تميز الاسلام السياسي في الجزائر بضعف انتاجه التنظيري. فمنذ وفاة مالك بن نبي، اي قبل ان يتحول الاسلام الى قوة سياسية شعبية مهيكلة تسعى الى الاستحواذ على السلطة لاقامة الدولة الاسلامية، لم يظهر في الجزائر منظر اسلامي من نفس الطراز. وهكذا نجد ان اكبر ديناميكية اسلامية سياسية ظهرت في العصر الحديث في سياق ديموقراطي، وتميزت بضعف يمكن القول انه صارخ في مجال الانتاج الفكري التنظيري. وهذا خلاف ما حدث في البلدان الاسلامية الأخرى كمصر او ايران حيث سبق ظهور حركاتها الاسلامية نشاط فكري تمهيدي واسع. وعلى رغم حساسية المقارنة بين الحركة الاسلامية في الجزائر وبين ثورة التحرير، التي تعد الرابط المشترك بين الجزائريين، فاننا نلاحظ اشتراكهما في هذه الخاصية، اي ضعف انتاجهما النظري بالقياس الى حجمهما كحركتين جماهيريتين واسعتين. واذا امكن ان نفسر ذلك فيما يخص ثورة التحرير الوطنية بكون هذه الأخيرة لم تكن نتاج النخب المثقفة ثقافة عالمة Culture Savante اي بالمعنى الذي نجده عند مولود معمري، فهل التفسير نفسه يسري على حركة الاسلام السياسي الجزائري؟ الملاحظ بهذا الصدد ان جل قيادات هذا التيار تخرجت من الجامعات وبعضها، كعباسي مدني، كان يدرس فيها. لكن مع ذلك نلاحظ ضعف الحركة نظرياً وفكرياً. فقد سيطر على نشاطها، لا سيما بعد الاعتراف بها كأحزاب، الخطاب الشفوي الحماسي العاطفي المسجدي والجماهيري، وأصبحت قوة الحجة قائمة على المقدرة الخطابية وعلى العاطفة الفياضة، اي طغى خطاب القلب على خطاب العقل. وانتشرت هكذا ثقافة السماع، ثقافة الكاسيت والاستعراضات الخطابية القائمة على التأثير الصوتي واللغوي والبلاغي. ومما اضفى هذا الطابع على خطاب الاسلام السياسي في الجزائر احتواؤه على عدد كبير من الأئمة. غير ان تأثير العامل السياسي، اي دافع الوصول الى السلطة، يفسر ايضاً هذا التوجه نحو تفضيل الخطاب العاطفي العقيم على الصعيد النظري والاجتهادي، وكذلك الطابع الضيق والمتحجر لهذه الحركة. وفي ظل فراغ الابداع النظري الاجتهادي والتنويري، ذلك الفراغ الناجم عن الغاء التاريخ، خلا فضاء الاسلام السياسي الجزائري لكتب من نوع "عذاب القبر" و"أهوال القيامة" و"اليوم الآخر" بوصفها غذاء ايديولوجياً لا مندوحة عنه في كل عملية تحول كبرى داخل المجتمع. كما سادت انواع من النزعة الميكيافيلية تجلت مثلاً في توظيف تقنيات لتنمية اتجاهات لاعقلانية ولاعلمية بغرض التحكم والسيطرة على الجماهير. لهذا كله سهل على خصوم الحركة الاسلامية ان يلصقوا بها تهماً كالظلامية والقروسطية وما الى ذلك، قبل ان يتخذوا في مرحلة لاحقة، بدعوى انقاذ الجزائر، قرار حل ممثلها الرئيسي "الفيس" جبهة الانقاذ الاسلامية الفائز في الانتخابات التشريعية. والحقيقة ان ظاهرة غياب الفكر الاستشرافي الذي يأخذ بعين الاعتبار احتمالات المستقبل ليس خاصية من خاصيات الذهنية السلفية الجزائرية وحدها، بل ظاهرة عامة للعقل الجزائري. فهذا العقل لم يتوقع مثلاً انهيار اسعار النفط او ان تقع الجزائر في ما اصبح يعرف بالعشرية السوداء، والاسلاميون بدورهم لم يتوقعوا ان يصابوا بما حدث لهم، كل شيء يوحي اذن بأن الفعل عندنا يسبق الفكر، وبأن المستقبل لا ندركه الا بعد ان يصيبنا ويصدمنا. ان الفقر التنظيري للاسلام السياسي الجزائري يفسر من جهة لماذا لجأت الجبهة الاسلامية للانقاذ الى ارسال فاكس الى الشيخ الألباني بشأن الانتخابات التشريعية قبيل وقوعها، اي استشارة مرجع خارجي بخصوص مسألة وطنية مصيرية، ولماذا من جهة ثانية، "لا يرى"، اي الشيخ الألباني حسب شهادة الشيخ سليم الهلالي، "للجبهة ان تدخلها". وذلك، حسب نفس الشهادة، لأنهم "يحتاجون في اقامة دولتهم