بعد أيام من اندلاع انتفاضة الأقصى نقلت "الحياة" عن نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل السابق قوله إن ما يجري دليل الى "أننا نخوض صراع وجود وليس صراع حدود". وفي العام 1997 عندما وصل نتانياهو إلى موقع تحطم طائرتين عموديتين فوق الجنوباللبناني، والذي قتل فيه 73 جندياً إسرائيلياً، طالبه الجنود بالانسحاب، فردّ عليهم بقوله: "إذا انسحبنا من هنا سيتبعوننا إلى قرى الجليل" هذه العقلية المهووسة بالوجود - كمبرر للعدوان والوحشية - لا تختلف عن العقلية الحاكمة الآن في إسرائيل، حيث ينقل يويل ماركوس هاآرتس 20/10 عن ايهود باراك قوله: "إذا وافقنا على مطالب عرفات فسينتهي الأمر بمطالبة الفلسطينيين بشارع شوكن"، وهو الشارع الذي تقع فيه جريدة "هاآرتس" وكان أصلاً يقع في بلدة أبو كبير الفلسطينية. أما المستوطنون حلفاء باراك، فيقولون "اليوم بساجات وجيلو وغداً تل أبيب والنقب". إذاً لا بد أن يصاب المرء بدهشة عندما يبحث في مقال أمين المهدي أفكار 6/12 عن إدانة واحدة لباراك، فلا يجد سوى قول الكاتب إن "باراك كان طموحاً في كامب ديفيد بأكثر مما تسمح به إمكاناته"، وأنه تفضل بالإقرار بأن "هناك قدسين: جيروزاليم والقدس" تنقلب الدهشة الى اشمئزاز عندما نبحث في المقال الطويل عن رأي الكاتب في قضية القدس - خصوصاً أنه يهاجم الانتفاضة التي انطلقت منها - فلا نجد لهذا الرأي أثراً. وعن انطباعه بشأن مقاومة الفلسطينيين دفاعاً عن القدس، وتظاهرات العرب تضامناً معهم، لا نجد سوى إدانة ل "الشعارات الدينية الضبابية" التي تؤجج الانتفاضة. أما في ما يخص الشارع الفلسطيني ودوره في قيادة الانتفاضة والتمسك بها، فلا نجد سوى تغييب كامل لهذا الدور، وإقحام مضلل ل "الإسلام السياسي" الذي يصفه المهدي تارة بالفاشية وأخرى بالدموية وأخيراً بالبربرية. هذا الهوس ب "الإسلام السياسي" أعجز الكاتب عن كبح تحيزاته المسبقة، فانطلق يستنكر اتفاق الأنظمة العربية والتيارات القومية مع القوى الإسلامية - حول موقف موحد من القدس ومقاومة الاحتلال - بوصفه "تحالفاً بين أنظمة الاستبداد السياسي والقوى الفاشية الدينية والقومية". في نطاق التحيزات المسبقة أيضاً، لا يبدو الكاتب وكأنه تأثر بأحداث الشهرين الماضيين، فانطلق مرة أخرى يترافع عن إسرائيل ويروج حججها كما لو أنه أصبح ناطقاً بلسان حكومتها، حيث عمد إلى: أولا: التنديد بأعداء إسرائيل من إسلاميين وقوميين وحكومات، وتحميلهم مسؤولية إشعال الانتفاضة، وكأن الفلسطيني آلة "روبوت" يحركها هؤلاء بالضغط على زر. ثانياً: إدانة "تمجيد الانتحار والقتل واحتقار الحياة" من جانب الفلسطينيين، وهو ما يستدعي التنويه الى ما تردده أجهزة الدعاية الإسرائيلية عن أن "دفع السلطة الفلسطينية بالأطفال والشباب إلى خطوط الجبهة يدل على مدى احتقارهم للحياة". ثالثاً: تسفيه نداءات مقاطعة البضائع الأميركية بتعديد الكاتب