أجبرت التقلبات الحادة في أسواق السندات وتوترات المستثمرين الرئيس الأميركي دونالد ترمب على تعليق الرسوم الجمركية المرتفعة لمدة 90 يومًا، حيث أشار ترمب نفسه إلى أن أسواق السندات أصبحت "متوترة بعض الشيء"، وتقليديًا، تُعتبر سندات الخزانة الأميركية من أكثر الأصول أمانًا للمستثمرين في العالم، ولطالما عُرفت حكومة الولاياتالمتحدة كمقترض موثوق ومسؤول، وقد أتاحت هذه السمعة للولايات المتحدة الاقتراض بتكاليف منخفضة لعقود. تسببت اضطرابات رسوم "يوم التحرير" الجمركية في تقلبات حادة في تكاليف اقتراض الحكومة الأميركية، وبينما كان من المتوقع فرض بعض القيود التجارية، فاجأ حجم هذه الإجراءات ونطاقها الأسواق وأثار قلق مستثمري السندات، فارتفع عائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 30 عامًا، والذي يتحرك عكسيًا مع سعر السند، بمقدار 60 نقطة أساس، ليتجاوز 5 %، عقب إعلان التعريفات الجمركية، ويعني ارتفاع عوائد الحكومات فعليًا أنها تدفع فوائد أعلى على ديونها، وبالنسبة للولايات المتحدة، كان هذا أحد أكبر التحركات خلال أسبوع واحد منذ عام 1981، عندما نفذ الاحتياطي الفيدرالي زيادات حادة في أسعار الفائدة لمكافحة التضخم. دعم الإعفاء المؤقت مع بداية الأسبوع الحالي، ارتفعت الأسهم الأميركية بدعم من الإعفاء المؤقت على واردات المنتجات والأجهزة المتعلقة بالتكنولوجيا من الصين، ومن المتوقع أن تستمر أسهم التكنولوجيا في التعافي، وفي حين أن حالة عدم اليقين بشأن رسوم ترمب الجمركية لم تنته بعد، فإن هذا التوقف يشير إلى حساسية الإدارة الأميركية تجاه ضغوط السوق، ولهذا، من المتوقع أن تنتعش شركات التكنولوجيا عالية الجودة ذات التقييمات الجذابة مع عودة تركيز المستثمرين على العوامل الأساسية، من جهة أخرى، سجلت سوق السندات ارتفاعاً في بداية تعاملات الأسبوع الحالي، مما أدى إلى انخفاض العائدات من ثلاثة أشهر إلى 30 عاما، بعد أن بدأ التجار والمستثمرون في اتخاذ مواقف تضمنت امتلاك سندات الخزانة وسط آمال في إعفاءات من الرسوم الجمركية لقطاع التكنولوجيا، وبالتالي نشهد الآن بداية أفضل من الأسبوع الماضي. وبلغت أحجام تداولات سندات الخزانة مستوى قياسيًا تجاوز 11 تريليون دولار الأسبوع الماضي وسط التقلبات، وكان الازدحام في سوق سندات الخزانة الأميركية مشكلةً رئيسةً، فقد شهد حجم تداول سندات الخزانة ارتفاعًا حادًا استجابةً لتراجع الرسوم الجمركية، وتشير البيانات المتعلقة بالتدفقات الأخيرة إلى أن عددا من اللاعبين في السوق خفضوا مؤخراً مخاطر المدة في سوق السندات الأميركية، وهذا مهم نظرًا للتكهنات السابقة بأن كبار المستثمرين الأجانب، مثل الصين، كانوا مسؤولين عن عمليات البيع الضخمة التي شهدتها سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل الأسبوع الماضي. ونتيجةً لهذه العمليات، ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 و30 عامًا بمقدار 50 نقطة أساس، و48.2 نقطة أساس على التوالي خلال الأسبوع الماضي، وهي أكبر زيادة أسبوعية تُسجّل منذ نوفمبر 2001، وأبريل 1987، حيث يواصل المستثمرون الأجانب تقليص مشاركتهم في المزادات، وهناك أدلة محدودة على تراجع الطلب من القطاع الرسمي، ومع ذلك، باع المستثمرون اليابانيون من القطاع الخاص أكبر عدد من السندات الأجنبية منذ الفترة التي سبقت الانتخابات الأميركية. السؤال الآن هو: ما الذي أثار قلق المستثمرين تحديدًا؟ تضافرت قوىً عديدة لتُؤدي إلى هذا التحول المفاجئ في مشاعر المتداولين، فأولاً، أسعار السندات شديدة التأثر بتوقعات التضخم، وقد اعتُبر فرض رسوم جمركية واسعة النطاق تضخميًا على نطاق واسع، حيث تهدد الرسوم الجمركية والإجراءات الانتقامية من الشركاء التجاريين، برفع أسعار كل شيء، من البقالة إلى الإلكترونيات، وقد أدى احتمال ارتفاع التضخم إلى دفع أسعار السندات إلى الانخفاض، لأن التضخم يجعل مدفوعات الفائدة الثابتة من السندات أقل قيمة بمرور الوقت. ثانيًا، كأي أصل مالي، تتأثر أسعار السندات بطلب المستثمرين، وهناك مخاوف متزايدة