في دافوس، قبل ايام، تحدث كل من بيل كلينتون وتوني بلير. أولهما دعا الى فتح الحوار مع نقاد العولمة والتجارة الحرة، محذّراً من استثناء البلدان الفقيرة والعمال وسكان الهوامش الاجتماعية. كما أكد على الشفافية، ملاحظاً ان التقنية الجديدة مع مطالع القرن الواحد والعشرين تعني انتاج بعض التفاوت الذي لا بد منه في المدى القصير. ثانيهما، وفي خطاب بالغ الحماسة للبيزنس، بدا ليبيراليا بالمعنى الذي لا تطيقه المحافظة النيو ليبيرالية لبعض الاميركان، اذ اشار الى ضرورة الانتباه الى الآثار الاجتماعية والانسانية لعملية العولمة، والى تطويقها. ما قالاه عين الصواب شريطة ارفاقه باجراءات تشريعية ومؤسسية على النطاقين الوطني والدولي تجعل النوايا افعالا. فالاغنياء، كما نعلم، لا يتنازلون بطيبة خاطر. وإن لم تظهر الاجراءات، وإن لم تظهر سريعاً، يكون للقلق مبررات كثيرة. فتقرير برنامج التنمية التابع للامم المتحدة عن التنمية الانسانية للعام 1999 يقول: "فقط 33 بلداً استطاعت ان تحافظ على نمو سنوي بنسبة 3 في المئة خلال 1980-1996. وبالنسبة الى 59 بلدا انخفض الناتج الوطني العام للفرد الواحد". وهكذا فالاندماج الاقتصادي يقسم الاقتصادات النامية والانتقالية الى تلك التي تستفيد من الفرص الكونية وتلك التي لا تستفيد. مثل هذه الارقام تحث على ضرورة تنظيم لبرلة التجارة مع ضمان وجود انظمة ديموقراطية ومسؤولة في البلدان المتخلفة، والا ساهمت هذه العملية في توسيع العجز التجاري للبلدان المذكورة. فهي افضت الى ارتفاع حاد في الاستيراد في ظل تراجع التصدير. وبحسب التقرير فالبلدان النامية، ما خلا الصين، كان معدل عجزها في التسعينات اعلى مما في السبعينات بنسبة 3 في المئة من اجمالي نواتجها المحلية، كما انخفض متوسط نسبة النمو نقطتين. نقص الموارد في افريقيا يمكنه ان يصير، وهو صائر، سببا اضافيا للنزاعات الاهلية ولشتى اسباب الموت. في اميركا اللاتينية، ونظراً لعدم التكافوء الكامل بين الاصلاحات الاقتصادية وانظمة التوزيع، يحظى 10 في المئة من السكان ب40 في المئة من اجمالي المداخيل، وتبقى 5،7 في المئة من المداخيل لل30 في المئة الأفقر من السكان. أسباب اخرى تضغط في هذه الوجهة: فالاشارات تتكاثر الى ان الانقلاب العسكري، رغم تراجع الكثير من اسبابه ومقدماته، قد يعود الى الصدارة. فالنمو الديموقراطي قد يضعف حيث بدأ يشتد عوده، وأميركا اللاتينية هي المسرح الأوضح: فالانقلاب الاكوادوري الشهر الماضي، حيث تداخلت مسألتا الاقتصاد المدولر والهوية الهندية الحمراء، وانتخابات 1998 التي اتت بهوغو شافيز القائد الشعبوي والمستبد في فنزويلا، وتصاعد حرب العصابات في كولومبيا، واغتيال نائب رئيس الجمهورية في آذار مارس الماضي في باراغواي، كلها نذر عودة محتملة الى عالم السبعينات والثمانينات. ومن آسيا جاءت الصورة الرهيبة للتوأمين قائدي "التنظيم" الارهابي على الحدود البورمية التايلاندية، لتهددنا باحدى الوجهات المحتملة