تعيش منطقة الشرق الأوسط، منذ سنوات عدة، أزمات متواصلة تهدد استقرارها ووحدة دولها وترابط مكوناتها الطائفية والعرقية. وانغمست الدول الكبرى، خصوصاً الولاياتالمتحدةوروسيا في هذه الأزمات من أجل تعزيز مواقعها ونفوذها في الإقليم، الغني بثرواته النفطية والاستراتيجي بموقعه الجغرافي، ما أدى إلى ربط قضايا دوله الداخلية بصراع القوى الخارجية الكبرى، الأمر الذي أفقدها وهجها وقوتها. وخير مثل على ذلك الأزمة السورية التي بدأت منذ أكثر من سنتين باحتجاجات محدودة، تطالب بالحرية والعدالة والمساواة وتداول السلطة، تعامل معها النظام بشدة وقسوة بدلاً من تفهمها واستيعابها، ما أعطى المجال لدول إقليمية ودولية بالتدخل، إما لدعم النظام المتسلط ومده بالسلاح الثقيل والمال والخبراء والمقاتلين، وإما لمساندة الانتفاضة السلمية المحقة ومدها بكل مقومات الصمود والتصدي، من دعم مالي وعسكري، وتسهيل دخول المجاهدين إلى الداخل السوري. الأمر الذي ساهم في تحويل الانتفاضة من حركة سلمية إلى ثورة عسكرية، بالتالي إلى تدمير سورية وسقوط عشرات آلاف القتلى والجرحى ونزوح مئات الآلاف خارج ديارهم. ولا تبالي الدول الإقليمية والدولية بمعاناة الشعب السوري، ولا تحرك ساكناً لمساعدته على تخطي أزمته، بل استغلت مأساته لتصفية حساباتها على أرضه، وتعزيز أوراقها التفاوضية على ملفاتها الحيوية. فالولاياتالمتحدة تبتعد عن الانخراط العسكري في سورية، خوفاً من رمالها المتحركة، وتكتفي بدعم الثورة بكثير من الكلام وقليل من الأفعال، فهي ترفض مد الثوار بالسلاح النوعي، لكنها لا تمانع من تزويدهم أسلحة غير فتاكة، لا تطاول الدبابات الثقيلة والمقاتلات الحربية. وتبتغي من وراء ذلك إطالة الحرب لأن تفكك سورية، وإنهاك قواتها العسكرية، وإضعاف قدراتها القتالية، وتدمير اقتصادها وبناها الفوقية والتحتية، وانحلال مؤسّساتها، يضعف النفوذ السوري في الإقليم من جهة، ويخدم إسرائيل والمشروع الأميركي التفتيتي للمنطقة من جهة أخرى. ويقع دعم روسيا لنظام الرئيس السوري بشار الأسد في خانة استعادة الدور النافذ الذي كانت تحظى به في النصف الثاني من القرن الماضي، والتصدي للنفوذ الأميركي الكبير في الإقليم، وفرض معادلة جديدة للنفوذ فيه، تحظى بموجبها بدور فاعل ومؤثر في سياسات الإقليم، وحصة محترمة من ثرواته الطبيعية، وترسيخ موقع قدم لها في سورية، آخر معاقلها في المنطقة العربية، خصوصاً على شواطئ البحر المتوسط، وإبعاد جمهورياتها المجاورة التي يعتنق معظم سكانها الديانة الإسلامية عن خطر امتداد الثورة إليها. أما إيران، فإنها تدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد من منطلقَين ديني وسياسي، فعائلة الأسد التي تحكم سورية منذ أربعين سنة تعتنق المذهب العلوي المتفرع من المذهب الشيعي، وهي في تحالف قوي مع إيران، وفتحت لها المجال أمام التبشير بالمذهب الشيعي وولاية الفقيه لدى السوريين السنّة، وإقامة الحسينيات في مناطقهم. أما في الجانب السياسي، فكانت العلاقة بين البلدين، أيام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، شبه متكافئة، وقائمة على المصالح المشتركة. وقد استخدم الأسد الأب هذه العلاقة للتهويل على دول الخليج، خصوصاً المملكة العربية السعودية، من الخطر الإيراني، وابتزازها سياسياً ومالياً. واستطاعت إيران أن توسع نفوذها في عهد الأسد الابن، الذي يفتقد حنكة أبيه ودهاءه، بحيث أصبحت سورية بمثابة محافظة إيرانية يتحكم بقرارها حكام طهران، ومركز ثقل لإيران وموقعاً مهماً في قلب الإقليم. وتسعى إيران من خلال دعمها للأسد الحفاظ على نفوذها في سورية، بالتالي لبنان والعراق، واستخدامه في عملية التفاوض مع الغرب في شأن ملفها النووي وتقاسم النفوذ في المنطقة. وتلعب تركيا، وهي دولة إقليمية كبرى مثل إيران، دوراً بارزاً في دعم الثورة السورية، من خلال تسهيل