من أن سندات الخزانة الأميركية قد تواجه إضرابًا للمشترين، وهو سيناريو يغذيه تصاعد التوترات التجارية وعدم اليقين الجيوسياسي مما يدفع المستثمرين إلى الحذر من الاحتفاظ بالديون الأميركية، وبدلاً من ذلك، يتجه الكثيرون نحو الملاذات الآمنة المحايدة كالذهب والمعادن النفيسة الأخرى، وكما تشير الدلائل، فإن المشترين الأجانب، وخاصةً من آسيا والشرق الأوسط، يتراجعون عن شراء الديون الأميركية، وهو تحول قد يُضعف الطلب ويرفع تكاليف الاقتراض الحكومي الأميركي أكثر. أسهمت إجراءات الاحتياطي الفيدرالي في انخفاض أسعار السندات، خلال نوبات التقلبات الحادة السابقة في السوق، كما حدث في مارس 2020 مع بداية إغلاقات كورونا في الولاياتالمتحدة، وتدخل الاحتياطي الفيدرالي بمجموعة من الإجراءات المصممة لتهدئة الأسواق، لكن هذه المرة، ومع استمرار ارتفاع التضخم فوق هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 %، أصبحت خياراته محدودة للغاية، فأي محاولة لدعم أسواق السندات تُفاقم التضخم، ولم يُطمئن صمت الاحتياطي الفيدرالي هذه المرة مستثمري السندات، الذين اعتادوا على توقع تدخلات مُهدئة في أوقات الشدة. تقلب سوق السندات من غير المرجح أن يكون تقلب سوق السندات حدثًا عابرًا، بل قد يكون مؤشرًا على قلق أعمق وأكثر استمرارًا بين المستثمرين بشأن التوقعات المالية الأميركية، ولسنوات، استطاعت الولاياتالمتحدة الاقتراض بتكاليف منخفضة، حتى مع ارتفاع دينها الوطني، لأن المستثمرين اعتبروا سندات الخزانة الأميركية آمنة وموثوقة، ومدعومة باقتصاد قوي ومستقر، وكان الطلب قويًا لدرجة أن أسعار الفائدة ظلت منخفضة، مما سمح للحكومة بتمويل عجز كبير دون ضجة كبيرة. لكن السياسات غير المنتظمة والهبات المالية الكبيرة، مثل التخفيضات الضريبية غير الممولة، وزيادات الإنفاق ذات الدوافع السياسية، كالزيادات الهائلة في الإنفاق العسكري، تعني أن الثقة بدأت تتلاشى، ويبلغ الدين الفيدرالي حاليًا 100 % من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 118 % خلال العقد المقبل. وهذا أعلى من أي وقت مضى في تاريخ الولاياتالمتحدة، وعلاوة على ذلك، فإن هذه التوقعات لا تعكس بعد إطار الميزانية الذي أقره مجلس الشيوخ في أوائل إبريل، والذي يهدف إلى تمديد وتوسيع التخفيضات الضريبية التي تم تقديمها في عام 2017، وتشير تقديرات مجلس الشيوخ إلى أن هذه التدابير سوف تكلف 1.5 تريليون دولار إضافية على مدى العقد المقبل. ومع ذلك، تتوقع اللجنة غير الحزبية للميزانية الفيدرالية المسؤولة أن تؤدي الخطة إلى زيادة الدين الوطني بمقدار 5.8 تريليونات دولار خلال العقد المقبل، وتشكل مستويات الدين المتزايدة بسرعة، إلى جانب ارتفاع تكاليف الاقتراض، ضغوطًا متزايدة على ميزانية الحكومة، ووفقًا للبيانات الرسمية، تضاعفت مدفوعات الفائدة ثلاث مرات تقريبًا منذ عام 2020، حيث ارتفعت من 345 مليار دولار إلى 949 مليار دولار في السنة المالية 2024. وباعتقادي، فإن هذا النوع من الضغوط المالية، ورد فعل سوق السندات تجاهه، هو الذي جعل ترمب متوتراً بما يكفي لإيقاف الجولة الأخيرة من التعريفات الجمركية، وتستحوذ تكاليف خدمة الدين الآن على نحو 14 % من الميزانية الفيدرالية، مما يجعلها ثاني أكبر بند في الموازنة بعد مدفوعات الضمان الاجتماعي، وتتجاوز هذه التكاليف الإنفاق على الدفاع الوطني وبرنامج الرعاية الطبية. استفادت الولاياتالمتحدة منذ فترة طويلة من قدرتها على الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة، بفضل الطلب القوي على سنداتها، ومع ذلك، فإن تزايد حالة عدم اليقين الاقتصادي وتدهور الوضع المالي يعنيان أن أسواق السندات من المرجح أن تكون أكثر تقلبًا وأقل تسامحًا في المستقبل مقارنةً بالماضي، وإذا ظل ترمب متمسكًا بالرسوم الجمركية كأداة سياسية رئيسة، فقد أعطى هذا الانهيار فكرة واضحة عن كيفية استجابة أسواق السندات، وستؤدي السياسات الاقتصادية التي تزعزع توقعات التضخم وتُعمق المخاوف المالية إلى زيادة التكلفة على الحكومة الأميركية الحالية.