اختيار الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ولادة طفل ألباني في إقليم كوسوفو الذي يعيش أوضاعاً مضطربة وغير مستقرة والخارج للتو من حرب أهلية وتصفيات عرقية دامية في تاريخ 12 تشرين الأول اكتوبر الماضي ليدشن بلوغ تعداد سكان العالم ستة بلايين مليارات نسمة ودخول العالم الوشيك ألفية جديدة، يحمل مفارقة أكثر من دالة. فالعولمة التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة وأصبحت كلمة السر للتعامل مع الحاضر والولوج إلى المستقبل تثير من الغموض والتناقض لدى عدد متزايد من الناس في مناطق مختلفة من العالم. شعبة الأممالمتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية أصدرت تقريرها بعنوان "العالم في ستة بلايين" وتضمن معطيات إحصائية أبرزها: شهد القرن العشرون نمواً سكانياً انفجارياً فخلال هذا القرن زاد عدد سكان العالم من 65،1 بليون إلى ستة بلايين نسمة ومن المتوقع أن يتزايد سكان العالم خلال القرن الجاري ليستقر إجمالي العدد عند عشرة أو 11 بليون نسمة في نهايته، إذا حافظ العالم على مستويات نموه الحالية. تحققت هذه الزيادة الانفجارية في عدد السكان على رغم اعتباره من أكثر القرون إفناء للبشر ولأعمال العنف من جراء تتابع حربين عالميتين مدمرتين مات فيهما ما يزيد عن 65 مليوناً، ناهيك عن مقتل عشرات الملايين في حروب إقليمية ومحلية وأهلية، وموت الملايين من جراء المجاعة والعنف والكوارث الطبيعية. وأعرب أنان في رسالة الأممالمتحدة في مناسبة يوم الأممالمتحدة حول السكان "عن الصدمة التي تصيب المرء لحقيقة أن الناس أصبحوا في مناطق كثيرة معرضين اليوم لأعمال العنف والوحشية"، وعبر عن مخاوفه من "مناخ العالم الآخذ بالتغير بطريقة من شأنها أن تدمر بيوت الملايين وسبل رزقهم"، موضحاً "أن مهمة السيطرة على هذه العملية وإدارتها ستكون أكبر التحديات التي ستواجهنا على الإطلاق". وقال: "إن العالم يتطلع إلى الأممالمتحدة لحمايته من الجوع والعنف والكوارث الطبيعية عندما تبدو المهمة أكبر من أن يتسنى للدول أو المناطق الاضطلاع بها وحدها". غير أنه اعترف قائلاً: "إننا في الأممالمتحدة لا نستطيع أيضاً أن نفعل شيئاً بمفردنا. فقوتنا هي قوة دولنا الأعضاء عندما يتفقون على العمل من أجل الصالح العام". وتفيد المعطيات الإحصائية بأن الزيادة في سكان الأرض في العقد الأخير من القرن الماضي تجاوزت عدد سكان الأرض في عام 1600 وتزايد عدد سكانها منذ عام 1950 عما كانت عليه الزيادة في عدد السكان خلال الأربعة ملايين عام الماضية، غير أنه يلاحظ خلال العقود الثلاثة الماضية انخفاض معدل إنجاب المرأة الواحدة في الدول النامية من ستة أطفال إلى أربعة ومعدل وسطي عام يصل إلى 8،2 طفل للمرأة الواحدة. وشهدت دول أوروبا وأميركا الشمالية واليابان مستويات متدنية من النمو السكاني وصلت إلى 1،0 في المئة و9،0 في المئة و2،0 في المئة على التوالي في حين تعاني دول أوروبا الشرقيةوروسيا نتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة من نسبة نمو سلبية. وتعتبر نسبة النمو في الدولتين الأكثر كثافة بالسكان أي الصين والهند 2،1 