في يوم 28 أيلول سبتمبر الماضي ذهب ارييل شارون العلماني زعيم تكتل الليكود، بحراسة حوالى 700 جندي الى المسجد الأقصى، للمرة الأولى منذ الاحتلال الاسرائيلي لشرق القدس في 1967، وكان ذلك أشبه بمن اشعل النار في مخزن للبنزين، ولم يكن من الممكن للحكومة الإسرائيلية أن تمنعه قانوناً سوى بتقرير أمني يعلن العجز عن حمايته أو العجز عن السيطرة على ردود فعل الزيارة، وهو ما لم يفعله الأمن، والارجح أنه شُجع على ذلك، وهكذا انفجرت الحرب الحالية بين الفلسطينيين وإسرائيل. في اليوم نفسه انتهت المفاوضات في كامب ديفيد بين الطرفين بإعلان مقتضب عن أن المفاوضات ستستمر، ومن دون أن تقابل مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية أياً من وفدي التفاوض، وكان الرئيس كلينتون على غير عادة الرؤساء الاميركيين في أيامهم الأخيرة في البيت الابيض يحاول من أجل الوصول إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية، ولكن، بعد فشل المفاوضات بدا كأنه قام بإعداد "لوكيشن" بلغة السينما لا علاقة له بالأماكن الأصلية، فلم تكن البيئة السياسية في الشرق الأوسط معدة لذلك. وفي اليوم نفسه ايضاً بثت وسائل الاعلام تصريحاً لايهود باراك: "هناك قدسان هما جيروزاليم والقدس قالها بالعربية أولهما عاصمة لإسرائيل والثانية عاصمة للفلسطينيين"، وعندما سُئل عن التفاصيل وإن كان يقبل بإشراف طرف ثالث على المسجد الأقصى وجبل الهيكل قال: "إنه لا يمكنه التعليق على ذلك الآن". وكان خلال التفاوض في كامب ديفيد 2 شرع في الحديث عن ثورة مدنية ودستور لإسرائيل للمرة الأولى وقانون مدني، وقام فعلاً بإلغاء وزارة الشؤون الدينية تمهيداً لإلغاء التعليم الديني في التمهيد لتحويل إسرائيل إلى دولة مدنية، وكانت المفاوضات في كامب ديفيد تجاوزت كل الاتفاقات السابقة حيث تناولت كل القضايا الحساسة، وكان من الواضح أن المشروع السياسي لباراك اعتمد على انجاز تسوية سلمية نهائية للقضية الفلسطينية تمكنه من تأسيس "الدولة / الأمة / المدنية"، ولكن، من الواضح انه بدوره كان طموحاً بأكثر مما تسمح به امكاناته وقراءاته للظروف الداخلية والاقليمية، وسرعان ما انهار كل شيء فوقه، فأفاق، وكان أن ارتد عن شخصية مستر هايد إلى شخصية الدكتور جيكل وهكذا عاد جنرالاً يصدر الأوامر بإطلاق النار على الفلسطينيين ويشتري وقت بقاءه يوماً بيوم. وكان الطرف الثالث في المفاوضات وهو ياسر عرفات، والذي ظل لأكثر من ثلاثين عاماً يتحدث عن استقلالية القرار الفلسطيني" إلا أنه كان يعلم في تلك اللحظة أن القرار الفلسطيني لم يكن مستقلاً بما فيه الكفاية، بقدر ما لم يكن ديموقراطياً، وبقدر ما هو جزء من جسد الاستبداد العربي، وهكذا كان يحتاج تغطية عربية متفقاً عليها، لكن التغطية لم تصل في الوقت المناسب، بل إن المحور العربي الذي سحب تلك التغطية اكتسب امتداداً في باريس طوق كل امكانية للتسوية شبه النهائية، وعاد عرفات كي يتحدث عن حرب الاستقلال، وكان كمن أطلق النار فأصاب قدمه هو. وهكذا توافرت لنا صورة لأحدث فرص السلام الضائعة، التي تؤكد مراراً أن قضية فلسطين هي بحق قضية الفرص الضائعة، ومثلما كانت الفرص الضائعة تفتح احتمالات الحرب" حدث ذلك بدقة هذه المرة أيضاً. وهكذا ايضاً انفجرت التظاهرات من المحيط إلى الخليج، ومنذ اللحظة الأولى كان واضحاً أن ذلك لم يُغضب الحكومات