للمستقبل، ومستقبل الشبيبة خصوصاً. ثم ما دمنا نتحدث عن الديموقراطية، لا بد ان يستوقفنا تعارضها، حيث تتعارض، مع اعادة الهيكلة، والا عدنا من النافذة الى نظرية اولوية التنمية على الديموقراطية، وهي النظرية التي كانت طردتها الأزمة الآسيوية من الباب. لكن العالم المتقدم ليس بمنجاة أيضاً. وتحرك الحكومات يكتسب اهمية مضاعفة، كما يغدو اصعب، حين يكون العمل النقابي المنظم في وضع لا يُحسد عليه، فيما الدعوات الاشتراكية عديمة التأثير تقريباً. ولهذا بالضبط يصبح ضغط مظاهرات سياتل مفيدا ومطلوباً، فكيف وان جون ماكين يعد بالاعفاء مما يقارب ال300 بليون دولار ضرائبَ، فيعد بوش الابن بشطب ما يقارب ال 500 بليوناً!، ما يهدد بارجاع الاقتصاد الاميركي نفسه الى طور العجز الذي خرج منه بنجاح. واكثر ما يُخشى الآن ذاك التقارب بين الاحزاب المحافظة الآخذة بالنيو ليبيرالية، وبين الحركات الفاشية التي كانت تقليدياً شعبويةً تخاطب الفقر وتتلاعب عليه، فغدت تخاطب "الناجحين". والائتلاف النمسوي الذي يُصنع اليوم خير دليل. أبعد من النمسا: قد يكفي لجعلنا نقلق ان ننظر الى اوروبا الوسطى - الجنوبية، اي تلك البلدان والمناطق المزدهرة في بافاريا وسويسرا وشمال ايطاليا واجزاء من النمسا التي تستجيب ليورغ هايدر واومبيرتو بوسي، او الى جنوبفرنسا نفسها حيث يصوّت الكثيرون من "الناجحين" للوبن. والمخيف هنا ان الاغنياء المتروكين بلا ضوابط، يريدون فرض نموذج آحادي، وكل نموذج آحادي مرفوض. ونموذجهم الراهن هو الاميركي. صحيح ان الاقتصاد الاميركي والبريطاني حقق بالتأكيد نجاحات بارزة بفعل "الاقتصاد الجديد". وثمة حالات انجازية لا يجوز التقليل منها تحصّلت بفضل "وصفات صندوق النقد": فكوريا الجنوبية مثلا تنمو الآن بنسبة 10 في المئة بعد ازمة 1997. لقد ضبطت الانفاق العام والأجور وخصخصت وشجّعت التملك الاجنبي. ومجدداً ها هي سياراتها وافرانها لا تُنافس في العالم. وفي اوروبا قدمت بولندا نموذجا آخر باهرا للانجاز. لكن هل يعني هذا حصر النجاح في النموذج الأوحد وفي اعادة انتاجه في الامكنة والبلدان جميعا؟ هل هو، بالضرورة والحتم، الطريق الفريد للتقدم الاقتصادي؟ فالدخل الفردي السويسري نما، في العشرين سنة الماضية، باسرع مما نما نظيره الاميركي. اما المانيا فرغم مصاعبها جميعا، لا تزال تتمتع باعلى نسبة نمو. فلماذا اهمال التجارب الاخرى التي يمكن لبعض "العالم الثالث"، بموجبها، ان ينظّم ويمرحل انفتاحه فيخفف وقع الصدمة؟ ام اننا حيال ماركسية سوفياتية مقلوبة حيث الاقتصاد يبتلع الاجتماع؟ وحتى الماركسية وجدت في غرامشي ومدرسة فرانكفورت محاولات لتلطيفها بالسياسة والثقافة، ولا تزال الرأسمالية المعاصرة تنتظر محاولات مماثلة لم ينجح انثوني غيدنز ومثقفو "العمال الجدد" في اسباغ الجدية المطلوبة عليها. فالديموقراطيون، ما دام الجميع يتساوون في انجازات تقنية واقتصادية يخلقها "الاقتصاد الجديد"، يكسبون بتثقيف السياسة وأنسنتها. اما الايميج فلا يصدّ وحده الغباء والتغبية اللذين تعلّمنا التجربة انهما قد يسايران التقدم التقني ويساهمان في جعله كاسراً. والتقدم مصحوباً باضعاف الحس الانساني والفضول الثقافي، مخيف. لكن المخاطر التي تترتب على خَدَر القلب، يُستحسن ان لا تعبّد الطريق الى مخاطر تنجم عن هيجان العقل. فالتغيير لن يحصل ضد العولمة بل من ضمنها، هي التي لا رد لها. ولا يجوز تفادي هذا الخطر للوقوع حماسيا في ذاك. وقبل كل شيء، لا يجوز وضع العالم امام حالة طوارىء تتعدى الضغط الى التفجير، وتتجاوز المشاركة النقدية الى طلب التهميش إن لم يكن ارادياً وبوعي فكأمر واقع. بطبيعة الحال مطلوب درجة اعلى من اهتمام منظمة التجارة الدولية بحقوق العمل والبيئة، ولا بد من استحضار المسؤولية الاخلاقية للشركات والزامها بذلك، والسعي الى انفاذ ضريبة على الدفوق المالية. ولا بد بالتأكيد من رفض وحدانية النموذج الاميركي، وتأليب الضغوط الديموقراطية والمؤسسية حول هذه الشعارات ما امكن ذلك. لكن لا يجوز تحويل العداء الى اميركا وكل ما هو اميركي الى نيو عنصرية هي العنصرية الوحيدة المقبولة لأنها "ثورية". ولا يجوز للتشاؤم ان يُنسينا النجاحات التي تحصل على جبهات الطب والعلوم، او الثراء الذي تخلقه حركة العولمة. فاذا اشير في الاقتصاد الى التجربتين الكورية والبولندية، ففي السياسة استطاعت تشيلي، مثلاً، ان تجري انتخابات هادئة برغم اسوأ ركود منذ 1970، بل برغم قضية بينوشيه العالقة والمؤثّرة. واليوم، كل الاعضاء ال35 في منظمة الدول الاميركية يحكمها حكام منتخبون ديموقراطياً، علماً ان اميركا اللاتينية لم تكن قارة ديموقراطية حطّمت العولمة ديموقراطيتها، كما ان افريقيا لم تكن قارة غنية افقرتها العولمة. وحتى النمسا نفسها فمن الذي يضمن ان لا يتكرر فيها ما حصل قبلا لفاشيين سابقين في اسبانياوايطاليا ذوّبتهم الديموقراطية؟ فعلى اهمية الضغط الذي املته سياتل ومظاهراتها يُستحسن عدم الغرق في شبر ماء مرة اخرى. فتحالف سياتل عابر مثله مثل التحالف الذي ينهض عليه اي لوبي في الولاياتالمتحدة: فافريقيا تستجدي كي تزيد صادراتها النسيجية الى الولاياتالمتحدة التي لا تتعدى الآن 8 في المئة من استيراد الاخيرة لهذه السلعة، فيما النقابات الاميركية ترفض ذلك، وهذا فضلا عن التناقضات المعروفة بين اجندتي النقابيين والبيئويين، حتى لا نقول ان المتظاهرين يشبهون الاغنياء في ان احداً لم ينتخبهم. وبعد كل حساب، فالتجارة الخارجية هي التي لولاها لما ظهر اي دليل على تقدم في العالم النامي: من البنسلين الى السماد الكيماوي ومساطر التلاميذ. اما ان تُحمّل العولمة وحدها مسؤولية الفقر في بلدان لم تعرف اريافها مياه الشرب قبل العولمة وبعدها...، فهذا ليس الا اقصر طرق التستّر على المسؤوليات الذاتية ومراجعة دروس الحقبة الراديكالية الآفلة. فلأن التحدي الذي تطرحه القلوب المخدّرة خطيرا جداً، بات ينبغي الاصرار على مواجهته بكثير من العقل الهادىء والصارم في آن.