عندما اتخذ رئيس قسم الاخبار في القناة الثانية الخاصة في التلفزيون الاسرائيلي شالوم كيتال قراره إعادة بث الصور التي تظهر على شاشة تلفزيون "المنار" التابع ل"حزب الله" اللبناني، قبل نحو عامين، تعرض لانتقاد حاد في أوساط عدة في المجتمع الاسرائيلي. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لبداية جدل لم ينته بعد، عن مدى تأثير هذه الصور التي اتاحت للمشاهد الاسرائيلي أن يرى الجنود والضباط يسقطون أو يفرون هاربين من مواقعهم العسكرية، في تحريك الرأي العام الاسرائيلي نحو المطالبة بتنفيذ انسحاب فوري لقوات الاحتلال. الصور كانت الحافز الأول لشهربار قزامل وثلاث من امهات الجنود الاسرائيليين لتشكيل "حركة الأمهات الأربع" من اجل اخراج الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان. تتذكر رونيت عمياس كيف شاهدت، وهي على شرفة منزلها في كيبوتس "جادوت" المتاخم للحدود اللبنانية، تحطم المروحيتين العسكريتين اللتين كانتا تقلان 73 جندياً وضابطاً إسرائيلياً لتنفيذ عملية واسعة النطاق في الجنوباللبناني. المشهد كما وصفته كان مروعاً. فقد رأت الجنود، وهم يتساقطون، بأم عينها. بالنسبة إلى مجيد وشهربار قزامل كانت الصدمة أكبر، إذ بسبب قرار التلفزيون الاسرائيلي بث صور التقطتها شركة "مولتي كام الاسرائيلية" لما بعد تحطم الطائرة ولحقائب ومعدات لجنود قتلوا تلك الليلة من العام 1997، شاهدا اسم ولدهما على احدى الحقائب وعلما بمقتله، قبل أن يخبرهما الجيش الاسرائيلي بذلك. الصور اثارت عاصفة هوجاء في صفوف اهالي الجنود الذين علموا بمقتل ابنائهم مباشرة من شاشات التلفزيون، وكانت الحافز الاول لرونيت وشهربار لاقامة "حركة الأمهات الأربع". لكن الغالبية العظمى من الاسرائيليين تعاملت مع هذا الحادث على أنه "حادث عمل" لا اكثر ولا أقل. التقديرات تحولت دراماتيكياً عندما شاهد مئات آلاف الاسرائيليين، في نشرة اخبار الثامنة على برنامج "حداشوت" أي اخبار في القناة الثانية، صوراً لجنود جرحى تسيطر عليهم الفوضى ومشاعر الخوف. الصور التقطها مصور "حزب الله" وبثها تلفزيون "المنار" الذي يلتقط بثه في صورة محدودة جداً في القرى العربية المتاخمة للحدود. ويعترف بروفسور الاعلام الأول في اسرائيل اليهو كاتس بأن الصور التي بثها "المنار"، وأعاد التلفزيون الاسرائيلي القناة الاولى الرسمية في ما بعد ايضاً عرضها "سلطت الاضواء ولفتت انتباه الرأي العام الاسرائيلي"، إلى ما يحدث بالضبط في جنوبلبنان". ويقول أنها "عمقت الشعور لدى الاسرائيليين بعدم جدوى البقاء في الجنوب وتأثيره، خصوصاً أن تفاهم نيسان أبريل حد من حرية تحرك الجيش الاسرائيلي في تلك المنطقة". ويوضح أن هذه الصور "شكلت برهاناً دموياً ملموساً للوضع". وتشير البروفسورة تامار ليبس، المحاضرة في علوم الاتصالات في الجامعة العبرية في القدس، الى ان "من الصعب تحديد مدى تأثير هذه الصور في الرأي العام الاسرائيلي الذي اصبحت غالبيته الآن تؤيد الانسحاب الفوري من جنوبلبنان"، موضحة أن استطلاعات للرأي لم تجرَ داخل المجتمع الاسرائيلي، وحتى إذا اجريت، فمن الصعب السيطرة في شكل علمي على الاسباب الحقيقية للتغيير. في الوقت نفسه، تلفت ليبس الى أن كشف المشاهد الاسرائيلي ما يحدث بالضبط في ساحة المعركة ورؤية الجنود الجرحى "عن قرب وفي اللحظة ذاتها" أضيف إلى "العملية التراكمية" التي أوصلت المجتمع الاسرائيلي إلى الاستنتاج أن البقاء في لبنان، في ظل هذه الخسائر الباهظة، بلا جدوى. ويدرك الاسرائيليون، عموماً، اثر الصور العميق في نفوسهم. وعلى سبيل المثال تقول البروفسورة الاسرائيلية المتخصصة في "إعلام الارهاب" أن عدد الجنود الاسرائيليين الذين قتلوا هذا العام، على سبيل المثال، لم يرتفع مقارنة بالاعوام الماضية ولكن وبسبب الصور يمكن القول إن "الوعي" في الشارع الاسرائيلي ارتفع الى درجة اعلى. "العملية التراكمية" أنشأت وضعاً في الداخل الاسرائيلي ينتمي فيه 72 ألف شخص الى حركة "الأمهات الأربع" التي يترأسها وزير العدل في الوقت الحالي يوسي بيلين من زعماء حزب العمل، وحملت رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك على التعهد، في اوج حملته الانتخابية في ايار مايو الماضي، وهو لا يزال يتمسك بتنفيذ هذا التعهد. وساهمت فيها وسائل الاعلام المرئية الاسرائيلية التي وجدت في صور مصوري "حزب الله" مادة غنية تعبر عما تحدث عنه الجنود الاسرائيليون في وسائل الاعلام المقروءة منذ زمن طويل. ويقول مجيد قزامل، والد احد الجنود الاسرائيليين الذين قتلوا، إن الاسرائيليين لا يشاهدون، في معظمهم، سوى وسائل الاعلام الاسرائيلية، لذلك وعلى رغم التقاط بث تلفزيون "المنار" في القرى الحدودية، فالمواطنون العرب هم الذين يشاهدونه بالفعل، بينما يتحول الاسرائيليون الى تلفزيونهم الذي يتحدث بلغتهم. من هنا اكتسبت هذه الصور "صدقية" أكبر لدى الرأي العام الاسرائيلي "لأن التلفزيون الاسرائيلي بثها". وفي المقابل، يتحدث الاعلاميون البارزون في اسرائيل، امثال كيتال، أن "الرقيب العسكري" الاسرائيلي يصعب عليه، في عصر الاقمار الاصطناعية والكوابل والانترنت التي يحظى موقع "حزب الله" فيها باهتمام متزايد من الاسرائيليين، مراقبة "القرية الصغيرة" التي تسمى العالم. الجدل والنقاش الاسرائيلي الداخليان في شأن "نوعية" الصور التي يتوجب بثها، لا يقتصران على صور العمليات العسكرية التي ينفذها مقاتلو "حزب الله"، بل يتجاوزهما بعض الاسرائيليين إلى المطالبة بعدم تصوير الجنازات العسكرية للجنود الذين يقتلون في الجنوباللبناني. وراح البعض يأمر الجنود بألا يبكوا امام عدسات الكاميرا في هذه الجنازات. وأياً يكن تأثير الاعلام المتلفز أو ما يسمى "الحرب النفسية والاعلامية"، يبدو أن الاسرائيليين يؤيدون انسحاباً فورياً من جنوبلبنان، ليس لاقتناعهم بأن "الاحتلال" خطأ ويجب تصحيحه، بل لأنهم يريدون وقف النزيف المستمر هناك.