لأفضال اميركا على العرب: "حماية منابع النفط وحفظ التوازن العربي - العربي ... إلخ. رابعاً: الإيحاء بأنه لم يكن هناك ما يبرر انتفاضة الأقصى لأنها "انطلقت من مناطق تحت حكم السلطة" أي غير محتلة. إن مقارنة دقيقة بين الانتفاضة الأولى التي جرت في ظل احتلال صريح أقل أمناً لإسرائيل، والثانية التي تجري في ظل احتلال مقنّع اكثر أمناً لجنود الاحتلال، لا بد وأن تخلص الى أن مبررات الثانية أقوى من مبررات الأولى، خصوصاً وأنها تجسد ليس فقط مقاومة ضد احتلال، وانما ايضاً مقاومة ضد مشروع تسوية يراد به إضفاء شرعية على هذا الاحتلال. أما كون الانتفاضة الأولى "أفضت الى دعم دولي جارف في حين تدور الثانية في شبه عزلة دولية"، فذلك لأن إسرائيل فوجئت تماماً بالأولى من دون أن تستعد لها. أما الانتفاضة الحالية، فقد كانت إسرائيل تعد لها طوال العقد الماضي الذي استرخى فيه العرب واستكانوا لأوهام "السلام"، وذلك بعد أن تعلمت الكثير من دروس الانتفاضة الأولى حتى أصبح كل جندي مجهز بخوذة من الصلب وسترة واقية من الرصاص وسيارة مدرعة. والعزلة الدولية كانت نتيجة حتمية للتمهيد الإعلامي الناجح الذي شنه باراك وحلفاؤه في الإعلام الاميركي بعد كامب ديفيد، وتمكنهم من إقناع قادة العالم بمسؤولية عرفات عن فشل القمة، وما قد يترتب عليه من أحداث عنف. وبالتالي عندما حان الوقت المناسب، وفَّر باراك ذريعة العنف بتسهيل صعود شارون الى الحرم، ثم فجّره في اليوم التالي باغتيال أول خمسة شهداء بعد صلاة جمعة 29 ايلول سبتمبر. خامساً: الدعوة إلى حجب الحقائق، حيث يتهم المهدي إعلام الانتفاضة العربي بأنه "يشن الحرب ويشيع مناخ العنف تحت الشعارات الاصولية". هذه هي تهمة "التحريض" نفسها التي توجهها آلة الدعاية الإسرائيلية الى التلفزيون الفلسطيني لأنه يذيع مشاهد الجنازات اليومية، وما يتردد فيها من هتافات تمجد البطولة والاستشهاد في سبيل الله الشعارات الأصولية الضبابية، على حد تعبير أمين المهدي، ويبث مشهد اغتيال محمد الدرة وينشر صورة فارس عودة 14 عاماً الشهيرة وهو يلقي حجراً في مواجهة دبابة استشهد الغلام بعد التقاط هذه الصورة بأيام، وترى إسرائيل أنه لا بد من حجب المشاهد وكتم الهتافات لأنها "تشيع مناخ العنف وتحرض عليه". سادساً: التناقض بين التشدق بالديموقراطية من ناحية، واستنكار تفاعل الانظمة العربية مع نبض الشارع العربي من ناحية أخرى. إن زعم الكاتب أنه "لم يكن لدى المؤتمرين في القمتين العربية والإسلامية من أرصدة للضغط على إسرائيل سوى أرصدة الاتفاقات السلمية" يفرض تساؤلات عدة: ماذا عن رصيد الشرعية التي تفتقدها إسرائيل في محيطها، والتي فجّرت العنف من أجل الحصول علىها قسراً بعد أن فشلت في الحصول عليها طوعاً في كامب ديفيد؟ ماذا عن رصيد المقاومة الشعبية، هذا العنصر الخطير الذي يتجاهله الكاتب، ويفرض نفسه على رغم أنف الجميع في المعادلة الحاكمة للصراع؟ من الذي أخرج إسرائيل مهانة من جنوبلبنان على رغم عقليتها الوجودية؟ من الذي يقاوم التطبيع في مصر والأردن؟ من الذي دفع 10 في المئة من المستوطنين اليهود اليوم إلى مغادرة مستوطناتهم الى داخل الخط الأخضر ويجعل ثلث المستوطنين يعلنون رغبتهم في الرحيل فور حصولهم على تعويضات من الحكومة الإسرائيلية؟ من الذي أجبر إسرائيل على إخلاء "قبر يوسف"، والبحرية الإسرائيلية على وضع خطة إخلاء سريع لمستوطنات غزة لحين الحاجة إليها؟ سابعاً: العزف عن منظمة "السلام الناقص أفضل من أي حرب"، والتحذير من خطورة "ضياع فرصة تسوية حقيقية"، وإدانة رفض صفقة باراك في كامب ديفيد، "الحل الوسط النسبي والتفصيلي والإنساني" على حد تعبير الكاتب. هذه كلها حجج ترددها الصحافة اليمينية في إسرائيل منذ الصيف الماضي. فهل يخفى عن أمين المهدي أن السلام الذي يريده عرفات مختزل بنسبة 78 في المئة، وأن إسرائيل هي التي ترفض السلام الناقص؟ أم أنه أسهل عليه أن يردد ما يقوله الإسرائيليون من أن 22 في المئة = 100 في المئة؟ ثامناً: وصف الانتفاضة بأنها "حرب" يشنها العسكريون الفلسطينيون يقابله قول باراك أمام مجلس وزرائه يوم 3/12: "عام 1947 وافقنا على حل وسط قرار التقسيم غير أن العرب اختاروا الحرب. واليوم كنا نريد الاتفاق ولكن اختار الفلسطينيون الحرب". يقول ميرون بنفينيستي هاآرتس 23/11 إن استخدام مصطلح "الحرب" يستهدف إضفاء مشروعية على العنف الإسرائيلي، طالما أنها حرب بقاء وحرب دفاعية. تاسعاً: كما تعهد باراك في مناسبات عدة بتحقيق الانتصار في هذه الحرب، يبشرنا أمين المهدي بهزيمة الفلسطينيين في الانتفاضة "الحرب"، حيث يزعم أن "كل خسائر العرب كانت ناتجة من ثنائية الحرب والهزيمة"، أي أن أي حرب لا بد من أن تنتهي بهزيمة العرب وخسارتهم، بغض النظر عن جنوبلبنان وتشرين الأول اكتوبر 1973. يمثل مقال أمين المهدي محاولة للعودة إلى ما قبل الانتفاضة وإحباط انجازاتها وإحياء خرافات ماتت مع أوسلو، من عينة "التأثير في المجتمع الإسرائيلي" باسترضائه تفاوضاً. هذا المجتمع الذي يصفه ماثيو انغل في الغارديان 28/11 بأنه "متعصب لا يرى سوى ذاته" لقد أثبت حزب الله أن المواجهة مع إسرائيل من دون تفاوض خيار ناجح، وأثبت موت أوسلو أن التفاوض من دون مواجهة خيار فاشل. ثم جاءت انتفاضة الاقصى لتعلي خيار المقاومة فوق أي خيار آخر. ربما كانت الحجة الوحيد المنطقية التي وردت في مقال الكاتب، هي قوله إن الانتفاضة تشكل "مأزقاً لكل الأطراف". فهي مأزق محمود للشعوب العربية العاجزة عن انتزاع حريتها من الانظمة الحاكمة، وبالتالي لا تتمكن من نصرة إخوانها في فلسطين. وهي مأزق مكروه للأنظمة العربية العاجزة عن انتزاع حقوق العرب من إسرائيل، كما تبين من قرارات القمة العربية المتواضعة. وهي مأزق مخيف لإسرائيل العاجزة عن انتزاع شرعيتها من الشعوب العربية، كما يتضح من المقاومة