كان شعوراً كئيباً للغاية، وأنا أستمع الى كلمات تأبين المرحوم الفنان المسرحي الكويتي محمد السريع، كان الزمن يسير ببطء شديد، كما ان للكلمات وقعاً جنائزياً ثقيلاً على أذني وقلبي، لذا لم اكد اخرج من صالة المسرح حتى عببت هواء كأنني كنت على وشك الاختناق. نظرت في وجوه الحاضرين فوجدت الحزن والوجوم والتجهم ترسم جميع خطوط ملامحهم، فأصبت بثقل الجو ومأسويته غير المبررة، ووددت انتهاء المناسبة بأسرع وقت ممكن. كنت أتساءل بسخط داخلي: لماذا تكون مناسبات تأبين المثقفين والفنانين والأدباء أشبه بجلسات العزاء؟! وما السر في تشابهها المقيت وكأنها نغمة مكررة لقرص مدمج استهلك بفظاظة ووحشية؟ كان الفنان محمد السريع من اكثر الفنانين اضحاكاً للناس، كان يشيع الفرح والسرور حتى بين اصدقائه، ولعله لو كان حاضراً حفلة تأبينه لرفض بشكل قاطع هذا الاسلوب بالاحتفاء بأعماله وجهوده وتاريخه المسرحي المديد. صحيح ان الفنان او الأديب يجب ان يكرم في حياته قبل رثائه بعد مماته، لكن آخر ما ينتظره هذا الفنان هو تعبير "مناقب" على غرار "كان انساناً طيب القلب رحيماً، صديقاً وأباً... الخ". وحتى الفيلم السينمائي الذي عرض لحياة محمد السريع صاحبته موسيقى تصويرية حزينة سوداء. وفي ظني ان افضل تكريم لمبدع هو تقديم ابداعه بشكل أو بآخر من دون كلمات، اذ ان الابداع الذي قضى هذا المبدع سنوات عمره وجهده في إبرازه هو أكبر وأقوى من أي كلمات مصطنعة باردة وباهتة، تقتل الحياة بوداع يناقض صيرورة التاريخ. فقدت الكويت رواداً في الثقافة والابداع، وستفقد جميع المبدعين في وقت ما، هكذا طبيعة الأشياء وهكذا طبيعة الدنيا، وأيضاً فقدت الساحة العربية عمالقة في الفن والأدب، لكن عمر الابداع اطول بكثير من عمر المبدعين انفسهم، وتعبير "الخلود" يرتبط بشكل واقعي بالأثر الذي لا يفنى، وليس بالاجساد القابلة للفناء لأبسط الأسباب. كانت هناك تجارب ايجابية للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت لتأبين المثقفين، اظنها اكثر تحضراً من الاحتفالات الجنائزية وجلسات العزاء الكئيبة والعميقة. فمثلاً كرم المجلس الموسيقيين الرائدين احمد الزنجباري وحمد الرجيب، بأن اقام ليلة موسيقية خاصة لكل منهما، اضافة الى معرض صور فوتوغرافية يمثل تاريخهما، بحيث تستطيع الاجيال القادمة التواصل والتعلم من خلالهما. وكرم أيضاً رائد القصة الكويتية فهد الدويري، والمثقف الرائد عبدالرزاق البصير، بإقامة ندوتين حول اعمالهما وإبداعاتهما، اضافة الى معرضي صور فوتوغرافية تشرح مسيرة حياتهما من دون كلمة رثاء واحدة. ولا شك ان مثل هذه التجارب جدير بأن يحتذى من جميع الجهات الرسمية والأهلية، فكلمات الرثاء تذهب ادراج الرياح، ويبقى الإبداع ما بقي البشر، تلك تقتل الحياة فينا، وهذا يجعلنا نبتسم. * كاتب كويتي.