العربية التي ذاع صيتها في القسوة وعدم التسامح تجاه أي احتمال للحركات المدنية، حتى أنه في بعض الدول لم تحرر ورقة تحقيق مع متظاهرين دمروا وأحرقوا ممتلكات عامة وأصابوا العشرات من رجال الأمن بخطورة. وفي ذلك المناخ ارتفعت شعارات الأصولية من دون ذكر لأي عدالة انسانية وحقوق البشر، وطلب رئيس عربي قطعة أرض مجاورة لإسرائيل يقود منها حرب تحرير فلسطين، وطلب رئيس آخر الإسقاط الفوري لكل الاتفاقات والمعاهدات مع اسرائيل، وطالب رئيس ثالث بالجهاد لتحرير القدس والاراضي الفلسطينية من النهر الى البحر، وهو نفسه الذي عرض ما قيل إنهم مليونا متطوع من أصل ما قيل انهم سبعة ملايين متطوع ومتطوعة لتحرير فلسطين، وهم يسيرون فوق صور الدولار الاميركي لمدة 14 ساعة بينما هو يطلق النار من بندقيته ايذاناً ببدء التحرير. وصرح رئيس حزب في مصر بضرورة "القاء اسرائيل في البحر" عدلته الصحف إلى "القاء الصهيونية في البحر"، وقال أحد قادة "فتح": "إن السياسية ارتفعت الى مستوى الدم"، وصرح آخر: "بضرورة تصدير الانتفاضة إلى كل ارجاء العالم العربي لخلع الحكام العملاء حتى يمكن تحرير فلسطين"، انهم العرب بالفعل. وهكذا، وفي تكرارية لا تصدق يعيد العرب انتاج اللحظة التاريخية نفسها على مدى خمسين عاماً من دون كلل ومن دون أمل، كان اولها مساء يوم الجمعة 14 آيار مايو 1948، وكانت خاتمة للحظة تاريخية طويلة بدأت برفض قرار التقسيم الرقم 181 وانتهت بدخول الحرب فجر يوم السبت 15 آيار مايو، والباقي معروف. وثاني تلك اللحظات يوم 4 حزيران يونيو 1967، وكانت خاتمة للحظة تاريخية بدأت بعمل من أعمال الحرب وهو إغلاق خليج العقبة الذي كان المرور فيه بقرار من مجلس الأمن سنة 1950، والأمر برحيل قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، وانتهت بحرب 5 يونيو حزيران والباقي معروف. واللحظة الثالثة هي العمليات الانتحارية والعبوات الناسفة قبل العملية الانتحارية في اسرائيل في أيار 1996، بعدها جاء نتانياهو في ظل شعار الآمن قبل السلام أو السلام الأمن، واعترى العرب بعدها الصمت والعجز ثلاث سنوات. وبعد كل تلك اللحظات كان يأتي دور البكائيات العربية، وهكذا تسير تلك الحرب الحالية الى نفسها لمصلحة اليمين الصهيوني العنصري وربما بقيادة نتانياهو، وأول الشواهد هو تلك التسميات المراوغة "الانتفاضة الثانية"، "الانتفاضة المسلحة"، "انتفاضة الاقصى" في محاولة لربط تلك الحرب بالانتفاضة الفلسطينية في 1987 وهو ما يؤدي تلقائياً الى اعفاء السلطة من المسؤولية ومن الحساب، ومقارنة بسيطة بين الانتفاضة وتلك الحرب تكفي: 1- ساهمت الانتفاضة في فرز المجتمع والقوى السياسية في اسرائيل الى قوى الحرب، وقوى الحل السياسي وقوى السلام. وفي ظل ذلك الفرز حدثت تحولات نوعية وكمية، فمن نفي وجود الشعب الفلسطيني والأمر بتكسير عظامه الى توقيع اتفاقات سلمية معه والاعتراف له بحق تقرير المصير، وبرزت في هذا المجال اسماء وكتل وتنظيمات واضحة لأنصار السلام مع الشعب الفلسطيني، مثل الكُتاب والروائيين ديفيد غروسمان وكاموس كينان ويورام كانوك وسامي ميخائيل وشولاميت هارايفن ومئير شاليف، والشاعرين ناتان زاخ وموريس شماس والبروفيسورات اسرائيل شاحاك وبارشيفسكي وكوليدانو وشمعون شامير ويوسي اميتاي، والسينمائيين سيمون بيتون ومناحم هدار، والناشطين من أجل السلام مثل