من يريد قيم احترام الآخر واحترام التعدد الثقافي وحقوق الانسان وكرامته، لا يبحث عن ذلك في الحداثة بل من خلال نقدها والوقوف في خنادق اخرى تكافح العنصرية والظلم والعولمة الاميركية. ص 65. يأخذ منير شفيق على الفكر الحداثي دعاة الحداثة أنه يتسم بمنهجية تعتمد على "إصدار الأحكام المتسرعة والاطلاقية عند تناول مجتمعاتنا او تراثنا. وآية ذلك انهم لايجدون فيها الايجابي حتى وسط اكوام السلبيات" من هنا كان نقده الفكر الحداثي ورفضه له ذلك ان هذا الفكر يدعو الى التغيير من باب واحد وطريق أوحد ويرى أن المجتمعات العربية لا يمكنها تغيير حالها إلا من خلال: "نسف اساساتها، إذ لا بد ان تتخلى عن كل ما فيها وما هي عليه، بما في ذلك هويتها ونظرتها الى تاريخها ودينها وان تقتدي بالغرب" مبرراً رفضه هذا بأنه لا يمكن إصدار مثل هذه الاحكام على أمم أوعلى مجتمعات "اتسمت بحيوية عالية للنهوض، فهي لم تترك محاولة للتغيير إلا سعت إليها، وما قامت حركة تغيير او استنهاض الا وجدت في هذه المجتمعات قوى هائلة تسندها وترفدها" خصوصاً ان هذه الاحكام لا تعتمد على "قراءة التاريخ القديم والحديث ولا تقرأ الحركة التي تمور داخل مجتمعاتنا ولا تريد ان ترى ثقل الغطاء الضاغط عليها، ويحتاج من أجل زحزحته الى عوامل خارجية مواتية للحركة الفوارة الداخلية". ومن هنا ينطلق الكاتب نحو هدفه وهو النظر الى مجتمعاتنا وقراءتها على ضوء واقع الحال أو الحقائق، وان يكون تناول السلبيات وجوانب التخلف او النقص أو العجز ملازماً لتناول عناصر القوة والايجابية فيها وإمكانات القابلية للنهوض والاصلاح والتقدم كذلك، خصوصاً أنه يركز على نقطة مهمة وأساسية هي أن "كل حديث عن تغيير دون أن يكون لهذا التغيير أساس داخل المجتمع المعني، أو دون أن تكون ثمة قابلية حقيقية لتحقيقه: يكون مجرد تصور لبناء أو رسم هندسي لبناء دون توفر الحديد والاسمنت والحجارة والأدوات والسواعد والمهارات والقيادات والروحية والوعي". ويحدد الكاتب بعد ذلك مصدر خطأ هذه المنهجية الذي "ينبع من قياسها لمجتمعاتنا على مجتمعات الغرب، أي اتخاذ مجتمعات الغرب نموذجاً وحيداً للحركة والحضارة والحداثة والقيم والعلاقات الداخلية والدولة والثقافة والاعلام والفنون، الامر الذي ينتهي بهذه المنهجية الى عبث، لأنها لا تستطيع ان تحقق مشروعها إلا حين يصبح أهل الصعيد في مصر مثلاً كأهل السويد". من هنا كانت دعوة الكاتب الى أخذ هذه المنهجية بعين النقد لأنها تعتمد الاطلاقية في قراءة السلبيات وقصورها عن قراءة أو رؤية العناصر الايجابية، كما انها تتخذ من نموذج الحداثة الغربية - الاميركية، مقياساً للحكم على مجتمعاتنا "وتبني مشروعها التغيير على أساس الاقتداء بها بل التحول اليها". ومن ناحية أخرى يأخذ على هذه المنهجية أو هذا الفكر الذي يدعو الى الحداثة في البلاد العربية تجاوزه - خلال تقديمه الظواهر الغربية - سياقها التاريخي الذي وجدت فيه وأدى الى ظهورها مما يجعل هذا الفكر يتعامل مع هذه الظواهر "كانجاز انساني يمثل ارقى ما توصلت اليه البشرية، لينتهي الحداثيون الى اعتباره مصير البشرية، أو الى تعميمه على جميع الشعوب" ما يجعل هذه الظواهر الغربية "لا تحمل خصوصية، وانما هي العام الكوني أوالانساني" وهذا بدوره يؤدي الى ان تكون