الى العالم والطبيب، وهو ما لم يكن متوفراً لهم بالحجم الذي يلائم قيام الدولة الاسلامية". ان السلفية الجزائرية التي عرفت، كما يقول حميدة عياشي، "كيف تغذي افكارها وتنظيماتها من الواقع البائس الذي عانت منه قطاعات عريضة من الطبقات الدنيا والمتوسطة التي لفظتها عملية التحديث "ستكشف بعدما تلفظها هذه المرة عملية الاستئصال السياسي من خلال الحل والمنع، فتلقي بها الى الجبال، ستكشف عن بؤسها الثقافي المدمر عندما يتحول "الاسكافي" و"الحلاق" و"الحداد"، النابعون من صلبها، الى امراء يمارسون التكفير والقتل والذبح باسم الاسلام. ان بروز الحركة الاسلامية كحركة سياسية جماهيرية ذات نزعة سلفية راديكالية معارضة للسلطة كان دليلاً على فشل اسلام السلطة او الاسلام الرسمي كما يجسده موظفوه الدينيون من خلال الخطاب المسجدي ووزارته الوصية او كما تم التعبير عنه في الدساتير التي تعاقبت على البلاد وفي المواثيق المختلفة لا سيما الميثاق الوطني. فالخطاب الرسمي حول الاسلام كما تجلى عبر الجوامع والتلفزيون والوسائل الاعلامية العمومية الأخرى عجز عن الحيلولة دون ظهور حركة تتأسس على رؤية للاسلام منافسة هدفها الاطاحة بالنظام. هذا الاخفاق هو ايضاً اخفاق النظرة الى الاسلام كمرجع للهوية وكدين للدولة دون ان يكون دستورها او برنامجها، وتبعاً لذلك سقوط الصيغة الرسمية لمحاولة التوفيق بين الاسلام والعصر. ان فشل السلطة في حل مشاكل المجتمع كان بطبيعة الحال وراء فشل خطابها الديني. ومن الطبيعي ايضاً ان تؤدي معارضة السلطة، الى معارضة خطابها المتعلق بالاسلام والى رفض موظفيه الدينيين بمختلف انماطهم، من أئمة وفقهاء وخطباء ومسيرين وكتاب ومدرسين، وغيرهم. وهكذا كانت معركة المساجد التي خسرتها السلطة قبل الغاء نتائج الانتخابات التشريعية، مرحلة اساسية في استراتيجية الوصول الى الحكم من طرف الجماعات الاسلامية التي كان الفيس ابرزها. وعندما تحولت السلفية السياسية الراديكالية الى حركة مسلحة بعد حل "الفيس" والغاء الانتخابات، كان قتل العشرات من الأئمة الموظفين لدى الدولة المظهر الذي تجسد فيه رفض الاسلام الرسمي وتكفير ممثليه. ما هي التدابير التي اتخذتها السلطة لاعادة ترتيب الفضاء الديني للحيلولة دون استمرار الاسلام كحركية سياسية تهدد هذه السلطة نفسها؟ ان الاجراء الأساسي قد تمثل، كما هو معروف، في منع الاسلام كخطاب سياسي وبالتالي تكريسه قانونياً كخطاب ديني فقط. وقد أدى ذلك بالأحزاب الاسلامية العاملة في اطار الشرعية الى التخلي على الأقل ظاهرياً، اي على صعيد خطابها اللغوي، عن كل اشارة الى المرجعية الاسلامية لأيديولوجيتها. وقد نجم عن ذلك عملياً احتكار الدولة، ومن ثمة السلطة، للخطاب الديني عبر وسائطها التقليدية المتمثلة في وسائل الاعلام العمومية وبعض المؤسسات الدينية كالمجلس الاسلامي الأعلى الذي تأسس بموجب دستور 1996 ومادته الرقم 171، وكتب التربية الاسلامية المعمول بها في المدارس والجوامع المنتشرة عبر الوطن، تلك الجوامع التي لا تزال توجد بها مع ذلك بعض جيوب المقاومة متمثلة في ما يسمى ب"السلفية العلمية" تميزاً عن "السلفية الجهادية"، اي المسلحة. وتبدو الاستراتيجية المتبعة لاعادة ترتيب وتوظيف الفضاء الديني الوطني خاضعة لرؤية تفتقر الى التكامل، على الأقل ظاهرياً. فمن جهة، كان تأسيس المجلس الاسلامي الأعلى في عهد الرئيس زروال يهدف الى "تشجيع وترقية الاجتهاد لكي تعود الى الاسلام خصاله المتمثلة في التسامح والتفتح على التقدم والحداثة بالاعتماد على قيمه السامية الاخلاقية والروحية"، وهو ما ترجم خلال الأيام التي نظمت في شهر تشرين الأول اكتوبر 1999 في فندق الأوراسي اثناء الملتقى