بليون و 953 مليون منخفضة نسبياً إذ تصل إلى 1 في المئة و 8،1 في المئة على التوالي. وعلى هذا الأساس يقدر المحللون التابعون للأمم المتحدة أن معدل النمو يتباطأ. وإذا استمرت الاتجاهات الراهنة فإن معدل النمو في سكان العالم سوف يكف عن التزايد مع نهاية القرن الجاري. من أهم الأسباب التي أدت إلى زيادة معدلات السكان على رغم الحروب والكوارث والمجاعات التي عصفت بالقرن الماضي تتمثل في الثورة الصناعية التي سارعت من معدلات النمو التاريخية والثورة الصحية التي شملت العالم بمستويات مختلفة وأدت إلى اكتشاف الأمصال والمضادات الحيوية، ما أسهم في انخفاض نسبة الوفيات لدى الأطفال وزيادة معدل العمر لدى الكبار. في حين يعزو الخبراء السبب في تراجع معدل الزيادة في السكان إلى عوامل قد تبدو متناقضة أحياناً فهنالك من يعتبر أن التطور الاقتصادي وزيادة تكاليف أعباء الرعاية للأطفال وازدياد نسبة التعليم ونزول المرأة إلى ميدان العمل وتحقيق استقلالها الاقتصادي هي من العوامل التي ساعدت على الحد من الإنجاب ويدللون على ذلك في انخفاض معدلات الزيادة في السكان والإنجاب. في البلدان الصناعية المتطورة مثل أميركا الشمالية وأوروبا واليابان واستمرار المعدلات المرتفعة للإنجاب والتكاثر في المناطق الأكثر فقراً وتخلفاً مثل إفريقيا خصوصاً البلدان الأفريقية جنوب الصحراء وبعض مناطق آسيا ومن بينها الدول العربية حيث وصلت نسبة النمو في السكان في البلدان العربية إلى 3 في المئة سنوياً وهي من المعدلات العالية عالمياً. وتكمن المفارقة في أن سكان العالم زادو بمقدار أربعة أضعاف خلال 150 عاماً الماضية غير أن كمية الغذاء التي أنتجت نمت بمعدل أسرع. ومع ذلك يتزايد العجز في مجال توفير الغذاء لسكان الأرض الحاليين فماذا ستكون عليه الحال عندما يتضاعف عدد السكان بمقدار خمسة بلايين. منذ عشر سنوات أجرت الأممالمتحدة دراسة عن التنمية المتواصلة ذكرت فيها أن اقتصادات الدول النامية لا بد من أن تتضاعف ما بين خمسة إلى عشرة أضعاف ليصبح الفقراء في مستوى معيشة مقبول، ويعني ذلك مزيداً من الطلب على الغابات والآبار والمراعي في ظل تدهور البيئة وشح المياه والتصحر والجفاف وتلوث الطبيعة والانحباس الحراري واقتلاع الغابات. ووفقاً لتقديرات الخبراء، فإنه تم استغلال الموارد الطبيعية منذ عام 1955 بما يتجاوز استغلال البشر لها على مدى التاريخ. ومع أهمية هذه العوامل غير أن المشكلة تعود في درجة أساسية إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة في العالم التي تفتقر إلى التوازن والعدالة والمساواة. السكان والاقتصاد تفيد عملية الحراك الإجتماعي والتغير المستمر للتوزيع السكاني بأنه في حين كان 38 في المئة من سكان العالم يعيشون في المدن عام 1975 زادت النسبة إلى 45 في المئة في عام 1995. ومن المتوقع أن تزداد إلى 54 في المئة في العام 2015. ومعظم هذه الزيادة 90 في المئة تتركز في البلدان النامية التي تحتوي على ما يزيد عن 80 في المئة من عدد سكان العالم. وتكتظ المدن الكبرى في البلدان النامية بأحياء الصفيح وما يسمى بأحزام الفقر إذ يعيش السكان وغالبيتهم مهاجرون أو