هذه المنهجية قاصرة ومن ثم يكون خطابها صاخباً أو قهرياً هي شروط لازمة لتجاوز "هذا الضعف وذلك القصور". ومن ناحية أخرى نجد أن هذا الصخب "لا يسمع معه خطاب الآخر"، او نستطيع القول ان هذا الخطاب ونتجية لهذا الصخب وهذا العنف يتسم "بالاقصاء والاستئصال" خصوصاً حينما يتعامل "والاتجاهات الفكرية التي تعتمد المرجعية الاسلامية أو تلك التي تحاول تقديم رؤية معرفية مختلفة لمجتمعاتنا وتاريخنا وتراثنا". ففي خطابها "عن "الاصولية" بمعنى الاصولية في القاموس الغربي توضع فوراً كل الاتجاهات الاسلامية بل حتى القومية الاصلية في سلة واحدة مع كل الاصوليات التي ليس لها الحق في الوجود، ولا تعتبر آخر ولا تنطبق عليها مبادئ التسامح والتعددية والاعتراف بالآخر واحترام حقوق الانسان وحرية الرأي" كما أنه خطاب عنفي "قد أعلن حرباً لا هوادة فيها ولا يريد أن يميز بين الاتجاهات المختلفة" على رغم ادعائه أنه فكر "نقيض للأصولية بعيد عن خطاب العنف والارهاب الفكري والتطرف والمغالاة وعدم التسامح وعدم احترام الآخر"، ومن هنا تفتقر هذه المنهجية الى العلمية ولا يمكن لها "أن تنسب نفسها الى عالم المعرفة والعلم والنظرة المتفحصة المدققة، والرؤية الشاملة، والنزاهة التي تبحث عن الحقيقة". لذا كان هدف الكاتب من الرد على اتجاهات الحداثة "التي تتسم بهذه المنهجية وبهذه الروحية" الى جانب "الاسهام في تقديم جهد معرفي في معرفة الحداثة في مرحلتها الجديدة وفي تقويم بعض الاطروحات التي تروج لها" انطلاقاً من المرجعية الاسلامية. ويسعى الكاتب الى تأييد وجهة نظره، فهي قراءة من زاوية أو من خلال مرجعية اسلامية لمواقف عدة أو اطروحات، لذا نتعرف عن قُرب على وجهة النظر هذه بعيداً عن التحديد الايديولوجي غير المفيد في موضعه، فهي قراءة لها مقوماتها وأهدافها وضرورتها الموضوعية، وتدور فصول الكتاب حول محور واحد هو الحداثة والتحديث، في جانبهما السلبي، وليس في الحداثة بل في التوجه العربي ذاته وتوظيفه لمفهوم الحداثة كمنهجية او كسبيل او يقترب من سبل التنمية ولكن عن طريق فهم قاصر لبعض جوانب التحديث. يطرح اشكالية أساسية حول مفهوم الامبريالية الغربية ويرى أنها اكثر ما تتمثل في الابعاد العقدية - الحضارية - الثقافية ويؤكد أهمية حل هذه الاشكالية بعدما أضحت تهدد ب"إعادة النظر في عدد من ثوابتنا الوطنية والعربية والاسلامية، وحول ضرورة اعادة النظر في الموقف من العلاقة بالصهيونية والغرب، وخصوصاً العلاقة بالكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة الاميركية"، لان الامبريالية "اعلى مراحل الرأسمالية". ويأخذ على المذهب الماركسي - اللينيني واصحاب النظريات الليبرالية والاشتراكية - من الوطنيين والقوميين - انهم تبنوا "تبنياً حاراً للحداثة الغربية ونشرها على المستوى العالمي، وعداء ممزوجاً بالاحتقار للثقافات والحضارات الشرقية ولا سيما الاسلامية" واتجه معظمهم بناء على ذلك "الى إحداث القطيعة الكاملة مع الاسلام والتاريخ الاسلامي والحضارة والثقافة الاسلامية"، خصوصاً ان هذا جاء اعتماداً على الفصل المسبق بين الاستعمار ومفهومه "كاستغلال اقتصادي وسيطرة سياسية وعدوان عسكري من جهة، وبين الحضارة الغربية والحداثة الغربية من جهة أخرى" ما شكل سمة من سمات جحافل