انطوى القرن العشرون على اشكالات كبيرة تحمل مخاطر جدية على البشرية اذا لم يتم تداركها على نحو جذري من الأمن البيئي الى الامن الاجتماعي الى الامن الدولي والسلام بين الامم والشعوب. ولعل الفقر واتساع الهوة بين الاغنياء والفقراء من اعقد الاشكالات الموروثة من القرن الماضي والتي تواجه الانسانية في بداية هذا القرن مهددة بالمزيد من الصراع والتناقض وتبديد الآمال. حتى ان تقرير التنمية البشرية الصادر عن الاممالمتحدة لعام 2000 رأى ان القضاء على الفقر لم يعد تحدياً إنمائياً رئيسياً فحسب، بل بات يمثل تحدياً ايضاً في ما يتعلق بحقوق الانسان. فعلى رغم التقدم العلمي والتكنولوجي وارتفاع الناتج الاجمالي العالمي من 3 آلاف بليون دولار عام 1960 الى 5،28423 بليون دولار عام 1998 يظلّ البؤس الاجتماعي وازدياد الفقراء بوتيرة مطردة من الظواهر المربكة لحركة التقدّم الانساني. من هنا اعتبر تقرير التنمية البشرية لعام 2000 ان التحرر من الفقر البشري وتمتع جميع الناس بحقوق متساوية وبمستوى معيشة لائق هو هدف اساسي للتنمية البشرية لان "الفقر المدقع والاستبعاد الاجتماعي يشكلان انتهاكاً لكرامة الانسان" على ما جاء في مؤتمر فيينّا العالمي لحقوق الانسان عام 1993. ويتخذ الفقر بهذا المفهوم معنى اشمل واوسع من مجرّد الافتقار الى الدخل الذي اصبح تعريفاً تقليدياً، فالافتقار الى الدخل يمثّل وجهاً واحداً، وإن مهماً من حقوق الانسان التي يجب ان تشمل توسيع القدرات المهمة لجميع الاشخاص وهي ان يعيش المرء حياة مديدة صحية وخلاّقة، وان تكون لديه معارف وان يتمتع بمستوى معيشة لائق وبالكرامة وباحترام الذات واحترام الآخرين. باختصار ان الفقر البشري هو الحرمان من الاشياء القيمة التي يستطيع الفرد ان يفعلها او يكوّنها. وعلى هذا الاساس تكون حقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مترابطة ترابطاً سببياً. تميّز النصف الثاني من القرن الماضي بتصاعد اعداد الفقراء والاتساع المطرد للفجوة بين الاغنياء والفقراء. فقد كان عدد فقراء العالم 400 مليون عام 1970 وتضاعف هذا العدد عام 1980. وها تقرير التنمية البشرية لعام 2000 يشير الى 2،1 بليون فقير في الدول النامية وحدها - دخل الفرد اقل من دولار يومياً - والى ان 30 الف طفل يموتون كل يوم بسبب الفقر، بينما يفتقر اكثر من بليون نسمة الى المياه المأمونة و4،2 بليون نسمة الى الصرف الصحي اللائق. ويذكر التقرير ان 150 مليوناً من عمال العالم كانوا متعطلين في نهاية عام 1998. وأن الفجوة بين الخمس الاغنى والخمس الافقر من سكان العالم اتسعت من 1 الى 30 عام 1960، الى 1 الى 74 عام 1998. وفي الوقت ذاته بلغت ثروة أغنى 200 بليونير 1135 بليون دولار في عام 1998، اي ما يعادل دخل 5،2 بليون نسمة او 47 في المئة من سكان العالم، بينما 582 مليون نسمة في البلدان الافقر لا يتجاوز دخلهم الجماعي ال146 بليون دولار. وبحسب تقرير التنمية البشرية لعام 1998 بلغت ثروة ثلاثة اشخاص اكثر من مجموع الانتاج المحلي الاجمالي لافقر 48 بلداً في العالم. وتعاني الدول المتقدمة ايضاً من الفقر البشري معاناة جدية، حيث هناك 100 مليون شخص يعيشون دون الخط الرسمي للفقر و5 ملايين من دون مأوى و37 مليوناً عاطلين من العمل. ويورد تقرير التنمية البشرية لعام 2000 نسباً مئوية للّذين يعيشون تحت خط الفقر في بعض دول