قبل بضعة ايام، اعلنت دار النشر الفرنسية "دي فام" تصعب ترجمة هذا الاسم، فهو يعني: من / وعن النساء، وعبر مديرتها انطوانيت فوك، عن تجميد إصداراتها لفترة لم تُحدَّد. وعلى رغم ان انطوانيت فوك ترفض التحدث عن "إيقاف" الدار، معتبرة ان الامر لا يتعدى كونه مجرّد "استراحة" او "فاصل" يسمح للمسؤولين بالنظر في "حصيلة" انجازات الدار وبالتفكير في "سلسلات اصداراتها"، وتذكر، تأكيداً على كلامها، بأن الدار كانت قد "أخذت سنةً سابعةً"، اي جمّدت اصداراتها عام 1983. لكن، وعلى رغم كل هذا، فإن مثل هذا القرار يطرح من دون شك اكثر من تساؤل، ليس فقط على القيّمين - القيّمات على الدار نفسها، ولكن ايضاً على المراقبين - المراقبات والقراء - القارءات، حول جدوى او استمرار وجود دار نشر تُعنى حصرياً بالكتب الصادرة من / وعن النساء. غير ان هذا القرار يتيح، في الوقت نفسه، الفرصة لمراجعة مسيرة هذه الدار الشهيرة التي استقطبت وتمحورت حولها ما يقارب ثلاثين عاماً، مسألة الكتابة النسائية او النسوية في فرنسا والعالم، وهي الكتابة التي تحظى اليوم باهتمام متزايد في العالم العربي وسائر "الدول النامية" مما يطرح، بدوره، اسئلة كثيرة حول الابعاد الايجابية والسلبية لمثل هذا الاهتمام. حين انشأت انطوانيت فوك دار "دي فام" عام 1973، كانت الحركات التحررية النسائية في فرنسا ومنها خصوصاً "حركة تحرر النساء" التي كانت فوك من مؤسسيها ومن ابرز المنظرات لها تحصد ثمرة نضالاتها السابقة التي لمست ذروتها مع "ثورة" 1968 وتظاهرات النساء الشهيرة في الاعوام اللاحقة، حين رفعت آلاف الفتيات والنساء شعارات الرفض لأنوثة اعتبرنها حينذاك مرادفاً لعبودية المرأة واستغلالها من الرجل والسلطات الابوية. لم تكن دار "دي فام" مجرد دار نشر عادية، بل برزت كمؤسسة نسائية بالمعنى الثقافي والفعلي - الممارساتي للكلمة. فلم تكن تُصدر فقط الاعمال المكتوبة من النساء او عن النساء، بل كان عمل الدار نفسه محصوراً في البدء على الجنس الانثوي. فكل مراحل النشر، من قراءة للمخطوطات، وتحرير، ومبيع، الخ ... كانت تقوم بها نساء. وكان ذلك في نظرهن، يساهم في انتاج اعمال مستقلة تماماً عن سلطة الرجل، اي عن موقفه الظاهر الواعي او المبطّن اللاواعي، من المرأة. وتجدر الملاحظة ان الدار لم تكن منفصلة، في السبعينات، "عن حركة تحرر النساء" MLF، وكانت اغلفة كتب الدار تحمل عبارة: "MLF تقدّم" ...، تتبعها عبارة "منشورات نسوية"، اي fژministe وليس fژminine لم تتغيّر هذه الصيغة إلا عام 1988 حين سُلمت إدارة المؤسسة لرجل! وأصبحت اغلفة كتب الدار تحمل فقط عبارة "دي فام"، اي نساء. إهتمت "دي فام" بنشر ابداعات الكاتبات باللغة الفرنسية، ومن اشهرهن هيلين سيكسو، التي تُعتبر رمزاً من رموز الدار وعلماً من اعلام الكتابة التي سُميت "نسائية" خصوصاً انها انشأت وما زالت تدير "مركز الدراسات النسائية" في جامعة باريس 8. ومن الكاتبات اللواتي نشرت لهن "دي فام": جوليا كريستيفا، جان ايفرار، ايتيل عدنان الكاتبة اللبنانية باللغتين الفرنسية والانكليزية، الجزائرية آسية جبار التي تكتب ايضاً باللغة الفرنسية، وغيرهن الكثيرات. غير ان القسم الاكبر من اصدارات الدار مكون من اعمال مترجمة لنساء من كل انحاء العالم، نذكر من ابرزهن كلاريس ليسبكتر من البرازيل، انغ سان سو كيي الحائزة على جائزة نوبل للسلام، حنان عشراوي من فلسطين، هيديكو فوكوموتو من اليابان، والكثيرات من الكاتبات الايطاليات ومن شمال اوروبا وآسيا والاميركيتين. كما اعادت الدار نشر اعمال كاتبات شهيرات، امثال فرجينيا وولف، كارين بليكسن، كوليت وجورج ساند. ولقد شملت هذه الاصدارات ميادين إبداعية وعلمية شتى: كالرواية، الشعر، علم الاجتماع، علم النفس، النقد، التاريخ، الانتروبولوجيا، الفلسفة، الاقتصاد، الخ ... تميزت دار "دي فام" ايضاً بنشرها سلسلة من الكتب الصادرة عن جمعيات او تجمعات نسائية من بلدان عدة، ويقدم كل كتاب في هذه السلسلة دراسة عن اوضاع النساء في بلدهن، ككتاب مجموعة النساء الهنديات حكايات حقيقية والايطاليات المستغلات والروسيات النساء وروسيا والجنوب - اميركيات نساء. ولم تكتف "دي فام" بنشر الكتب، بل