شولاميت ألوني وسالي ريشف، والاعلاميين مثل اهارون بارنيير ويورام بيتور وامنون كابيلوك، والجنرال ماتي بيليد وموردخاي بارأون والمحامية ليا تسمييل، إضافة إلى الحرس القديم مثل فاليسا لانجير واوري افنيري ولطيف دوري وحزب "ميريتز" وحركة "السلام الآن" وكتلة السلام وجماعة الماتزبن وغيرهم، إضافة إلى عشرات الاعمال والكتب والنشرات والتظاهرات، وهو ما شارك في حمل شرعية الانتفاضة وعدالة مطالبها الى كل جهات الأرض. في حين تسببت الحرب الحالية في توحيد المجتمع الاسرائيلي والتلاشي النسبي للفروق السياسية داخله. 2- رفعت الانتفاضة شعارات واضحة تمحورت حول الحقوق الوطنية ومفاهيم العدالة الانسانية في حين أن أغلب شعارات تلك الحرب هي شعارات دينية ضبابية، والفارق شاسع. 3- يمكن القول ان الانتفاضة أفضت إلى دعم دولي جارف على كل المستويات الشعبية والرسمية والمؤسسات ذات الصفة الدولية، في حين تدور تلك الحرب في شبه عزلة باستثناء ادانة الأممالمتحدة والحكومات ومنظمات حقوق الانسان لما سمي باستعمال القوة المفرطة من جانب اسرائيل. 4- كانت اسرائيل هي المتهم الوحيد في الانتفاضة مثلما كان الفلسطينيون هم الضحية الوحيدة، ولكن الصورة الاعلامية للحرب الحالية تظهر الطرفين وقد تشاركا في الاتهام ولو بنسب غير متساوية. 5- اشتعلت الانتفاضة في ظل الاحتلال، وكان اقصى ما هو معروض للتفاوض هو اتفاقية كامب ديفيد 1 التي لم تنص سوى على حكم ذاتي، تم تفسيره في ما بعد انه للأفراد دون الأرض، في ما انطلقت تلك الحرب من مناطق تحت حكم السلطة الفلسطينية وبعد اتفاقات سلمية عدة وفي ظل تفاوض حول التسوية شبه النهائية. 6- نتج عن الانتفاضة مع عوامل اخرى دخول منظمة التحرير الفلسطينية الى الاراضي المحتلة وتحولها الى السلطة الفلسطينية، في حين نتج عن تلك الحرب استنزاف واسع للكيان الفلسطيني وتدمير البنية الاساسية ومؤسسات السلطة ورمزياتها، وهددت وجود عرفات، وفتحت الابواب للتشرذم وتفكيك المجتمع والسلطة في ظل مناطقية وعشائرية واصولية لا تبقي ولا تذر. 7- كانت الانتفاضة نضالاً شعبياً مدنياً بكل معنى الكلمة، وكان العمل العسكري محدوداً على رغم التجاوزات وتصفية الحسابات والاغتيالات بالشبهات، لكن الحرب الحالية شاركت فيها مؤسسات نظامية مسلحة مثل الشرطة والأمن الوقائي والأجهزة العسكرية والأمنية، وتنظيم فتح وميليشياته المسلحة على نطاق واسع مما يجردها من الصفة المدنية. 8- كان الطابع المدني للانتفاضة سبباً في بروز نخبة سياسية وثقافية كانت تقود الشارع والوعي، منهم حيدر عبدالشافي وحنان عشرواي وفيصل الحسيني واياد السراج وعبدالجواد صالح وغيرهم، والمثقفون من أمثال هشام شرابي وعلي الجرباوي وادوارد سعيد ووليد الخالدي وحنا ناصر وابراهيم أبو لغد وغابي برامكي، ورجال العلم والفكر في جامعات بيرزيت والنجاح ونقابات المحامين والاطباء والمعلمين. وتم تأسيس مؤسسات مجتمع مدني موازية للاحتلال، وكان العلم الفلسطيني هو الرمز الاساسي. في تلك الحرب برز محمد دحلان ومروان البرغوتي والعقيد الحاج اسماعيل وتوفيق الطيراوي وجميعهم من العسكريين ورجال الأمن، والشيخ احمد ياسين والمحافظين وتنظيمات حماس والجهاد وحزب الله الفلسطيني، ورفعت رايات حماس وحزب الله وايران وأعلام أخرى بجوار العلم الفلسطيني. 