متحدرون من أصول فلاحية وريفية وبدوية حياة مهمشة تطحنهم البطالة ويفتقرون إلى السكن والمياه النقية والرعاية الصحية والتعليم ما يجعلها بؤراً لتفجر أعمال العنف والجريمة وإنتشار المخدرات وألأوبئة. مثل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد في القاهرة في أيلول سبتمر 1994 خطوة مهمة على صعيد بلورة القضايا الرئيسية ومحاولة إيجاد حلول للمعضلات التي تواجة العالم في ضوء الزيادة المتنامية في عدد السكان وبخاصة البلدان النامية وما يترتب عليها من نتائج سلبية تطال مجمل العملية التنموية أو ما أطلقو علية التنمية المستديمة. وتطرقت الوثيقة الأساسية للمؤتمر إلى الصلات القائمه ما بين السياسة السكانية والنمو الإقتصادي والمساواة بين الجنسين وتعزيز دور المرأة ومساواتها مع الرجل إضافة إلى تنظيم الأسرة وحق الإجهاض والتعليم والصحة ومشاكل الهجرة الداخلية والخارجية بفعل الأوضاع الإقتصادية أو نتيجة لإندلاع الحروب الأهلية والنزاعات الحدودية وتفشي العنف ما بين الجماعات العرقية والأثنية الدينيه والمذهبية وتأثيرها على التوزيع السكاني. وإنبري للدفاع أو الإعتراض أ و التحفظ على صيغة الوثيقة الأساسية اناس وقوى وتيارات وجماعات من مشارب وتوجهات سياسية وإجتماعية وعقائدية ودينية مختلفة والعديد من ممثلي بلدان الجنوب من منطلقات متباينة. وتركز الاعتراض الأساسي على كون الوثيقة تجاهلت مصالح العالم الثالث وأنها صيغت وفقاً لمنظومة قيم ومفاهيم وأفكار مرتبطه بنسق حضاري وثقافي هو نتاج مجتمع الغرب أو دول الشمال ولم تأخذ في الإعتبار منظومة المصالح والقيم والأفكار والعقائد والممارسات الإجتماعيه التي تخص الشعوب الاخرى ما يعني فرض نموذج حضاري تعبيراً عن المركزية الغربية واحد على الآخرين. وأن ما يجري هو إعادة هيكلة ديموغرافية العالم وتحديد طرق تنمية بلدان الجنوب وفقاً لنظرة تتفق والمصالح الإستراتيجية البعيدة المدى للنظام العالمي بزعامة الولاياتالمتحدة ومشاركة بلدان تنتمي الى الشمال عموماً الأمر الذي من شأنه ضمان إستمرار الالحاق وتعميق التبعية ضمن نظام العولمة وبغض النظر عن الكلمات الكبيرة والمصطلحات المنمقة والحديث عن وحدة المصالح الكونية وهو لا يلغي حقيقتها بل هو تأكيد لها، فإن المؤتمر لم يخرج بصياغه حقيقية لتوصيف المشكلة وإيجاد الحلول الصحيحة لها. وهو بهذه الصفة يندرج ضمن سلسلة المؤتمرات التي شهدها العالم في مرحلة ما بعد إنتهاء الحرب الباردة مثل مؤتمر الطفولة في 1990 ومؤتمر الأرض في البرازيل 1992 والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في جنيف 1993 ومؤتمر التجارة العالميه في المغرب 1994 ومؤتمر القمة الإجتماعية في كوبنهاغن 1995 ومؤتمر المرأه في بكين 1995 والتي صدرت عنها مئات التوصيات والقرارات من دون أن تأخذ طريقها نحو التطبيق إما لجهة عدم مصلحة أو رغبة أو قدرة الاطراف والبلدان خصوصاً الاطراف الفاعلة في التقيد بتلك السياسات والأهداف أو لغياب الآليات الفعالة التي تضمن تنفيذها. المشهد العالمي شديد التباين والاختلاف على رغم الحشد البلاغي عن وحدة مصالح البشرية والحضارة العالمية