الشرق الأوسط في أزمة. ويعلم كل من يشاهد التلفزيون ان الفلسطينيين يخوضون حرب التحرر من الاحتلال العسكري الاسرائيلي. لقد فجرت الانتفاضة الأوضاع فعلاً، وليس على الأرض فحسب، بل في الأذهان أيضاً. ولا بد الآن من نبذ الوصفات القديمة جانباً والسعي الى ايجاد حلول جديدة. لكن لا يبدو أن اسرائيل - بانقسامها ومخاوفها وسوء قيادتها وتقلباتها وتمسكها بالمفاهيم القديمة في الهيمنة والردع، وكل هذا مع بداية حملاتها الانتخابية - مهيأة لتغيير جذري في خط سيرها. هل سيمتلك رئيس ا لوزراء ايهود باراك ما يكفي من الحكمة والشجاعة ليختار طريق السلام ويهيىء الرأي العام للانسحاب من الأراضي المحتلة، أم يواصل محاولته اخضاع الفلسطينيين بالوسائل العسكرية؟ الغموض المحيط بخيارات اسرائيل تجاه القضايا الحيوية هو نفسه واحد من عناصر عدم الاستقرار في المنطقة. ويسعى القادة في كل الدول التي تطالها الأزمة - أي سورية ولبنانوالأردن، ثم مصر والمملكة العربية السعودية والعراق وايران - الى تحليل الأوضاع المتغيرة باستمرار لحماية مجتمعاتهم من الهزات ومواجهة التحديات الجديدة. انهيار النفوذ الأميركي التغير الأهم في المنطقة من دون شك هو فقدان الثقة، على نطاق واسع وبعمق، بالولاياتالمتحدة. وكانت أميركا قبل عشر سنوات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج في 1991، في أوج القوة والنفوذ، ليس فقط في الشرق الأوسط بل في العالم كله. فقد تم تحرير الكويت و"احتواء" العراق وايران، واطلقت عملية السلام بين العرب واسرائيل في مدريد برعاية أميركية، واعلنت واشنطن "النظام العالمي الجديد". أما اليوم فتحول أكثر هذا الى ركام. اذ فشلت الولاياتالمتحدة في التعامل مع العراق وايران، كما فشلت في ادارتها لعملية السلام، وأضاعت فرصة التوصل الى تسوية عادلة للصراعات القديمة في المنطقة. والأرجح ان التاريخ سيكون قاسياً في حكمه على ادارة الرئيس بيل كلينتون في ما يخص سياستها تجاه الشرق الأوسط. وأطلقت خيبة الأمل في سياسة أميركا، بمساندتها العمياء لاسرائيل وعقوباتها الوحشية على العراق، موجة من العداء لها غمرت العالم العربي والاسلامي. ووجد حتى أقرب اصدقاء واشنطن وحلفائها أن من الحكمة الابتعاد عنها حالياً. خلال ذلك يؤدي استمرار النزاع على نتيجة انتخابات الرئاسة الى شل الديبلوماسية الأميركية ويلقي المزيد من الغموض على مستقبل سياسة واشنطن تجاه المنطقة. بقيت الولاياتالمتحدة طوال عقود، بعد فترة قصيرة على نهاية الحرب العالمية الثانية واضمحلال النفوذ البريطاني والفرنسي، القوة الخارجية الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط. لكن فشلها المستمر وخسارتها المصداقية وافتقارها الى الأفكار الجديدة وترددها الواضح ازاء سبل المواصلة تخلق فراغاً مقلقاً في المنطقة. هل تستطيع أوروبا ملء هذا الفراغ؟ يتمنى كثيرون من العرب أن يتحول الاتحاد الأوروبي الى قوة جديدة تصلح الميل الحاد في ميزان القوى العالمي، ويعبرون عن انزعاجهم مما يرونه من صمت أوروبا وانقسامها. لكن للأوروبيين موقفاً ربما لم يفهمه العالم العربي بعد. ان ازمة الشرق الأوسط تهمهم بعمق، وهي تؤثر في مصالحهم بشكل مباشر. لكنهم ليسوا متأكدين من ثبات العرب على الموقف في حال التزام أوروبا جانبهم. اذ استعمل العرب مراراً في السابق تكتيك تخويف أميركا عن طريق التقارب مع أوروبا. لكنهم كانوا يعودون الى الأميركيين في أقرب فرصة. من هنا حذر الأوروبيين. فهم لا يريدون الدخول في نزاع مع اسرائيل او الادارة الأميركية الجديدة ليواجهوا من جديد تذبذب العرب. الخلاصة: الأراضي الفلسطينية تشتعل، واسرائيل في مزاج خطر، تتردد بين الحلّين العسكري أو السياسي لمشاكلها، فيما وصل نفوذ الولاياتالمتحدة وهيبتها الى الحضيض ولا تفعل أورويا شيئاً تقريباً سوى التفرج. هذا هو السياق الاقليمي والدولي الذي