المثقفين والسياسيين "الوطنيين والماركسيين والليبراليين والديموقراطيين، بل حتى بالنسبة الى بعض الاسلاميين ولو كانوا قلة". وبناء على ذلك كان "هنالك من ينادي بمقاومة الاستعمار والامبريالية بأشكالهما الاقتصادية والسياسية والعسكرية القديمة مع الانخراط الكلي في الوقت نفسه في سياق الحضارة الغربية والحداثة الغربية" متناسين أن هذا الفصل "تعسفي ولا يقوى على الصمود أمام الحقائق الثابتة في العلاقة العضوية التي تربط بين الاستعمار الغربي في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبينه في أبعاده الحضارية والثقافية والايديولوجية الغربية" كما ان السيطرة "لا تتجزأ وتستلزم ايديولوجية وثقافة وحضارة يتبناها الآخر تكرس تلك السيطرة إن لم تجعله يقبلها عن رضا، فالعبد كان دائماً بحاجة الى ان يحمل عقلية العبد وثقافته، المكملتين لعقلية السيد وثقافته". غير أن النظرية الاولى تتخذ لها مفهوماً مغايراً للعلاقة هو مفهوم التبعية والذي بدوره لم يقتصر فقط على كل من المجالات الاقتصادية السياسية والعسكرية انما "في المجال الحضاري والثقافي والايديولوجي كذلك" ما يؤدي الى انتزاع استقلالية الحضارات الاخرى، لذا يؤكد الكاتب على أن انتشار الحضارة الغربية او الحداثة الغربية "ليس تعميماً" لها اذ انها وكما "الحالة الرأسمالية الغربية غير قابلة للتعميم" ولا توجد إلا على شكل "مركز وأطراف أو على شكل مدينة وريف، او على شكل سيد وعبيد" فليس من الممكن ان يكون العالم كله "رأسمالياً مستقلاً متطوراً بمستوى تطور رأسمالية المركز وحداثتها او كما هو حالها" لذا نجد ان هناك اختلافاً عميق الاثر "بين الانتشار الحضاري الغربي عالمياً" وما اتسم به "الانتشار الحضاري الاسلامي" حيث اتخذ الاسلام من مبدأ "الدمج" وسيلة لتحقيق هدفه الانساني من مساواة وعدل واخاء، فلم تقم في تاريخ الاسلام محاولة "لتشكيل محيط تابع وأطراف ملحقة بالمركز" حيث أن ذلك يؤدي الى "تفجير الوحدة الاسلامية او النظام الإسلامي او يجعلها تقوم على ألغام". من هنا كانت دعوة الكاتب للنظر في طبيعة العلاقة المفروضة والمحددة مسبقاً بالحداثة الغربية وهي في حقيقتها علاقة تابع بمتبوع لا أكثر. ويأخذ الكاتب من الوقائع التاريخية دليلاً على ان الغرب في مساره التاريخي وصراعه الطويل اعتمد على فكرة السيطرة ونهب الثروات الخارجية، ما دفع الى الحاجة الملحة الى "احداث تغييرات داخلية في بنية النظام الاقتصادي - السياسي - الاجتماعي - الفكري السائد منذ القرون الوسطى في اوروبا، واحلال نظام جديد يسمح بتطوير الآلة العسكرية - الاسطول، ويسمح بالتعبئة الشعبية الشاملة للأمة حتى تتمكن من اخراج المنافسين واستيطان المناطق المكتشفة جديداً" وهذا النظام هو "النظام الرأسمالي الذي يسمح بكل ذلك، بل يجيء به ليصنع كل ذلك" مما أدى ايضا الى الحاجة الى "مجتمع ديموقراطي ليبرالي يسمح بالتعبئة العامة العسكرية من خلال علاقة مباشرة بين الدولة والافراد" وذلك كله "يفتح الباب لإطلاق المنافسة المجنونة في ما بين الرأسماليين في الداخل"، وما يشهده العالم من "حروب عالمية في ما بين الدول الرأسمالية" ذاتها، كل ذلك ادى الى وصف المجتمعات الغربية "مجتمعات الحراك" في مقابل "مجتمعات الركود والرتابة" وهي السمة التي