الشمال الاكثر تقدماً كالولايات المتحدة 17 في المئة وايطاليا 13 في المئة واستراليا 12 في المئة وكندا وبريطانيا 11 في المئة. في هذه اللوحة المتناقضة والقاتمة لعالم نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين يمثّل الفقر البشري احد التحديات الاساسية التي يواجهها العرب في تاريخهم المعاصر. اذ ان اكثر البلدان العربية ذات الثقل السكاني تقع في مرتبة متأخرة من حيث التنمية البشرية بين دول العالم ال174 - من تونس 101 الى اليمن 148. ومع ان القليل من البلدان العربية يصدر بيانات بالنسب المئوية للاشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، الا انه في العالم العربي الآن ما بين 90 و100 مليون فقير، بما في ذلك 73 مليوناً، على الاقل، تحت خط الفقر، إضافة الى 10 ملايين عاطل من العمل. وتشير دراسات وأبحاث متعددة الى انهيار الطبقة الوسطى العربية التي كانت مطلع القرن العشرين تشكِّل فئة ضئيلة من السكان الذين ينقسمون الى عامة - الاكثرية الساحقة - وخصوصاً - اقلية ضئيلة - ثم اخذت تتنامى بنشوء التعليم والمهن الحرة ونشوء الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية وبتزايد وظائف الدولة، حتى باتت تمثل شريحة اساسية في المجتمع العربي. ولقد ادى انهيار هذه الطبقة الى تراكم الفقراء العرب في احزمة الفقر المحيطة بالمدن العربية التي باتت تشكّل وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2000 اكثر من 56 في المئة من العرب، والى تفاقم الهوة بين الاغنياء والفقراء منذ الثمانينات بسبب تراجع الدولة عن بعض فضاءات القطاع العام وبسبب الخصخصة وحرية السوق. ويتضاءل باستمرار نصيب الققراء من الدخل القومي قياساً الى الاغنياء. فإذا أخذنا افقر 20 في المئة من السكان نجد ان نصيب الفقراء نسبة الى الاغنياء 9،5 الى 3،46 في تونس، و7 الى 6،42 في الجزائر، و8،9 الى 39 في مصر، و6،6 الى 3،46 في المغرب، و1،6 الى 1،46 في اليمن، و6،7 الى 4،44 في الاردن. هذه الارقام كافية في حد ذاتها للدلالة على فداحة التفاوت الاجتماعي وعلى ضآلة نصيب الفقراء من الدخل القومي في العالم العربي، وهي تأتي مؤكدة انقسام هذا العالم الى طبقات على عكس الدراسات الاستشراقية التي حاولت وتحاول طمس هذه الحقيقة بتأكيدها الانقسامات العرقية والقبلية والطائفية. من هذا المنطلق توجه باحثون عرب منذ خمسينات القرن العشرين الى دراسة الطبقات الاجتماعية التي تكوّنت منها المجتمعات العربية تاريخياً والى رصد التحولات الراهنة في كل قطر من الاقطار العربية. وبالاستفادة من الدراسات التي قدمها اكثر هؤلاء، فان المجتمعات العربية تميّزت بالانقسامات الطبقية الحادة، إضافة الى الانقسامات الفسيفسائية الاخرى، حتى ان سعد الدين ابراهيم يعتقد ان نظام الانقسام الطبقي هو من ابرز ملامح النظام الاجتماعي العربي الجديد، تشكِّل فيه الاقطار العربية النفطية الغنية إضافة الى الاقطار العربية الميسورة ذات القاعدة الاقتصادية المتنوعة قمة الهرم الطبقي العربي تليها البلدان التي تقع عند وسط الهرم مثل سورية وتونسوالاردن والمغرب، ثم الاقطار العربية الفقيرة التي تشكل قاعدة هذا الهرم العريضة وتشمل مصر والسودان وموريتانيا والصومال. اما على مستوى الدخل الاجمالي للفرد في العالم العربي كما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2000 