يواجهه القادة العرب، والذي على الرئيس بشار الأسد ان يحدد مسيرة سورية في ضوئه. البحث عن حلفاء أثار انتباهي خلال زيارتي الى سورية الأسبوع الماضي أمران: الاستمرار والتغيير. رئيس سورية الشاب يسير على خطى الرئيس حافظ الأسد. وشرعيته، كما اخبرني واحد من اقرب مستشاريه، لا تنبع من كونه ابن الرئيس الراحل بل من التزامه تركة والده السياسية، ولهذا لا يمكنه مخالفتها في أي شكل رئيسي. ومن بين ما تفرضه هذه التركة ابقاء بعض كبار مساعدي والده في مناصبهم، على الأقل في الوقت الحاضر، مهما كانت حسناتهم او سيئاتهم. لكن الرئيس الجديد يدرك في الوقت نفسه الحاجة الى التجاوب مع التغيرات في المناخ الاقليمي. وعليه اعادة النظر في استراتيجيات سورية، وتكييف سياساتها لمواجهة التحديات الجديدة. المهمة الأولى أمامه هنا هي استخلاص ما يعنيه عدم الاستقرار الخطير في وضع اسرائيل وفشل أميركا كوسيط للسلام. وقد عبّر في القمة الاسلامية في الدوحة في 12 من الشهر الماضي عن خيبة أمله المريرة من أميركا من دون ذكرها بالاسم وحذر من خطر انفجار شامل في المنطقة. كما ندد الرئيس بشّار بشدة بما يسمى "النظام العالمي" الذي تسيطر عليه القوة العظمى الوحيدة، حين يسمح لبعض الدول بأن تطفو على السطح اذا برهنت على الطاعة وحسن النية، فيما يحكم على غيرها بالغرق لتبقى في القاع أمداً غير منظور. ما هو رد الدكتور بشار على هذا الوضع؟ الرأي في دمشق انه يسعى الى توسيع دائرة التحالفات الأقليمية لسورية لتوفير عمق استراتيجي لها وتقوية موقعها عموماً. وحسب تعبير وزير مرموق فإن سياسة تنويع التحالفات تهدف الى الحد من الاعتماد على طرف خارجي واحد. التحالف الاستراتيجي بين سورية وايران لا يزال بكامل قوته. وهو منذ عقدين من ثوابت السياسة السورية. الثابت الآخر هو التعاون التقليدي مع مصر والمملكة العربية السعودية، وهو ما يسعى الدكتور بشّار الى تقويته ويبقى حجر الزاوية في سياسة سورية ضمن العالم العربي. الانفتاح على تركيا والعراق بالاضافة الى هذين المحورين الرئيسيين تسعى سورية حالياً الى علاقات أفضل مع تركيا والعراق، اللذين كانت لقادتهما خلافات معروفة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد. وقام نائب الرئيس عبدالحليم خدام أخيراً بزيارة الى أنقرة للتهيئة لزيارة الرئيس بشّار اليها. وأكد لي ان الزيارة ستتم بعد نهاية رمضان. وقال: "لبلدينا حدود مشتركة طويلة والكثير من المصالح المشتركة، وهناك اتفاق بين دمشق وأنقرة على تقوية العلاقات". وهناك تحسن كبير في الوضع الأمني على الحدود بعد توقف سورية عن دعم حزب العمال الكردستاني. ويتوقع الديبلوماسيون في دمشق تركيز البلدين على التفاوض من اجل توفير حصة منصفة من مياه الفرات الى سورية، بل حتى انهاء الخلاف التاريخي بينهما على لواء الاسكندرون، الاقليم السوري الذي أعطته فرنسا لتركيا في العام 1939 . في الوقت نفسه يأمل السوريون، في مناخ الصداقة والتعاون هذا، بأن تتجنب تركيا تعريض مصالح سورية والدول العربية للخطر من خلال علاقاتها العسكرية مع اسرائيل. من الجهة الثانية هناك الانفتاح على العراق، الذي قد يتفوق في الأهمية على الانفتاح على تركيا. وكان هناك تقدم طفيف في العلاقات أثناء حكم الرئيس الراحل، خصوصاً في فتح التجارة الحدودية. لكن الزيارات رفيعة المستوى لدمشق من جانب نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز ونائب الرئيس عزت الدوري مهدت الطريق لاعادة العلاقات الديبلوماسية وبدء التنسيق على المستوى الاقليمي. وكان الرئيسان بشار الأسد وحسني مبارك تكلما في مؤتمر صحافي في القاهرة عن دور العراق كعمق استراتيجي لسورية. وربما أمكن للمراقبين ان يتلمسوا، بعد التقارب أيضاً بين العراق وايران، بوادر نشوء محور ايراني - عراقي - سوري. ويأمل السوريون بأن نهاية العقوبات الدولية على العراق