مرور السلاح، والمعونات الإنسانية، والمقاتلين العرب والأجانب إلى الداخل السوري، والسماح بدخول النازحين السوريين إليها وتقديم المساعدات لهم. ولا يعادل دعمها اللوجيستي والإنساني الكبيرين دعمها العسكري المحدود، نتيجة ارتباطها بحلف الناتو الذي ينأى بنفسه عن الأزمة السورية، ومعارضة أحزابها العلمانية، وتركيبتها الطائفية والعرقية، ومعلوم أن العلويين الأتراك يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بعلويي سورية ويشكلون حوالى 10 في المئة من الشعب التركي، ويقطنون مناطق الحدود مع سورية. ولتركيا أهداف عدة من دعمها الثورة السورية، منها إعادة أمجاد الماضي، واحتواء السنّة العرب، وتثبيت موقعها السياسي القوي في الإقليم، وفتح الأسواق العربية أمام صادراتها. وتعيش المنطقة مخاضاً عسيراً، نتيجة ما تحمله تطورات الحرب الدائرة في سورية، من ارتدادات على دول الجوار، خصوصاً لبنان، نتيجة انقسام شعبه، المنقسم أصلاً على ملفات وطنية رئيسة، على الموقف من الأزمة السورية، وانخراط بعض مكوناته فيها، إما داعماً للنظام أو مسانداً للثورة ضده. وأدى انخراط «حزب الله» في القتال إلى جانب النظام، بأوامر مباشرة من إيران، إلى زج لبنان في الأزمة السورية، وتعريض سلمه الأهلي للخطر ووحدة مكونتيه الإسلاميتين إلى مزيد من التفكك. ماذا تريد إيران؟ وتسعى إيران، من خلال انخراطها في الحرب السورية، إلى فرض نفسها لاعباً رئيساً على الساحة السورية، لا يستقيم أي حل للأزمة هناك إلا من خلال مشاركتها الآخرين في هذا الحل. كما تستبق التغيير في خريطة الإقليم، الذي بدأ يزداد الكلام عنه وعن استبدال اتفاقية سايس – بيكو، بخرائط جديدة ودويلات طائفية وإثنية مستحدثة، بتوافق أميركي – روسي على تقاسم مناطق الثروة والنفوذ، خصوصاً بعد اكتشاف النفط والغاز على طول شاطئ الإقليم، بمساعدتها النظام السوري على السيطرة على مدينة القصير وريفها، من أجل ربط الساحل السوري العلوي بدمشق والبقاع اللبناني الشيعي، ما يمكّن الأسد من إقامة الدولة العلوية في وسط سورية. وتشكل هذه الدولة مع العراق ذات الغالبية الشيعية والذي تحكمه حكومة موالية لإيران، ولبنان الذي يسيطر على قراره وساحته «حزب الله» الشيعي وهو بمثابة ذراع إيران العسكرية في المنطقة، منطقة نفوذ واسعة لإيران وجزءاً أساسياً من الهلال الشيعي، الذي تجهد لإقامته. وتداعيات مخطط التفتيت والتقسيم خطرة على كل دول المنطقة، المحملة بأثقال الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية، والمهيأة مكوناتها الأقلوية للتجاوب مع هذا المخطط، نتيجة ما تعانيه من قهر وتسلط وإبعاد واستباحة حقوق وكرامات. ولن يكون لبنان في منأى عن هذا المخطط، خصوصاً أنه يعيش وحدة وطنية هشّة بين المسلمين والمسيحيين، وانقساماً حاداً بين السنّة والشيعة على الموقف من الأزمة السورية، وقضايا وطنية منها، اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسلاح «حزب الله» واستقواء الشيعة به، وإخلاله بالتوازنات القائمة، وسيطرته على قرار الدولة ومؤسّساتها. ولن يكون لبنان بعيداً عن مخطط التقسيم في ما لو نجح في سورية والعراق وغيرهما من دول المنطقة، خصوصاً أن المسيحيين باتوا مهيئين لمثل هذا الاحتمال، نتيجة ما يعتبرونه تهميشاً لدورهم في القرارات المصيرية، وتباعدهم الفكري والثقافي عن المسلمين، وتزايد أعداد المسلمين. ونجاة لبنان من تداعيات العاصفة التي تعصف بالإقليم أمر في غاية الصعوبة، نتيجة ترابط قضاياه بالأزمة السورية وقضايا الإقليم. وهو يشهد، إلى حين جلاء الأمور، هدوءاً حذراً، واستقراراً أمنياً هشّاً، وخطاباً سياسياً مشحوناً بسموم الطائفية والمذهبية والمناطقية، وأزمة مفتوحة على إقرار قانون انتخابات جديد، وعجزاً عن تأليف حكومة جديدة، وتعطيلاً للمؤسّسات الدستورية والأمنية والإدارية. * كاتب لبناني