أنشأت "مكتبة الاصوات" وهي عبارة عن مجموعة أشرطة كاسيت تقدم نصوصاً مسجلة إما بصوت الكاتبات انفسهن وإما بصوت ممثلات شهيرات. هكذا، وبينما قامت مرغريت دوراس وناتالي ساروت بقراءة بعضها من نصوصهن، قرأت كارول بوكيه نصوص جاك دريدا، وكاترين دونوف نصوص فرانسواز ساغان، وفاني أردان نصوص بلزاك. ولقد لاقت هذه الصيغة من "النشر" نجاحاً كبيراً وقررت "دي فام" الاستمرار في اصدار هذه الاشرطة المسجلة، حتى بعد توقف نشاطاتها الاخرى. كذلك اشتهرت "دي فام" بمكتبتها الخاصة التي تعرض وتبيع إصدارات الدار ومنشورات دور اخرى من كتب من / وعن النساء، اضافة الى صالة عرض تُبرز الاعمال الفوتوغرافيةاو التشكيلية للنساء. قبل ان تقرر "دي فام" اليوم تجميد اصداراتها، كانت قد اقفلت المكتبة، مكتبة الدار، قبل نحو سنة ... وفقدت باريس، بل حيّ سان جيرمان، احد اماكنه الجميلة والمميزة جداً. ولم يعد الزائر، وهو يقترب من المكتبة التي كانت تحتل زاوية كبيرة من شارع هادئ، يشعر بأنه يدخل عالماً خاصاً وحميماً، إذ لم تعد تستقبله على واجهات المكتبة صور كبيرة، بالاسود والابيض، لوجوه كاتبات من العالم، فيعرف انه داخل الى عالمهن، عالم النساء. ولم يعد يستطيع، ومن خلال نظرة واحدة، الاطلاع على اهم إبداعات المرأة وعلى الكتب المخصصة لنتاجاتها وشؤونها. فهل ولّى زمن الكتاب النسائي؟ تقول انطوانيت فوك محاولةً تفسير ما يحدث للدار، ان الامر لا يتعلق بأسباب مادية، بل ان هناك "أسباباً سياسية" تبرر هذه القرارات: "فالنساء ربحن، معارك كثيرة خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، فهن يعملن في الكثير من دور النشر وكُتبهن تُنشر بكثرة ايضاً. ولم تكن الحال على ما هي عليه الآن حين بدأنا العمل في الدار". وكأنما لم يعد هناك من مبرر، حسب فوك، لوجود دار ومكتبة، اي مساحة مخصصة للكتاب النسائي. فهل قضت الكتابة النسائية على الكتاب النسائي؟ مما لا شك فيه ان دار "دي فام" تعكُسُ، عبر ما آل اليه وضعها، التحولات العميقة التي تعيشها، في الغرب، "الكتابة النسائية". والدليل الابرز على ذلك ان التسمية اصبحت هي نفسها الآن، موضع التساؤل الاكبر، خصوصاً بعد ما انفك ارتباطها السابق بنضالات المرأة الغربية. ماذا يعني اليوم، في فرنسا والغرب، مفهوم الكتابة النسائية؟ وهل هو "مفهوم" ام "ظاهرة" ام "حركة"، ام مجرد عبارة تنضوي تحتها كتابات المرأة؟ وإذ نترك هذه الاسئلة مفتوحة على احتمالات الاجابة، نكتفي بالإشارة الى توجه جديد او مجدد تعبّر عنه القيّمات على "مركز الدراسات النسائية" في جامعة باريس 8 الوحيد من نوعه في فرنسا، وهو ان الكتابة النسائية هي بالضبط تلك التي لا تنغلق على ذاتها بل تلك التي تنفتح على كل الاختلافات والتحولات، تماماً كما جسدها الانثوي القادر بل المحدد بمعنى العطاء والانفتاح على التغيير. ويبقى السؤال الاهم بالنسبة إلينا هو ذلك المرتبط بالكتابة النسائية في العالم العربي، التي تحظى منذ فترة باهتمام لافت في جامعات ومؤسسات ومراكز ولدى افراد يساهمون في نشر ابداعات المرأة العربية وتسليط الضوء على اعمالها نذكر على سبيل المثال لا الحصر مجلة "نور" التي تصدر في القاهرة، تجمّع "باحثات" الذي ينشر كتابه السنوي في بيروت، "مركز الابحاث التطبيقية والدراسات النسوية" في صنعاء الذي ينظم، إضافة الى التعليم، الحلقات الدراسية واللقاءات والمؤتمرات عن نتاج المرأة العربية. وإذ نلاحظ هذا الاهتمام الضروري بابداع المرأة وهذا الانتشار المهم لحضورها في المجال الثقافي، نتساءل عن ابعاده الاخرى وخصوصاً في ظل غياب كل ما عُرف بالخطابات الايديولوجية: فهل حلّت الكتابة النسائية، مع غيرها من الاهتمامات الثقافية، محل هذا الغياب؟ وإذ نقارن بين انتشار الكتاب النسائي والاهتمام بالكتابة النسائية في العالم العربي وبين وضع المرأة العربية من حيث حقوقها، نتساءل عن مدى علاقة هذه الظاهرة الثقافية بتحرر المرأة على المستويات كافة. فإذا كانت "أزمة" الكتاب النسائي في الغرب تدل على حصول المرأة على حقوقها كاملة، نأمل ان يكون الاهتمام بالكتابة النسائية في عالمنا العربي دليلاً على سير المرأة العربية نحو تحررها الفعلي.