الشرسة لإحتلال الأرض وتطبيع العلاقات. الاستثناء الوحيد من هذا المأزق هو الشعب الفلسطيني الذي يعض النواجذ على الانتفاضة لأنها أصبحت - كما يقول الكاتب المصري فهمي هويدي - ضرورة حياة. ولأن أمين المهدي استبعد من مثلث العجز هذا أهم أضلاعه - المقاومة الشعبية - جاء تقويمه لموازين القوى ناقصاً. ففي المواجهة بين إسرائيل وشعوب العرب، تصبح الجيوش الجرَّارة والذخيرة الفتاكة غير ذات جدوى وتنتقل السيادة في أرض المعركة للقوى المعنوية، وهو المجال الذي يميل فيه ميزان القوى لمصلحة الشعوب لأنها هي التي تملك ورقتي الحق والشرعية. وبرهنت انتفاضة الأقصى على أنه مهما فجرت إسرائيل في بطشها، فإنها لن تنجح في انتزاع هاتين الورقتين لسبب بسيط خبرته في الانتفاضة الأولى وفي الجنوباللبناني: عجزها الكامل عن التعامل مع شعوب لا تهاب الموت. * كاتب مصري. بعد أيام من اندلاع انتفاضة الأقصى نقلت "الحياة" عن نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل السابق قوله إن ما يجري دليل الى "أننا نخوض صراع وجود وليس صراع حدود". وفي العام 1997 عندما وصل نتانياهو إلى موقع تحطم طائرتين عموديتين فوق الجنوباللبناني، والذي قتل فيه 73 جندياً إسرائيلياً، طالبه الجنود بالانسحاب، فردّ عليهم بقوله: "إذا انسحبنا من هنا سيتبعوننا إلى قرى الجليل" هذه العقلية المهووسة بالوجود - كمبرر للعدوان والوحشية - لا تختلف عن العقلية الحاكمة الآن في إسرائيل، حيث ينقل يويل ماركوس هاآرتس 20/10 عن ايهود باراك قوله: "إذا وافقنا على مطالب عرفات فسينتهي الأمر بمطالبة الفلسطينيين بشارع شوكن"، وهو الشارع الذي تقع فيه جريدة "هاآرتس" وكان أصلاً يقع في بلدة أبو كبير الفلسطينية. أما المستوطنون حلفاء باراك، فيقولون "اليوم بساجات وجيلو وغداً تل أبيب والنقب". إذاً لا بد أن يصاب المرء بدهشة عندما يبحث في مقال أمين المهدي أفكار 6/12 عن إدانة واحدة لباراك، فلا يجد سوى قول الكاتب إن "باراك كان طموحاً في كامب ديفيد بأكثر مما تسمح به إمكاناته"، وأنه تفضل بالإقرار بأن "هناك قدسين: جيروزاليم والقدس" تنقلب الدهشة الى اشمئزاز عندما نبحث في المقال الطويل عن رأي الكاتب في قضية القدس - خصوصاً أنه يهاجم الانتفاضة التي انطلقت منها - فلا نجد لهذا الرأي أثراً. وعن انطباعه بشأن مقاومة الفلسطينيين دفاعاً عن القدس، وتظاهرات العرب تضامناً معهم، لا نجد سوى إدانة ل "الشعارات الدينية الضبابية" التي تؤجج الانتفاضة. أما في ما يخص الشارع الفلسطيني ودوره في قيادة الانتفاضة والتمسك بها، فلا نجد سوى تغييب كامل لهذا الدور، وإقحام مضلل ل "الإسلام السياسي" الذي يصفه المهدي تارة بالفاشية وأخرى بالدموية وأخيراً بالبربرية. هذا الهوس ب "الإسلام السياسي" أعجز الكاتب عن كبح تحيزاته المسبقة، فانطلق يستنكر اتفاق الأنظمة العربية والتيارات القومية مع القوى الإسلامية - حول