحسب مفكرة منظمات المجتمع المدني في القارتين الأميركية والأوروبية للأشهر القادمة أن يعمدوا الى مراجعة جذرية لكياناتهم ولهويتهم السياسية، فإن أردنا للعولمة أن تنجح فعلاً وأن تدوم ينبغي أن يعتمد القيّمين على شؤونها مسلكاً يؤدي الى الهدف العلني المرسوم، من دون ازدواجية ولا استخفاف انسان بإنسان آخر، لمجرد أنه يملك الثروة والآخر يفتقر لها. فالنقابات المهنية الأميركية والاتحادات الطالبية الديموقراطية والمناصرة للبيئة قد قدّمت البديل النظري لمسار العولمة الحالي. وهذا ما ليس بالأمر السهل. فالمراجعة في العمق التي طُرِحت في هاتين المدينتين الأميركيتين الكبيرتين والتي كلفت المتظاهرين 525 معتقلاً في سيتل و600 في واشنطن تشير بوضوح الى اصرار مبني ومسؤول من قبل معارضي العولمة المتأمركة الحالية. جرأتهم الفكرية جعلتهم ينتقدون أنفسهم الى حدّ المحاكمة، من دون شعور بالذنب أو بالخيانة القومية. الجدير ذكره هنا ان صندوق النقد الدولي كان قد شرع، منذ الأسبوع الأول الذي تلا تظاهرة سيتل، الى تأليف لجان لبحث الكثير من الشؤون التي أتى على ذكرها المتظاهرون. أما مع تظاهرة واشنطن فقد تناسقت الصفوف أكثر وتحدّدت القواسم المشتركة في شكل أعمق بين منظمات المجتمع المدني الأميركي والعالمي. ولذلك سوف تكون النتائج أكثر جدية ودقة. فالمجتمع المدني، المبني على أسس ديموقراطية، يتابع مطالب أفراده باحترام" كما أنه يفرض احترامه على الأطراف الرسمية. حيث أنه، وكما يردّده النقابي الأميركي رالف نادر، وضعيّة المواطنيّة هي الأهم في البلدان الديموقراطية. لا بدّ من الإشارة أخيراً في صدد هذه التجربة التي هي محكومة بالتعاظم التدريجي، انها مدينة لعصر الانترنت الجديد الذي دخلنا فيه، إذ ان هذه الشبكة الاتصالية قد سمحت على مدى الأشهر الماضية - وسوف تسمح مستقبلاً - لمنظمات المجتمع المدني الموجودة أينما كان بتنسيق مجهوداتها وضبط اتصالاتها وتبادل مقترحاتها على صعيد واسع وسريع وفعّال. حيث ان النتيجة كانت، في كل مرّة، ناجحة. فالمجتمع المدني الواعي والمسؤول يعرف كيف يستفيد من ايجابيات العولمة لمحاربة سلبيّاتها. * كاتب لبناني.