المشتركة. ويكفي أن نلقي نظرة على مشاهد البؤس والفقر والجوع والحروب والتخلف والأمية الذي تعيشه الغالبية الساحقة من شعوب وبلدان الجنوب مقارنة بالغنى الفاحش والتطور الاقتصادي والتقدم العلمي والثقافي لعالم الشمال. فدول الشمال تحتكر 80 في المئة من الإنتاج العالمي وتسيطر على 80 في المئة من التجارة الدولية وتستهلك 80 في المئة من موارد الأرض بينما تبلغ حصة البلدان النامية، وهم يشكلون 80 في المئة من سكان العالم، 20 في المئة من التجارة العالمية و20 في المئة من الانتاج العالمي ويستهلكون20 في المئة من موارده. وصفت الثمانينات بالعقد الضائع للغالبية الساحقة من بلدان الجنوب وأدى فشل خطط التنمية الى تعمق انكشاف اقتصادات تلك الدول على نحو خطير يهدد بكوارث واشاعة عدم الاستقرار وخلخلة التماسك الاجتماعي وزيادة تهميش المرأة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي وتضاعف نسبة العاطلين عن العمل، خصوصاً وسط الشباب الذين يشكلون ما يزيد عن 50 في المئة من السكان. ووفقاً لتقديرات البنك الدولي ارتفع عدد الاشخاص تحت خط الفقر وتقل مداخيلهم عن دولار واحد في اليوم من 1.3 بليون نسمة عام 1993 الى 1.6 بليون نسمة في نهاية عام 1998، ويوجد اكثر من 1.5 بليون انسان في بلدان العالم الثالث يفتقرون الى الرعاية الصحية والمياه النظيفة الصالحة للشرب، ويعاني 60 في المئة من السكان انتشار الأمية. ومع ان البطالة أصبحت سمة عامة في العالم غير انه وفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإنها تؤثر في بليون انسان او نحو ثلث القوة العاملة في العالم وجلهم ينتمون الى العالم الثالث. وفي حين يصل معدل عمر الانسان الى 75 سنة في البلدان المتطورة، فإن المعدل ينخفض إلى اقل من 50 سنة في البلدان النامية. اما معدل الوفيات لدى الاطفال فهو 8 لكل ألف في الدول الغنية مقابل 64 لكل ألف في الدول النامية. والشيء الوحيد الذي تتفوق فيه البلدان النامية هو زيادة معدل المواليد لكل امرأة. فمتوسط انجاب المرأة في العالم الثالث يبلغ 3.3 لكل امرأة مقابل 1.6 لكل امرأة في البلدان الغنية، وهو ما سينعكس في ارتفاع متوسط عدد السكان في البلدان النامية من 4.75 بليون نسمة في عام 1998 الى 8.2 بليون نسمة في عام 2050 مقارنة بمتوسط زيادة عدد السكان في البلدان المتطورة من 1.16 بليون نسمة الى 1.18 بليون نسمة للفترة نفسها. وفي الوقت نفسه تجد البلدان النامية نفسها ومن دون أمل تغوص في الديون التي بلغت 1534 بليون دولار عام 1993 بعد ان كانت 1350 بليون دولار عام 1990. وتضاعف مجموع الديون الخارجية للبلدان النامية اكثر من 13 مرة في عقدين فقط اذ كان 100 بليون دولار في عام 1970 فأصبح 1350 بليوناً في عام 1990. وبلغت الديون المستحقة وفوائدها 200 بليون دولار في عام 1989 وهو ما يفوق مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة والقروض والمساعدات. واستناداً إلى احصاءات منظمة "اونكتاد" لعام 1989 عن التجارة والتنمية نجد انه منذ بداية عام 1982 أصبحت الموارد تتدفق من البلدان النامية الى الدول الصناعية الغنية. ففي عام 1983 خرج من تلك