حين يتناهى إلى سمعك أن مبدعاً قد حمل أوراقه ورحل عن هذه الدنيا، فإنك ربما تشعر بنوع من القشعريرة .. وقد تذهب بعيداً فيكون تعاطفك معه حسرة وألماً.. قد تسطر أبياتاً في رثائه.. تمجد ذكراه وتهب لنصرة قضيته، إن كانت له قضية.. هذا ما يستطيع المبدعون والمثقفون أن يصنعوه فليس لديهم الإمكانات لحفظ تراثه من الضياع أو من الاستغلال.. ولذلك فهم يقومون بأضعف الإيمان - الاحتفاء.. هذا ما حصل مع تراث الراحل عبد الرحمن منيف مؤخراً وهذا ما حصل مع الراحلة أمل الجراح قبل أيام، فإذا كان الأول روائياً وكاتباً من الطراز الأول ملأ مكتبات الوطن العربي براوياته عن شرق المتوسط ومدن الملح وأرض السواد فإن الثانية شاعرة سطرت بجراحها آمال الإنسان فغدت بصمتها واضحة في دواوينها التي بدأت تنتشر في الأسواق منذ عام 1971م. بين الرواية والشعر ثمة ارتباط .. وبين المبدعين ومحبيهم ثمة دين متبادل.. فمن يستحق تسديد الدين أولاً؟ (1) ذهبت المدن وبقي الملح!! (لا يعلم الإنسان على أي ارض يولد ولا وفي أي ارض يموت ) هذا ما قاله الروائي الراحل عبد الرحمن منيف الذي ولد في عمان ورحل إلى دمشق التي احبها و أمضى بها بقية أيام عمرة ،وجمع بعد وفاته محبوه وأصدقاؤه من ( سورية ولبنان والأردن والعراق والسعودية ومصر )في حفل أقيم في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق وغص بالحضور الذين جاءوا وفاءاً للراحل. حوارات إعلامية بدأ حفل الوفاء بفيلم وثائقي تضمن مقتطفات من حوارات إعلامية وآرائه تناولها منيف عن منطقة شرق المتوسط وتحدث عن روايته (شرق المتوسط) التي هي قراءة عميقة للمجتمع وليست لحظة إبداع فقط ومدن الملح التي تذوب عند أول موجة ماء . وألقى صديق الراحل طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية كلمة قال فيها: ها نحن نتراصف هنا مرة أخرى لنتبارى في رثاء الغد لقد بتنا محترفين رثاء يا أبا عوف جاهزة أوراقنا وأقلامنا لرثاء المبدعين ويأتيني صوتك لماذا لا تحررون أبناءكم منكم لقد ذهبت مدننا وبقي الملح يا أبا عوف.. وأضاف: ما أكثر الكتاب ما أقل الأقلام ما أقل رواد الغد أيها النجدي في اليمن..أيها السوري في العراق..أيها العماني في مصر. مخاطبة الحاضر ثم ألقى الياس خوري كلمة بدأها بالقول: أسمح لنفسي بأن أخاطبك بوصفك حاضرا فالعلاقة بين الحضور والغياب تشبه العلاقة بين اسم المؤلف وأسماء الشخصيات في الصفحات اذ يأخذنا المؤلف في روايته الى حيث ننساه وتصدقنا شخصياته القول وتحاورنا وتكشف لنا صدق المعاني ودور الكاتب ان يخلص للنص، خصوصا في مجتمعاتنا العربية الخرساء حيث تحول المجتمع الى أسيرا للحضيض والمهانة.. أضاف خوري: كنت تبحث عن الواقع الذي يتفوق على الخيال فحولت الحكاية استعارة راسما عبر ألم أبطالك أفقا مكتوبا بحبر سري كان عليك ان تقرأه كي تستطيع كتابته ورأينا آثار التعذيب على كلماتك في شرق المتوسط مرتين فجعلت الصمت يتشقق بالكلمات مثلما تتشقق أجساد السجناء بالقيح. وطنك لغتك أرضك سواد كلمتك في انتظار أن يستعيد المواطن الوطن وتستعيد الحرية الأرض.. والقى صديق الراحل حميد مرعي كلمة مؤثرة عن علاقته بالراحل عبد الرحمن منيف الإنسان وليس الكاتب .ثم ألقى الشاعر اللبناني طلال حيدر قصيدة باللهجة العامية مطلعها اسأل ضل السؤال حطَ الملح على الجرح الأفكار مسئولية فردية أما الناقد الدكتور فيصل الدراج فقد نقل الأسئلة التي طرحها على الراحل منيف خلال جلساتهم فقال: سألت عبد الرحمن منيف وأنا أحاوره في مدن الملح وارض السواد لماذا يعطي شخصيات، تقول شبه جملة في الرواية ،أسماء مع إنها لن تعود الى القارئ في النص فأجاب منيف:إن في ذكر الأسماء ما يعبر عن الاحترام والألفة وحين تعطي انسانا مجهولا اسما فأنت تحاوره والروائي لا يحسن التعامل مع أشخاص روايته إلا إذا احترمها.