فيتراوح دخل الفرد بين 280 دولاراً و290 دولاراً في اليمن والسودان، و20200 دولار في الكويت. وفي إحدى الدراسات الاجتماعية الحديثة - المجتمع العربي المعاصر في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، تموز يوليو 2000 - رأى حليم بركات ان فجوة عميقة واسعة ومتزايدة تفصل بين الاغنياء والفقراء في البلدان العربية كافة، اكان بالنسبة لتوزيع ملكية الاراضي والعقارات او توزيع الثروة، او احتلال مواقع النفوذ والمكانة الاجتماعية. وبذلك تكون البنية الطبقية في المجتمع العربي ككلّ بنية هرمية تتشكل قاعدتها الواسعة من الطبقات الدنيا. ولم تؤد مشاريع التأميم والمساعدات وانتشار التعليم وسياسة الضرائب التصاعدية على تغيير هذه البنية الهرمية، إذ ان الفجوة الواسعة بين الاغنياء والفقراء استمرت مرتفعة وظل التفاوت الاجتماعي الصارخ يميّز البنية الاجتماعية في ظل الانظمة الانقلابية. ففي الجزائر يحوز 3 في المئة من السكان على اكثر من 25 في المئة من الدخل بينما نصف الشعب الجزائري من الفقراء - الحياة 30/10/2000. وفي مصر نشأت في ظل الثورة الناصرية طبقة مترفة جديدة استأثرت بجزء كبير من الثروة في حين كان اكثر من 77 في المئة من المصريين من الفقراء. وفي ذلك الوقت كانت حوالى 140 الف اسرة في القاهرة تعيش كل اربعة منها في غرفة واحدة - عادل حسين، الطليعة، كانون الثاني يناير 1972. وفي العراق انتهت شعارات البعث ووعوده بالعدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص والاشتراكية الى ما شهدناه من مآسي الفقر والجوع والحصار التي يتعرض لها الشعب العراقي منذ غزو الكويت الى الآن. لقد انتهت كل هذه المشاريع والشعارات الى عكس ما بشرت به لانها لم تذهب الى الاسباب الجذرية لاشكالية الفقر العربي، تلك التي يجري تجاهلها عادة لدواع ايديولوجية او سياسية هدفها طمس الوقائع او تزييفها. إذ طالما طُرحت اشكالية الفقر في العالم العربي انطلاقاً من ايديولوجيا وحدوية ترى العرب امة واحدة موحدة، لا اقطاراً لكل منها ذاتيته وخصوصيته، فتصنّف هذه الاقطار غنية وميسورة وفقيرة، على ما فعل سعد الدين ابراهيم حتى ليبدو وكأن الفقر العربي إنما سببه اختلال الدخول بين الاقطار العربية. وفي ذلك تناسٍ لما هو قائم فعلاً على الارض - الاقطار - باسم امة عربية لا تزال وحدتها من الامنيات. فالفقر في العالم العربي عائد اولاً الى خلل في البنية الاجتماعية والاقتصادية لكل قطر من الاقطار العربية لا الى الخلل في توزيع الثروة القومية التي نقر بضرورة توظيف فائضها في تنمية الاقطار الفقيرة من منطلق ايماننا بالوحدة العربية وبضرورة التكامل الاقتصادي بين العرب. وهذا الخلل الكبير يرجع في نظرنا الى: أ- التوزيع اللاعادل للثروة الوطنية. فنصيب الفرد من الدخل القومي وفق دليل التنمية البشرية لعام 2000، 350 دولاراً في فييتنام و810 دولارات في سريلانكا. بينما هو 1240 دولاراً في المغرب و1290 دولاراً في مصر و17870 دولاراً في الامارات العربية المتحدة. ومع ذلك فإن معدل معرفة القراءة والكتابة هو 9،92 في فييتام و1،91 في سريلانكا، في حين هو 6،74 في الامارات العربية المتحدة و7،52 في مصر و1،47 في المغرب. ويشير تقرير التنمية ذاته الى ان النسبة المئوية للفقر هي 3،20 و2،28 في سريلانكا وفييتنام بينما هي 4،38 و3،32 في المغرب ومصر. ويمكن