البلدان 42.1 بليون دولار ووصل الى 44.8 بليون دولار في عام 1988 باستثناء الاموال الضخمة المودعة باسم الأفراد والمؤسسات الخاصة في الخارج، واذا اضفنا اليها الاموال المخصصة للتسلح فإنه يصل الى ما يقارب 150 بليون دولار في عام 1988 فقط. ورافق ذلك تعمق العجز في ميزان المدفوعات بفعل تقلص الطلب على صادراتها من المواد الخام وانخفاض اسعارها وارتفاع اسعار وارداتها من المواد الغذائية والسلع المصنعة والسلع الانتاجية والخدمات ولم ينج من ذلك حتى الدول المصدرة للبترول حين هبط سعر البرميل من النفط الى ما دون عشرة دولارات في عام 1998. وقدرت خسارتها بحوالي 52 بليون دولار في السنة الماضية فقط بل ان السعر الفعلي بالأسعار الحقيقية لا يتجاوز سعر النفط في مطلع السبعينات ما قبل طفرة الاسعار أي في حدود 3 دولارات. وأشار أحد تقارير منظمة "الغات" إلى ان حوالى 40 في المئة من صادرات اكبر الدول النامية تتأثر بشكل مباشر بقيود الحماية الجمركية التي تطبقه الدول الصناعية التي تنتج انتاجاً محلياً مماثلاً، في حين تحتكر 15 شركة غربية احتكارية تسويق ما نسبته 85 في المئة من محصول البلدان النامية من الكاكاو والشاي والنحاس والبن والرز والقطن. وبلغ معدل الانخفاض في أسعار 36 سلعة اساسية تنتجها البلدان النامية حوالى 35 في المئة خلال الثمانينات مقارنة بفترة السبعينات، وهو ما انعكس في تدهور نصيب بلدان الجنوب من التجارة الدولية وانخفضت مشاركة تلك البلدان من اجمالي الصادرات العالمية من حوالي 25 في المئة في عام 1955 إلى 11 في المئة عام 1980. والسؤال: هل بالإمكان فصل التنمية الاجتماعية العالمية عن البيئة الاقتصادية والسياسة الدولية خصوصا في ظل العولمة وتدويل مختلف فروع الانتاج ورأس المال والتجارة والخدمات مع ما يرافق ذلك من استقطابات حادة بين دول المركز وشركاتها العملاقة المتعددة الجنسية ودول المحيط التي تشكل اطرافها؟ ما يميز البيئة الاقتصادية العالمية هو الميل الحاد لعدم المساواة سواء في داخل البلدان والمجتمعات المتطورة او في ما بينها وبين بقية البلدان النامية او في داخل بلدان الجنوب ذاتها وذلك بفعل ديناميكية رأس المال الباحث أبداً عن المزيد من الأسواق والاستثمار وتعظيم الارباح بغض النظر عن النتائج المروعة التي يخلفها. عولمة الفقر إن عولمة الفقر واتساع نطاق الفجوة ما بين دول المركز والأطراف على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية هو نتاج الاختلالات الهيكلية المزمنة للاقتصاد العالمي في ظل عولمة تقودها حفنة من الشركات العملاقة المتعدد الجنسية 500 شركة عملاقة تنتمي أساساً إلى دول الشمال الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان وتمارس من خلال فرض برامج "التثبيت والتكيف الهيكلي" هيمنتها الكونية الشاملة على مقدرات البشرية قاطبة بما في ذلك المجتمعات الصناعية الغنية. ومن المفيد الإشارة إلى مآل التجربة المأسوية لدول "المعجزة الاقتصادية". فحتى الأمس القريب كان يجري تسويق ما أطلق عليه "النمور الآسيوية"، كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايوان وسنغافورة وأندونيسيا