أضاف دراج وعند ما سألته لماذا لا تكتب عن فلسطين أجاب من الصعب علي أن اكتب عن موضوع لم أعشه ولم أتعرف على تفاصيله..أن الرواية ليست اختراعا او تلفيقا، وقال منيف في شرق المتوسط السجون تتشابه كما تتشابه أحلام البشر في انهيار السجون.. وسألته والكلام ل د .فيصل دراج لماذا يكتب عن الصحراء بدفء كبير ؟ فأجاب منيف الصحراء هي البراءة والفضاء الحر ولكن ما اكتب عنه هو بطولة المكان فللمكان كيانه الخاص به وهو مخلوق من نوع خاص يتنهد ويتوجع ويجب احترامه كما نحترم البشر.. وعندما قال دراج ل منيف انه يكتب بسرعة قال منيف ان كتابا قادمون سيطورون ومهمتي ان اطرح الأفكار فطرح الأفكار مسؤولية فردية وتطويرها مسؤولية جماعية والحياة قصيرة ولا يجب الانتظار طويلا، لقد رأى منيف في القاهرة امام جامع الازهر طفلا يجلس على الارض ممسكا قلما وسط الغبار والشمس والذباب وعندما سأله ماذا يفعل قال انه يكتب واجباته المدرسية فقال منيف هذا مشهد يعيشه الإنسان ولا يكتب عنه أن هذا الطفل يعطينا درسا في التحدي والمقاومة بهدوء ويسر، بلا كلمات كبيرة. وختم الدكتور دراج كلمته عن علاقة منيف مع الكاتب المسرحي سعد الله ونوس اذ قال منيف : ان موت سعد الله ونوس قصم ظهري. لست مسكيناً اما الفنان السوري بسام كوسا فقد قرأ بعض ما كتب الراحل عبد الرحمن منيف مرددا كلماته: لا اطلب منكم الرحمة ولا أريد عفوكم ان كنتم محسنين فامنحوا صدقتكم المتسولين فأنا لست مسكينا ولا اعتبر نفسي قاطع طريق ومع ذلك فان لدي مشكلة ومشكلتي أن الأم يعتصر قلبي.. ان المعادلة واضحة الديمقراطية اولا الديمقراطية دائما وفي البداية يكون الحوار الذي يكون بإقرار ثلاث مسلمات جوهرية وهي الاعتراف بالآخر وان الحقيقة نسبية موزعة والاعتراف بالحوار في جو متكافئ، ويعتبر المثقف هاجس منيف وليس هناك مثقف حيادي إذ يجب أن يكون مع التقدم في زمن الانهيارات والهزائم. التفرغ للكتابة وتحدث صديق منيف الطبيب أسامة النقيب وقال ان أهم قرار أخذه منيف هو قرار التفرغ للكتابة وظن أصدقاؤه انه سيشتاق للعمل السياسي ويعود، ولكنهم علموا بعد ذلك انه يوسع دائرة نضاله ويخلق منصة حرة عن طريق الكلمة لقد انتزع نفسه من مشاغل العمل اليومي لانه كان مسكونا بهموم أمته وبعد قراءتك ل منيف تصبح أوسع إدراكا لقضية الوطن . يا للوعة الغياب.. الهدية والعقاب من برلين قدم صديق الراحل الفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي لحضور حفل الوفاء وقال : لقد كنا شبابا ونحلم بمستقبل عادل للعالم الثالث وكان مرسمي في (عين الكرش ) أحد ضواحي دمشق هو مكان لقائنا حيث لا تزال رائحة الألوان التي يسجل منيف أنها تلحقه في غمرة الاكتشاف والدهشة ، لقد حضر في التسعينات الى مرسمي في برلين مع الروائي جمال الغيطاني وجلب لي ما قال لي عنه انه عقاب وليس هدية وكان عبارة عن مجموعته الروائية مدن الملح رحلة طويلة وتحدثت رفيقة دربه السيدة سعاد منيف (التي بدت أشد نحولا واكثر شحوبا) عن زوجها الراحل قائلة : انه كان مؤمنا في بداياته السياسية على الانفتاح وان الأدب قادر على أن يقول شيئا مختلفا بعيدا عن الشعارات لقد كان يقول دائما أن على المرء أن يخرمش واعتقد انه خرمش طويلا قبل ان يغادر ،كان يتمنى بعد انتهاء مذكراته ان يقدمها بالشكل الصحيح فالمذكرات كما يقول ليست ثرثرة مجانية ولكن لم يسعفه القدر وظلت مذكراته بين حنايا كتبه، انها رحلة طويلة من التيه الى الأخدود لم نكمل ما نكتب ونكتب مع الآخرين ومن خلالهم وتخللت كلمات أصدقاء الراحل منيف مقاطع غنائية للفنانة نعمى عمران وختام حفل التأبين بمعزوفة شجية عزفها على العود الفنان العراقي نصير شما ولمدة اكثر