9- كان عدد من سقط من ضحايا وجرحى خلال خمس سنوات من الانتفاضة يساوي من سقط خلال ستة اسابيع من تلك الحرب، واعتقد أن نسبة الخسائر المادية والاجتماعية افدح من تلك النسبة بما لا يقاس. إن كل ما حدث خلال شهرين تقريباً من احداث يشكل - في اعتقادي - اختباراً واسع المدى، يمكن عن طريق تحليله اكتشاف عناصر نقدية تمس الجذور في الصراع العربي الاسرائيلي، وتوافر وسائل كاشفة لأزمة العرب ذات السمات البنيوية والوجودية، وفي الصدارة منها ازمة العقل السياسي العربي، وهو ما سنحاوله في ما يلي: أولاً: عندما ذهب شارون إلى المسجد الأقصى كانت لديه اسباب داخلية، منها حصار باراك سياسياً واجهاض محاولاته لبناء تحالفات تساعده على الاستمرار في السلطة، لكن الدافع الاكبر كان الإطاحة بالتسوية السلمية مع الفلسطينيين، وهكذا وفي ما يشبه تجارب بافلوف طبقاً لنظرية رد الفعل المنعكس الشرطي ترك للعرب أن يكملوا ما بدأه، وكان بذلك يطبق أحد أهم قوانين الصراع في الشرق الاوسط، وهو التحالف الموضوعي غير المباشر بين قوى التوسع الصهيونية وبين الفاشية العربية، والتي اثبتت مراراً عدم قدرتها على الافلات من اختزالها لاسرائيل في حدود اهداف اليمين القومي والديني، إنه الاختزال السهل المريح الذي يخفي العجز عن تصور التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية، وبالتالي العجز عن فهم عوامل التأثير والتأثر والجدل التي تحكم الكيانات البشرية، وعدم تصور امكانية التأثير في المجتمع الاسرائيلي، وهذه نتيجة منطقية لإختزاله "الذات" اي المجتمع العربي في جماعة الطاعة الايمانية أو الطاعة السياسية، فقط معسكرات تجميع. ثانياً: يكشف التحالف الاقليمي السابق عن تحالفات عربية داخلية بين انظمة الاستبداد السياسي وبين القوى الفاشية التي تمثلها الايديولوجيات الدينية والقومية، وكم يتوافر من الأدلة على أن الفاشية الاصولية والقومية لا تنمو إلا في حضانة الاستبداد، انها التحالفات المعادية للديموقراطية، والتي هي أكثر تكلفة بكثير من تكلفة الصراع العربي الاسرائيلي. ثالثاً: كان رفع شعارات الاصولية المطلقة الضبابية من قبل الانظمة والقوى الفاشية في آن واحد في ما يتعلق بالتسوية شبه النهائية على الجبهة الفلسطينية، كان ذلك دليلاً قوياً الى رفض الحل الوسط النسبي والتفصيلي والانساني، وقبول بالإنزلاق في حرب دينية لا نهاية لها، في حين فرضت الحلول الوسط نفسها على الاطراف الاخرى المصرية والاردنية بل اللبنانية. رابعاً: ان ما سبق يثبت أن اتفاقيات السلام العربية السابقة مع اسرائيل لم تكن غايتها تحقيق السلام الحقيقي وهو الديموقراطية والحداثة والتنمية والتعاون الاقليمي، بقدر ما كان الخلاص من المأزق بالهرب الى الأمام. خامساً: اثبتت الاحداث ان قضية فلسطين تظل قضية الاستهلاك المحلي العربية المفضلة، وقميص عثمان المعاصر، كوسيلة لترحيل الازمات الداخلية، وتغطية للعجز عن الحياة في العصر ومبرراً للأطماع الاقليمية، كما انها تصلح كغطاء لأزمة الاستمرار في السلطة في اكثر من بلد عربي، التي أوصلت هذه الأنظمة إلى اجراء استنساخ سياسي للسلطة من طريق الوراثة، وذلك يصعب اللجوء إليه في غياب قوانين استثنائية وهاجس خارجي وحيد، وتوتر اقليمي منخفض او متوسط الحدة. سادساً: تجاهلت تلك الحرب وسلوك القيادة الفلسطينية خلالها عاملاً اساسياً في خبرتها مع اسرائيل، وهو أن التطور في ظل الحلول السلمية كان