وماليزيا، باعتبارها تمثل نموذجاً للبلدان النامية في إمكان تجاوز حال التخلف واللحاق بركب التقدم الصناعي الاقتصادي لدول الشمال. ومن دون الدخول في الملابسات والعوامل التاريخية التي دفعت بهذه الدول لتحتل موقعاً مهماً في الخريطة الاقتصادية الدولية منذ مطلع السبعينات وحتى ازمتها الاخيرة التي تفجرت في مطلع 1997 اعتمدت تلك البلدان استراتيجية تصدير السلع والمنتجات من خلال استقدام القروض والاستثمارات الأجنبية التي استفادت من رخص الأيدي العاملة وتدني تكاليف الانتاج والقرب من الاسواق الضخمة والاعفاء الضريبي او ضآلة الضرائب. وأدت تلك السياسات الى نتائج ملموسة في ارتفاع مستوى الدخل القومي وتحسين مستوى الحياة ودخل الفرد وتحقيق معدلات مرتفعة في الانتاج والتصدير غير ان هذه السياسة بالذات أدت لاحقاً الى الكارثة من خلال المضاربات المالية والتلاعب بسعر الصرف وانكشاف المديونية الداخلية والخارجية على نحو خطير مترافقا مع استشراء حالات الفساد والرشاوى في كل حلقات الادارة بما في ذلك المستويات العليا للحكم والاجهزة الحكومية ذات الطابع التسلطي. فقد قدرت الثروات الشخصية للديكتاتور الاندونيسي السابق الجنرال سوهارتو وعائلته بأكثر من 30 بليون دولار في حين تمت ادانة رئيسين للدولة في كوريا الجنوبية والعديد من الوزراء والمسؤولين في دول شرق آسيا بتهم بالفساد وقبض الرشاوى والعمولات. وهكذا بمجرد استشعار الرساميل الأجنبية بالخطر سارعت إلى النزوح وفي الوقت نفسه طالبت البنوك والمصارف الأجنبية الدولية والخاصة باستعادة ديونها الضخمة وفوائدها المتراكمة. وسرعان ما تبين مدى هشاشة وضعف القاعدة الاقتصادية التي تقوم على ثلاثية اقتراض - تصنيع - تصدير ما أدى إلى انهيارات متتالية شملت مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وتحول الفائض إلى عجز وانهارت العملات الوطنية بصورة مخيفة وتدنى مستوى النمو الذي كان يقدر قبل الأزمة بين 6 إلى 7 في المئة سنوياً إلى ما دون الصفر. وأدى التراجع إلى انهيار البورصة وسوق العملات وإقفال المؤسسات والمصانع التي أعلنت إفلاسها ما تسبب في فقدان الملايين من الأجراء لوظائفهم، وإلى تدمير الطبقة الوسطى. فالنمور الآسيوية تحولت خلال بضعة أشهر إلى نمور من ورق. وأصبحت تحت قبضة البنوك والمؤسسات المالية الدولية التي فرضت عليها إجراءات صارمة مقابل تقديم المزيد من القروض والمعونات المالية. وتمثلت تلك الإجراءات في سياسة إعادة الهيكلة والتثبت الاقتصادي وفحواها تحرير الأسواق وإلغاء الرقابة المالية وتعويم العملة وإقفال المؤسسات الخاسرة ورفع أسعار الدعم عن المواد الأساسية وتخصيص المشاريع العامة لصالح رأس المال الخاص والأجنبي. ولدى التطرق إلى تجربة روسيا ودول شرق أوروبا مع استثناءات قليلة لأسباب معروفة التي اندمجت بوتائر سريعة بشروط الرأسمالية وطبقت بأمانة ما جعلها تتدهور في فترة قياسية. فانتشر الفقر والبطالة وتدنت معيشة الأغلبية الساحقة من السكان وبانهيار عملتها وارتفاع الأسعار والتضخم. فالروبل فقد خلال أزمة آب اغسطس 1998 في غضون بضعة أسابيع أكثر من 60 في المئة من قيمته، فانهارت