ستجعل من مرفأ طرطوس وغيره على المتوسط من بين المداخل الرئيسية لاستيرادات العراق. خلال ذلك تنتعش التجارة بين البلدين وتتسارع الاستعدادات لاعادة فتح خط أنابيب النفط بين كركوك وبانياس. بلاد الشام: الفلسطينيون، الأردن، لبنان يوفر دعم سورية للانتفاضة سياقاً لمصالحة اخرى ممكنة - بين سورية والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بعد الخلافات الشخصية والسياسية الكبيرة بينه وبين رئيس سورية الراحل. ويمكن القول ان هذه الخلافات لا تزال موجودة، وان سورية مستمرة في تشككها بعرفات واسلوبه التفاوضي، وانها أكثر تعاطفاً مع المقاتلين منها مع السلطة الفلسطينية. مع ذلك فهناك مفاوضات متكتمة بين الطرفين يتوقع أن تؤدي "خلال أسابيع" حسب بعض المصادر الى زيارة يقوم بها عرفات الى دمشق. في الأثناء هناك مؤشران الى تحسن الأجواء بين الطرفين. الأول انضمام التنظيمات الفلسطينية المدعومة من سورية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة التي يرأسها أحمد جبريل، الى لجنة متابعة الانتفاضة، تعبيراً عن لمّ الصفوف الفلسطينية في المواجهة الحالية. المؤشر الثاني هو الأهم. فقد كانت سورية قبل الانتفاضة تعتبر ان التسوية الشاملة تعني انسحاب اسرائيل من الجولان وجنوب لبنان. وكان موقف دمشق أن مغادرة الفلسطينيين للاصطفاف العربي وعقدهم سلاماً منفرداً مع اسرائيل في أوسلو عام 1993 يحرر سورية للتفاوض على السلام، بغض النظر عن توقف المسار الفلسطيني. أما اليوم فعادت سورية الى تأكيد أن التسوية الشاملة مع اسرائيل تعني أيضاً قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية. وفي هذا تغيير أكبر للصيغة، لأنه يشير الى تعديل رئيسي في المشهد الاقليمي. عندما قابل الرئيس بشار الأسد وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة مادلين اولبرايت في الرياض قبل أسابيع قالت تقارير انها حضّته على العودة الى التفاوض مع اسرائيل، ورفض الطلب، كما كان متوقعاً منه. اذ يستحيل عودة سورية الى التفاوض في الوقت الذي تقتل فيه اسرائيل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. حاول الدكتور بشّار أيضا اقامة علاقات ودية مع العاهل الأردني عبدالله الثاني، بدل ذلك المقدار من البرود بين الملك الراحل حسين والرئيس السوري الراحل. الواضح ان سورية ترغب في التقارب مع الأردن واجتذابه عن اسرائيل والولاياتالمتحدة. لكن الملك عبدالله، كما يبدو، لا يستطيع، أو ربما لا يرغب في المغامرة بعيداً على هذا الدرب. ولا يريد الأردن، عموماً، اغاظة اصدقائه ومسانديه الغربيين، كما ان موقفه من الدولة الفلسطينية لا يزال على تردده المعهود. النتيجة ان العلاقة بين الملك عبدالله والرئيس بشّار ليست على الحرارة التي يريدها الأخير. اضافة الى ذلك، واستكمالاً لدائرة الدول حول سورية، يبذل الرئيس بشّار جهده لاصلاح العلاقات مع لبنان وتجاوز اخطاء الماضي. وهو يهدف، كما أوضح لي واحد من كبار مستشاريه، الى تطوير علاقات وثيقة مع لبنان على الاصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وذلك من القاعدة وصولاً الى القمة، وليس العكس. الواضح ان هناك نقاشاً بين الفئات الحاكمة في سورية على العلاقات مع لبنان. فهناك فريق يريد ادامة السيطرة القوية عليه، فيما يرغب فريق مقابل المعتقد ان من بينه الرئيس بشّار في تطوير العلاقات الى مستوى أرقى يقوم على التراضي والمصالح المشتركة وحرية التعبير عن الرأي، متوافقاً مع الحفاظ على المصالح السورية والعربية الحيوية في الصراع المستمر مع اسرائيل. ولخص واحد من أقرب المساعدين الى الرئيس بشّار الموقف بالقول: "للبنان حدود مشتركة مع دولتين فقط، سورية واسرائيل. وعليه الخيار بين هذا أو ذاك. اذا وافقنا على ذلك فالباقي مجرد تفاصيل". * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.