لمصلحتها دائماً، والمقارنة بين ما كان معروضاً في جنيف وكامب ديفيد 1 ثم مفاوضات واشنطن واوسلو 1، 2 يؤكد هذا التطور مع اضافة الأوضاع الفلسطينية على الأرض، ويتكشف ذلك اكثر حين المقارنة مع التدهور في ظل الحروب المتتالية. وهذا العامل هو جزء من عامل اكبر داخل الصراع العربي الاسرائيلي، هو أن كل خسائر العرب امام اسرائيل كانت ناتجة من ثنائية الحرب والهزيمة، وكل مكاسبهم كانت بواسطة التفاوض. سابعاً: ارسل مؤتمر القمة العربي في القاهرة إلى كل الأطراف الاقليمية والدولية رسالة سلام لا لبس فيها، وفي الوقت نفسه كان الإعلام العربي الذي تغلب عليه كله الصفة الرسمية يشن الحرب ويشيع مناخ التعبئة والحشد والعنف والحماسة تحت الشعارات الاصولية، انها الرسائل المتناقضة في اتجاهات مختلفة في وقت واحد، وبتعبير آخر إنه دوريان غراى المبتسم في وجه العالم، في حين يشيع الحرب في الداخل للاستهلاك المحلي. وفي الوقت نفسه ايضاً لم يكن لدى المؤتمرين في مؤتمر القمة العربي الأخير وايضاً في مؤتمر القمة لما يسمى بالعالم الاسلامي، لم يكن لديهم من أرصدة للضغط على اسرائيل سوى أرصدة الاتفاقات السلمية، وهكذا اقتيدت مصر والاردن وقطر إلى الحائط. ثامناً: لا أزعم أنني سأستوفي في هذا المجال ما يمكن تسميته بسلوك القيادة الفلسطينية خلال الأزمة، ولكن، ثمة باعث يدفعني للمقارنة بين احداث أيلول 1970 في الاردن، ثم على الأرض اللبنانية منذ تأسيس اللجان الأمنية وحتى مجزرة الدامور وجمهورية الفاكهاني ثم الموقف في حرب الخليج الثانية، ثم بعد ذلك تأسيس 11 جهاز أمن على 450 كم2 في المرحلة الأولى من الكيان الفلسطيني أي دولة بوليسية عربية جديدة وداخلها جماعات المافيا المعهودة. إن ثمة رابطاً بين كل ذلك، ومن المحتمل خلال تلك الحرب ومنذ البداية انه كان هناك رهان على انتقال تلك الحرب الى داخل اسرائيل عندما حدث التوتر والعنف في الداخل، ولكن، تم استيعابه داخل المؤسسات السياسية، وتم تشكيل لجنة تحقيق نصفها من العرب ونصفها من اليهود وعضوية البروفيسور شمعون شامير خبير الشؤون العربية، وخصوصاً ان الدوافع يغلب عليها الطابع الاجتماعي، ان سلوك القيادات الفلسطينية يشي بما يمكن أن نسميه الفوضى الناجمة عن انتظار ردود الافعال غير المحسوبة. تاسعاً: كانت المبالغة السياسية والاعلامية العربية في حجم انجاز وانتصار المقاومة اللبنانية في الجنوب اللبناني واختزالها في حزب الله، واخراجها عن كونها مكسباً تكتيكياً محدوداً بمسرح عمليات صغير وحجم محدود للعمليات العسكرية، ولذلك لم يؤثر بأي شكل من الاشكال على موازين القوى الاقليمية، كانت تلك المبالغة سبباً في اعادة بعث ذهنية الحرب في العقل العربي. عاشراً: في يوم 8 حزيران 1967 رفعت القوات الاسرائيلية العلم الاسرائيلي فوق المسجد الأقصى، لكن موشيه ديان انزله يوم 10 وتم تسليم الاقصى والصخرة الى الأوقاف الاسلامية مع اعتراف بالإدارة الاردنية، لكن الطرح الديني للتسوية السياسية بدأ في كامب ديفيد 2 عندما اصر باراك على أن تكون السيادة على الأقصى لإسرائيل، وفي اعتقادي ان المبادرة حتى تلك اللحظة كانت ما تزال فوق منضدة التفاوض، أي انه كان يمكن تطوير موقف المفاوض الفلسطيني أو حتى تأجيل الفصل في تلك النقطة لمدة محددة، لكن شارون اكمل الطرح الديني كي يثبت تضاؤل التفرقة ما بين القومية والاصولية