سوق البورصة والأسهم وأقفلت البنوك أبوابها وأعلنت الحكومة الروسية عجزها عن تسديد فوائد ديونها وتغطية رواتب الموظفين وأجور العمال المتأخرة لشهور، في حين بلغت المديونية الخارجية 140 بليون دولار وتدنى الإنتاج الصناعي حوالى 50 في المئة بين 1989 - 1995. وأدى تفكيك المنشآت الصناعية العسكرية والمدنية إلى الاستغناء عن ملايين العمال، فتدهورت القوة الشرائية الفعلية إلى أكثر من 80 في المئة وتصاعدت معدلات الجريمة وانتشار المخدرات والاتجار بالرقيق الأبيض وارتفاع معدل الوفيات لدى الأطفال وانخفاض معدل العمر الوسطي للإنسان من 70 إلى 50 سنة. أدت سياسة "العلاج بالصدمة" التي فرضتها المؤسسات المالية الغربية واعتمدتها حكومة بوريس يلتسين إلى سيادة سوق تحكمها ليبرالية متوحشة ومتفسخة وهي مزيج من المافيا والرأسمالية الطفيلية المتحالفة مع الطغمة الحاكمة الفاسدة التي عملت بنشاط على تدمير مقومات البلد وشجعت على السوق السوداء التي تقدر بعشرات البلايين من الدولارات سنوياً، إلى نهب منظم للأموال والمساعدات والقروض الأجنبية تصل إلى بلايين الدولارات. وفي الواقع إن مجتمعات الدول الصناعية الغنية والمتطورة ليست بريئة فهي مسؤولة عن تلك الاختلالات الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة. فالمعروف أن الدول الغربية شهدت على امتداد ثلاثة عقود تقريباً 1945 - 1970 فترة ازدهار تمثلت في تدخل الدولة في العملية الاقتصادية - الاجتماعية من خلال "التصالح التاريخي" ما بين رأس المال والعمل، ما أدى إلى تقديم تنازلات مهمة على الصعيد السياسي والحقوقي واضطلاع الدولة بدور اقتصادي واجتماعي تمثل في تأميم المرافق الأساسية للانتاج والخدمات. واستطاعت الرأسمالية على امتداد ثلاثة عقود من تجاوز أزماتها الدورية وطورت قوى الإنتاج والتكنولوجيا والعلوم مع الحفاظ على الحد الأدنى الضروري لمبدأ العدالة في التوزيع وإشاعة الحريات الديموقراطية العامة التي كفلها الدستور. غير أنه ومنذ بداية السبعينات بدأ التخلي تدريجاً عن هذه السياسة والتوجيهات لأسباب وعوامل مختلفة وهو ما مهد الطريق للأخذ بسياسة الليبرالية الجديدة دشنتها الثاتشرية 1979 والريغانية 1980 وأبرز مؤشراتها الهجوم على دور الدولة والدعوة إلى استقالتها من وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية لصالح قوى السوق وقصر دور الدولة على تأمين الحدود والأمن وجباية الضرائب وبعض الوظائف الهامشية. أدت هذه السياسة في ظروف العولمة والتدويل المتسارع للانتاج والتبادل والتسويق وحركة رؤوس الأموال المستندة إلى ثورة المعلومات والاتصالات والمعرفة والتكنولوجيا الرفيعة إلى اختلالات بنيوية عميقة على صعيد البلدان الصناعية المتطورة كما هو على صعيد العالم بأسره وتمثل ذلك في اتساع حدة الفوارق الاجتماعية وبروز البطالة الهيكلية الدائمة واتساع نطاق الفقر وتدهور مظلة التأمينات الاجتماعية وتقلص الرعاية الصحية والخدمات التعليمية المجانية وإعادة تخصيص المنشآت الحكومية والعامة والقيام بأكبر عمليات دمج للمنشآت والشركات العملاقة المتعددة الجنسية. أدت الليبرالية الجديدة إلى اتساع نطاق البطالة والفقر في مختلف البلدان الصناعية الغنية. فقدر متوسط البطالة في أوروبا الغربية ما بين 7 إلى 13 في المئة، في حين يقدر عدد الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر ب50 مليون نسمة. وارتفعت في اليابان نسبة البطالة من 2 عام 1991 إلى 5،4 في المئة في عام 1998. و.