الدولي حول قضايا المرأة والأسرة بين المبادئ الاسلامية والقوانين الوضعية، باصدار رئيسها السيد عبدالمجيد مزيان، المعروف بنظرته الحداثية الى الاسلام، لتصريح يؤكد فيه بأنه ينبغي مراجعة قانون الأسرة المستمد من الشريعة والغاء تعدد الزوجات. ومن جهة اخرى، يلاحظ انبعاث نشاط الزوايا والطرقية، اي الاسلام الصوفي الشعبي الذي عرف اوج ازدهاره في عصر ما قبل النهضة. فمما له دلالة بهذا الشأن، الى جانب انفتاح وسائل الاعلام البصرية العمومية على نشاطات هذه الزوايا، ان أول زيارة اداها يوم العيد، اي يوم 6/1/2000، الوزير الحالي للشؤون الدينية، السيد بوعلام الله غلام الله، وهو من الوزراء القلائل الذين احتفظ بهم الرئيس بوتفليقة من حكومة اسماعيل حمداني، وهو شيخ زاوية في تيارت، كانت لضريح الولي سيدي عبدالرحمن الثعالبي المدفون في العاصمة. فهل هذه الاستراتيجية التي تبدو متناقضة، تعود الى تعدد مصادر القرار المميز للسلطة او ان السعي الى "فتح الاسلام على التقدم والحداثة" لم يحسم بعد؟ مهما يكن فان احياء اسلام الزوايا المهادن سياسياً، له صلة بعجز الوسطاء التقليديين لخطاب الاسلام الرسمي، الذين ثبت فشلهم في صد خطاب الاسلام الراديكالي، وهو العجز الذي يعزى جزئياً على الأقل الى عدم تكافؤ القوة بين الخطاب الديني المحض والخطاب الديني السياسي. ومهما يكن فان احياء الطرقية وتشجيع الزوايا التي يعطي نشاط بعضها طابعاً فولكلورياً للاسلام، من شأنه ان يدعم، وليس العكس، وذلك من باب رد الفعل، توجهات الاسلام الراديكالي. ومن المفارقات ان بعض السياسيين اللائكيين العلمانيين الذين ينعتون انفسهم بالحداثيين والعقلانيين، ويعتبرون على هذا الأساس ان حركات الاسلام السياسي هي حركات ظلامية، يفضلون اسلام الزوايا والطرقية، اي الاسلام الصوفي الشعبي المشوب بالخرافة احياناً، لأنه يمثل الاسلام الذي "ورثناه عن اجدادنا". غير ان هذه المفارقة قد تزول بعض الشيء اذا ما علمنا ان ما يغري اللائكيين الحداثيين في الاسلام "الذي ورثناه عن اجدادنا"، اي في الزوايا والطرقية، هو طابعها المحلي في مقابل الطابع الكوسمبوليتي الذي يحيل الى مفهوم "الأمة الاسلامية" الذي تعمل به الجماعات الاسلامية الراديكالية، رغم وجود تيار "الجزأرة" الذي تمثله الشريحة الأكثر ثقافة في هذه الجماعات. ومما يفسر ايضاً تفضيل الاتجاه اللائكي للزوايا والطرقية، اي للممارسات الدينية الأكثر ابتعاداً عن العقلانية، غياب المسألة السياسية من اهتمامات هذه الجماعات الصوفية الشعبية والتقليدية التي كان قد حاربها عبدالحميد بن باديس في عهد الاستعمار باسم محاربة الشعوذة والخرافات. وربما هناك ايضاً حسابات سياسوية على اعتبار ان المنطقة التي يتمركز فيها سياسياً التيار اللائكي معروفة بانتشار الطرقية في وسط فئاتها الشعبية. مهما يكن فان الاعتقاد بأن اسلام الزوايا يستبعد الاشكالية السياسية من اهتماماته لا يعني عدم الاستكانة للسلطة او الوقوف منها موقف الحياد اذا ما اخذنا بعين الاعتبار سياسة السيد بوعلام الله غلام الله، المعروف بانتمائه الطرقي، الذي يدعو الأئمة وشيوخ الزوايا الى الدعاء لولاة امر هذه الأمة بالصلاح واستقامة الرأي ابتداء من رئيس الجمهورية الى رئيس المجلس البلدي بحجة انهم، اي الأئمة، موظفو الدولة: "يجب ان تدعو لجميع مسؤولي الدولة..." امرهم. وعلى هذا الأساس فان الخاسر الأكبر بعد سنوات من الصراع الدموي في الجزائر، ليس الاسلام السياسي فقط، بل ابن باديس ايضاً الذي يمكن اعتباره الأب الروحي للاسلام الرسمي منذ الاستقلال في الجزائر وربما ايضاً الاتجاه الاسلامي الحداثي الذي يعد عبدالمجيد مزيان من ابرز ممثليه. * كاتب جزائري.