يتخذها بعض دعاة الحداثة ذريعة لهم "لتعيير مجتمعاتنا وتتفيهها باعتبارها مجتمعات راكدة رتيبة لا يعرف الحراك - كما في الغرب - لها سبيلاً". لذلك كان من الضروري نقد هذا الحراك في الغرب وفهم نزعة الهيمنة والسيطرة التي يقوم عليها، ومبدأ المنافسة الذي يستلزم "أكبر قوة عسكرية ممكنة شرطاً" لوجوده، وهذا بدوره ادى الى السعي "الى تطوير التكنولوجيا وأدوات الانتاج ووسائل المواصلات والاتصالات: الأمر الذي ولد دفعاً متواصلاً لحراك لا يهدأ ولا يفتر". من هنا كان هدف الكاتب في رفض تلك النظرة التي تقدس الحراك في الغرب ومن ثم تقيس حركة المجتمعات العربية بناء عليه على اعتبار أن قياس حركة مجتمعاتنا لا بد أن تكون على "أسس تنطلق من طبيعة الحاجة الواقعية لشحنها بحراك من نمط مناسب" يتواءم والأسس التي تشكلت عليها حال "تحولها الى اسلامية" الى جانب ضرورة دراسة الأسباب "التي كانت تشحن فيها الحراك او تردها الى الركود في تاريخنا الواقعي" والتفكر الجيد "بالشروط التي يتوجب توفيرها لدب حراك جديد في مجتمعاتنا يستند الى حاضرها وما فيها من حراك وحيوية بالرغم مما يعتريها من رتابة وركود" وهو "يسمح في النهاية بالافادة عن عدد من الانجازات العالمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاتصالات" مع ضرورة جعل أهداف واضحة لهذا الحراك والآن جعل هذا الحراك من هدف "غير الحراك والسباق المجنونين". ولا يجد الكاتب مانعاً في أخذ الحداثة الغربية في صورتها المتعلقة "بالتطورات التقنية وثورات الاتصالات والعلوم" شرط أن نرفض الحالة التي "تبقي التقنيات بمصادرها الابداعية بعيدة عن متناولنا" كما يرفض الاستسلام للعولمة الحداثية بل لا بد أن "ننظم دفاعاتنا ونبحث عن نقاط القوة عندنا" لنستطيع المواجهة العاقلة التي تملك من الدراية الكفاية اللازمة لإدارة شؤوننا الداخلية والخارجية واقتحام عالم العولمة الذي يسوغ قانون الغاب "بأقل ما يمكن من الخسائر والمخاطر". ويأخذ الكاتب على بعض الحداثيين الذين يرون ضرورة الاخذ بالحداثة كلها حيث لا يوجد "طريق الى التطور غير ذلك" ويرفضون مبدأ الانتقاء الذي سوغ عملية التفاعل الحضاري الايجابي والمفترض ان يكون بين حضارات متنوعة من دون النظر الى الحداثة الغربية على أنها "حداثة واحدة" متناسين ان طرح الحداثة "اذا استخدم بحدوده اللغوية" من الممكن ان ينطبق على كل "الدول والمجتمعات والافراد فكلهم يعيشون ظروفاً حديثة بالضرورة ويواجهون مشاكل حديثة بالضرورة"، إلا أن استخدام مصطلح الحداثة يقتصر "على ما يشهده الغرب". فالحداثة ليست كلها معروضة ولا يمكن "تعليبها وتصديرها" كأي سلعة اقتصادية، ويأتي اخيراً اعتبار القيم المصادرة التي يرى الكاتب انها مكمن الصراع الحقيقي ولها اولوية الرفض حيث ان ما يأتي من الغرب من قيم واخلاق هابطة و"يروج لها باعتبارها مظهراً من مظاهر الحداثة" يتعارض مع الفكر الاسلامي ومبادئ التوحيد، لذا كان شعار الاخذ بالحداثة كلها دون انتقائية هو القول ب"التخلي عن كل ما عندك دون انتقائية" وينفي الكاتب معنى الحداثة بهذه الصورة مطالباً بضرورة التغيير الايجابي والنهضة الايجابية التي لا تتم بطريق التبعية والاستسلام والتسليم لما هو مخالف لطبيعتنا وتراثنا وقيمنا ومبادئ اسلامنا. * كاتبة مصرية.