ان نستنتج ان النخبة الثرية فيب العالم العربي لا تتحمّل مسؤولياتها في تنمية مجتمعاتها والارتقاء بها. ففيما تتضاعف باضطراد اعداد الفقراء والاميين في العالم العربي، اوردت الاحصاءات الاخيرة اسماء 16 بليونيراً عربياً بين ال225 بليونيراً الاغنى في العالم. ب- المجتمع العربي هو مجتمع استهلاكي غير منتج يعتمد على الاستيراد في اكثر حاجاته. فقد بلغت وارداته 8،32 في المئة من ناتجه الاجمالي قياساً الى الدول النامية 2،30 والعالم 2،23. أما قواه الانتاجية وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2000 فهي الأضأل في العالم باستثناء الدول الاكثر تخلُّفاً، بحيث بلغت نسبة الإعالة في البلدان العربية 73 في المئة عام 1998 قياساً الى البلدان المتقدمة 6،49 والبلدان النامية 7،61. وبالمقارنة مثلاً بين العرب واسرائيل يظهر التفاوت الهائل في الدخل القومي والانتاج العلمي. فالعالم العربي الذي يفوق اسرائيل ب50 ضعفاً في عدد البشر و600 ضعف في المساحة، لا يبلغ دخله القومي الاجمالي سوى خمسة اضعاف الدخل الاسرائيلي فقط. أما من حيث الانتاج العلمي فتتعدى نسبة تسجيل الاختراعات العلمية في اسرائيل، نسبة للسكان، الألف مثل مجمل البلدان العربية بحسب نادر فرجاني في "العرب ومواجهة اسرائيل" مركز دراسات الوحدة العربية، 2000. أما نصيب المرأة العربية من القوى الانتاجية فيبقى دون ال39 في المئة وهي النسبة الاقل في العالم من دون استثناء - الدول النامية 1،66 والعالم 8،67. ج- التزايد السكاني المتسارع والمترافق مع هدر الموارد والطاقات. فمعدل النمو السكاني في العالم العربي 8،2 هو الاكبر في العالم حتى قياساً الى الدول النامية0،2. لقد تضاعف عدد السكان العرب 8 مرات في خلال القرن العشرين، وتضاعف مرتين تقريباً بين عامي 1975 و1998 ويتوقع ان يصل عدد السكان العرب الى اكثر من 365 مليون نسمة عام 2015. وفي المقابل لا يزال الانفاق العسكري يفوق الانفاق على التعليم والصحة في حين يتبدد شطر كبير من الاموال العربية على استيراد التقنيات غير المنتجة. فقد ذكر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن ان الشرق الاوسط كان اكثر مناطق العالم شراء للاسلحة عام 1999 وان 60 بليون دولار ذهبت ثمناً للاسلحة في هذا العام - الحياة 20/10/2000. من هذه الحقائق يجب ان تُطرح اشكالية الفقر العربي بدل إضاعة الوقت في احتساب التفاوتات الاقتصادية بين البلدان العربية والتدليل على ضآلة نصيب الفقيرة منها قياساً الى الغنية. فالفقر في العالم العربي لا يمكن الحد منه من دون: أ- توزيع عادل للثروة الوطنية في كل قطر من الاقطار العربية وتشغيل رؤوس الاموال العربية في مشروعات تنمي الدخل الوطني ويفيد منها الفقراء بدل ايداعها في المصارف العالمية. ب- الحد من الانفجار السكاني المتعاظم بتحديد نسبة المواليد وتحول العرب الى شعوب منتجة لا مستهلكة فقط، قادرة على انتاج حاجاتها ببشرها وطاقاتها، واقحام المرأة العربية في العمل والتنمية. ج- وقف الهدر في الطاقات والامكانات العربية بلجم الانفاق العسكري وتقييد الاستيراد الاستهلاكي المبدد للثروات العربية. على هذه المبادئ والاسس يمكن تحقيق ثورة في الانتاج وتغيير جذري في بنية المجتمعات العربية تتحول معها الأمة العربية من امة تنجب الفقراء الى امة تسهم في بناء الحضارة. * كاتب لبناني.