من نصف ساعة وسط صمت رهيب من الحضور بسهم نفذ الى اعمق نقطة في القلب. في ذكرى رحيل الشاعرة أمل الجراح كانت امرأة استثنائية.. واجهت الموت بصلابة هي الحبيبة وانا العاشق أتلفت حولي لعلي ألقاها هنا او هناك احببتها أبداًوسأحبها ابداً علمتني كيف اصمد في كل هذه العذابات كانت تواجه الموت بصلابة وكبرياء اقول صادقا انها كانت امرأة استثنائية متميزة تميز الذهب من الحديد بهذه الكلمات تحدث الاديب ياسين رفاعية زوج الشاعرة امل الجراح فأبكى الحضور الذين غصت بهم قاعة المنتدى الاجتماعي بدمشق في الحفل الذي اقيم في دمشق وفاء للراحلة الشاعرة امل الجراح بعد رحلة عناء مع المرض ، ولدت الراحلة من أبوين سوريين في مرج عيون في لبنان عام 1945 وانتقلت مع العائلة الى فلسطين وعندما تزوجت من الأديب ياسين رفاعية عاشت في لبنان وانجبت بسام ولينا، عانت مشاكل في قلبها المرهف منذ عام صدر لها اربعة دواوين شعرية اولها صدر في عام 1971 بعنوان "رسائل امرأة دمشقية". انها أمل "العندليب في الغابة" او " مرأة من شمع وشمس وقمر" او "بكاء وكأنه البحر" تلخص هذه الاعمال دموعها والمها ومعاناتها ورحلتها مع حياة صعبة . فيلم وثائقي في بداية الحفل عرض فيلم ضم نبذات من حياة الشاعرة الانسانة ثم القى مدير المنتدى الاجتماعي السيد مأمون الطباع كلمة قال فيها : "لماذا يغادروننا باكرا ؟ ماتت امل الام والزوجة وبقيت امل الشاعرة كما بقي نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وعبد الرحمن منيف ثم قرأ بعض ابيات من قصيدة للراحلة امرأة متعددة وارسلت الاديبة والشاعرة السورية غادة السمان رسالة عبر الفاكس قالت فيها :كيف أتحدث عن امرأة متعددة وعن امرأة غزيرة مثل امل لن اتحدث عن الشاعرة لن اتحدث عن الام المثالية بل عن جانب روح المقاومة والعناد فأربعة عقود ونيف وهي تتحدى واستمرت تشاكس الموت ويشاكسها وتناوره ويناورها الى ان جاءني خبر موتها مضرجا بطعم الفاجعة.. لقد حافظت مثل ياسين رفاعية على لهجة "الشوام"وعاداتهم لتظل روحها مثل روح دمشق اقدم مدينة في التاريخ".. رفض الحياة أما الأديب عادل ابو شنب فقد قال : "لأجلك ياسيدتي رضخنا..ونخاطبك ياسيدتي في تأبينك لا لنشكو بل لنتعلم منك كيف جعلت العذاب والألم مفردات مضاءة وتجاوزت ما هو ادنى الى ما هو اعلى واهم.. اريد ان اردد عن ارادتك الصلبة..قلبك كان يرفض الحياة لكنك رفضت الاذعان للقلب المريض..أنجبت وابدعت وخلقت جنة من وهج المرض والحرب والغربة". الهم الذاتي وتحدث الناقد عبدالله ابو هيف عن الشاعرة المبدعة فقال: لم يمنعها المرض من الارتقاء بأبداعها والارتقاء بالاحساس الشعري بعيداً عن الهم الذاتي شأنها شأن الكثير من المبدعات العربيات . اما الكاتب عبد الله الناصر فقد ارسل كلمة عبر الفاكس من لندن ليرثي ليلا بلا قناديل.. لقد كانت امل نقوش زخارف , عالمها عالم بسيط انيق منسوج من الضوء أشبه بساحل مفتوح للشمس والريح.. اما صديقتها الاديبة السورية جمانة طه فقد قالت عن اميرة الحزن والكبرياء : هاهي امل ترحل وتشعلنا حسرة عليها وشوقا اليها نعيش ذكراها وننتظر دورنا.. الختام ياسين رفاعية الزوج والأديب والصديق قال في ختام الامسية : "هي الحبيبة وانا العاشق..احببتها ابدا وساحبها ابدا.. احتوتني يكل اخطائي وتصرفاتي الصبيانية.. كانت تخاف علي من خوفي عليها انها امرأة استثنائية مميزة..مثقفة بتلقائية عجيبة مسالمة عقلانية وعاطفية في تماه غريب.. وشكر العديد من الأقرباء والأصدقاء واضاف انه الموت أعود من حيث جئت الى المدى الأرحب تتداخل الروح والظلال تنكشف السماء ينطق القلب الحبيس من قفصه المكسور الى الأبعد الأبعد حتى تبدو الأرض خرزة زرقاء تغرق في البحر ويأكلها الحوت. امل الجراح عبدالله ابو هيف