قدرت السلطات اليابانية وجود عدة ملايين يعيشون تحت خط الفقر وفي الولاياتالمتحدة على رغم استقرار اقتصادها النسبي في السنوات الأخيرة مستفيدة من ديناميكية اقتصادها واتساع سوقها وعدم تأثرها مباشرة بالأزمة الآسيوية والروسية والبرازيلية وقوة عملتها وتحسن ميزانها التجاري الذي يرجع جزئياً إلى انخفاض فاتورة استيرادها من النفط وفرت 18 بليون دولار في فاتورتها النفطية لعام 1998 ومع ذلك تعتبر أكبر دولة مدينة ويتجاوز دينها الداخلي والخارجي إجمالي ناتجها القومي الإجمالي. وفي الوقت نفسه فإن هنالك 5،5 في المئة من العمال العاطلين بصورة دائمة وتزداد هذه النسبة إلى 13 في المئة بين الأقليات العرقية. ووفقاً للاحصاءات الأميركية، يعيش 30 مليوناً تحت خط الفقر، كما تقلصت مداخيل العاملين بما في ذلك الطبقة الوسطى. إلى ذلك، تشهد البلدان الصناعية تزايداً لمعدلات الجريمة وانتشار المخدرات وتفشي العنصرية وتدهور مستوى التعليم والرعاية الصحية وتعمق الفوارق الاجتماعية. ففي الولاياتالمتحدة قفزت الحصة من الثروة التي يملكها 1 في المئة من الأميركيين من 25 في المئة من إجمالي الثروة في عام 1969 إلى 39 في المئة في عام 1997. وتجاوز الدخل الإجمالي لأغنى 5 في المئة من الأميركيين لدخول 40 في المئة من مجموع الشعب. أما على الصعيد العالمي، فإن ثروة 358 شخصاً من أصحاب البلايين تفوق دخل 45 في المئة من السكان الأكثر فقراً في العالم أي 6،2 بليون نسمة. إن الفصل التعسفي للقضايا الاجتماعية عن البيئة الاقتصادية والسياسية الدولية وتصوير النتائج والإفرازات الاجتماعية الخطيرة للأنماط الاقتصادية السائدة باعتبارها قضايا مستقلة من شأنه تشويش الرؤية وحجب الجذور الحقيقية للأزمة التي تتمفصل حولها كل أشكال المعاناة واللامساواة التي تطبع حياة كل المجتمعات والبلدان، خصوصاً مجتمعات الجنوب ومن بينها البلدان العربية. ويجب أن لا يفهم من هذا تحميل الغرب وحده تبعات كل السياسات والنتائج المدمرة والمشاكل التي تعصف بمجتمعات الجنوب، إذ ينبغي التأكيد على دور النخب السياسية المحلية الحاكمة ومسؤولياتها عن النتائج والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية المروعة، وعندما يجري الحديث عن الإصلاح الاقتصادي وحرية السوق فإنه يغفل غالباً الجانب السياسي. كذلك أنه من المتعذر فصل التنمية الاقتصادية عن أبعادها الاجتماعية وفي مقدمها العدالة والمساواة والتكافؤ في الفرص بين أفراد الشعب. قيل وكتب الكثير عن ضرورة التكيف وإعادة الهيكلة الذي يؤدي إلى النمو إلا أن الواقع يؤكد زيف هذا الادعاء. النمو توقف وتراجع على مختلف الأصعدة ويبدو المستقبل كئيباً ولا يغير من صورة المشهد بعض النجاحات النسبية التي شهدتها بعض بلدان الجنوب، وخصوصاً الصين. * كاتب سعودي.