اليهودية، تماما كما تنطبق القاعدة نفسها ويا للعجب، على الجانب العربي، انه جانب آخر من التحالف الاقليمي أو لعله وقت العداء الطويل الذي يجعل الاعداء يحملون سمات بعضهم البعض. حادي عشر: في الوقت الذي اصبح فيه العالم احادي القطبية، واصبحت الولاياتالمتحدة تقوم بأدوار ديبلوماسية وسياسية واقتصادية في طول وعرض العالم العربي بما في ذلك حماية منابع النفط، وحفظ التوازن العربي - العربي والعربي - الايراني وعلى أصعدة داخلية كما في السودان، كما انها المورد الأول للسلاح، والمورد الأول للمساعدات الى دول الطوق واسرائيل، وهي الراعي الاول للمفاوضات العربية - الإسرائيلية، في هذا الوقت تتعالى اصوات تطالب بمقاطعة البضائع الاميركية، وقطع العلاقات معها، والبعض يطلب بإعلان الحرب عليها، كل ذلك لا يعني سوى انه اصبح طقساً فولكلورياً أغرب إلى طبول "التام تام" الافريقية منه الى المطلب أو حتى الشعار السياسي. من كل ما سبق يتبين ان الحرب الدائرة الآن هي مأزق لكل الأطراف، لأنها حرب المطلقات والمجردات التي لا تقبل الحل الوسط، وبتعبير آخر هي الحرب الدينية التي لا يحتاج اليها عاقل، لكن الشعب الفلسطيني العريق في الآلام والأحزاب سيدفع الجزء الأفدح من الخسائر كالعادة، وأهمها ضياع فرصة تسوية سلمية حقيقية، وتقويض الأسس المدنية للدولة الفلسطينية، وابتعاد فرصة الحل الديموقراطي. وإذا اضفنا الى كل ذلك الاهتزاز السياسي في اسرائيل والاحتمالات القوية لتقدم اليمين بقيادة شارون أو نتانياهو، واعادة ترتيب البيت الاميركي بعد كلينتون، وربما تقلص الدور الاميركي وراء البحار، ونوع البيئة السياسية العربية، وتنامي بعض القوى الاقليمية غير العربية، يمكن التنبؤ بالاحتمالات الخطرة لهذا المأزق. لقد اثبت العقل العربي مراراً أنه لم يتعد طور العقل الديني، أي نسق المعرفة والثقافة والعادات والتقاليد وحس البيئة الذي رافق المعتقدات الايمانية عند ظهورها، وبالتالي لم يبلغ بعد طور العقل الفلسفي، ومن بعده طور العقل العلمي، ناهيك عن طور العقل ما بعد العلمي، لذا تحول الحق من عمل عقلي الى ما يزنه من كراهية وعنف، وحلت الغرائز السياسية محل العقل السياسي وساد تمجيد الانتحار والقتل واحتقار الحياة. كل ذلك في ظل استبداد سياسي همجي معادٍ للتغيير والتطور، ولأن الفكر العلمي المترابط لم يخترع بعد، لذا لم يدرك العقل العربي العام ان اتفاقات السلام الناقص افضل من أي حرب، لأنها ليست الحق ولا السلام الحقيقي، لأن السلام الحقيقي هو الديموقراطية والتعايش والتنمية والحداثة، وهو ما لم تستعد له انظمة الاستبداد العربية، لذا نكصت على عقبيها الى احضان ربيب "الغرام والانتقام" اعني الاسلام السياسي الدموي والانقسام المكلف، كي يثبت كل ذلك انها بعد سقوط البربرية الصربية الارثوذكسية بعد سقوط ميلوشيفيتش تحت مطارق الديموقراطية، وبعد احتواء البربرية الهندوسية في الدولة الهندية المدنية، تتبقى، في رأيي، بربريتان في قلب العالم القديم تحاربان العدالة والسلام والتعاون الاقليمي وحرية الشعوب هما البربرية الصهيونية والاسلام السياسي. وإذا كان ثمة درس في وسط درب الآلام هذا فهو أن السلام الحقيقي في الشرق الأوسط يشترط زوال الصهيونية الاستيطانية وتحول اسرائيل الى دولة مدنية، بقوة استحالته نفسها في وجود الانظمة غير الديموقراطية العربية. * كاتب مصري.