موقف موحد من القدس ومقاومة الاحتلال - بوصفه "تحالفاً بين أنظمة الاستبداد السياسي والقوى الفاشية الدينية والقومية". في نطاق التحيزات المسبقة أيضاً، لا يبدو الكاتب وكأنه تأثر بأحداث الشهرين الماضيين، فانطلق مرة أخرى يترافع عن إسرائيل ويروج حججها كما لو أنه أصبح ناطقاً بلسان حكومتها، حيث عمد إلى: أولا: التنديد بأعداء إسرائيل من إسلاميين وقوميين وحكومات، وتحميلهم مسؤولية إشعال الانتفاضة، وكأن الفلسطيني آلة "روبوت" يحركها هؤلاء بالضغط على زر. ثانياً: إدانة "تمجيد الانتحار والقتل واحتقار الحياة" من جانب الفلسطينيين، وهو ما يستدعي التنويه الى ما تردده أجهزة الدعاية الإسرائيلية عن أن "دفع السلطة الفلسطينية بالأطفال والشباب إلى خطوط الجبهة يدل على مدى احتقارهم للحياة". ثالثاً: تسفيه نداءات مقاطعة البضائع الأميركية بتعديد الكاتب لأفضال اميركا على العرب: "حماية منابع النفط وحفظ التوازن العربي - العربي ... إلخ. رابعاً: الإيحاء بأنه لم يكن هناك ما يبرر انتفاضة الأقصى لأنها "انطلقت من مناطق تحت حكم السلطة" أي غير محتلة. إن مقارنة دقيقة بين الانتفاضة الأولى التي جرت في ظل احتلال صريح أقل أمناً لإسرائيل، والثانية التي تجري في ظل احتلال مقنّع اكثر أمناً لجنود الاحتلال، لا بد وأن تخلص الى أن مبررات الثانية أقوى من مبررات الأولى، خصوصاً وأنها تجسد ليس فقط مقاومة ضد احتلال، وانما ايضاً مقاومة ضد مشروع تسوية يراد به إضفاء شرعية على هذا الاحتلال. أما كون الانتفاضة الأولى "أفضت الى دعم دولي جارف في حين تدور الثانية في شبه عزلة دولية"، فذلك لأن إسرائيل فوجئت تماماً بالأولى من دون أن تستعد لها. أما الانتفاضة الحالية، فقد كانت إسرائيل تعد لها طوال العقد الماضي الذي استرخى فيه العرب واستكانوا لأوهام "السلام"، وذلك بعد أن تعلمت الكثير من دروس الانتفاضة الأولى حتى أصبح كل جندي مجهز بخوذة من الصلب وسترة واقية من الرصاص وسيارة مدرعة. والعزلة الدولية كانت نتيجة حتمية للتمهيد الإعلامي الناجح الذي شنه باراك وحلفاؤه في الإعلام الاميركي بعد كامب ديفيد، وتمكنهم من إقناع قادة العالم بمسؤولية عرفات عن فشل القمة، وما قد يترتب عليه من أحداث عنف. وبالتالي عندما حان الوقت المناسب، وفَّر باراك ذريعة العنف بتسهيل صعود شارون الى الحرم، ثم فجّره في اليوم التالي باغتيال أول خمسة شهداء بعد صلاة جمعة 29 ايلول سبتمبر. خامساً: الدعوة إلى حجب الحقائق، حيث يتهم المهدي إعلام الانتفاضة العربي بأنه "يشن الحرب ويشيع مناخ العنف تحت الشعارات الاصولية". هذه هي تهمة "التحريض" نفسها التي توجهها آلة الدعاية الإسرائيلية الى التلفزيون الفلسطيني لأنه يذيع مشاهد الجنازات اليومية، وما يتردد فيها من هتافات تمجد البطولة والاستشهاد في سبيل الله الشعارات الأصولية الضبابية، على حد تعبير أمين المهدي، ويبث مشهد اغتيال محمد الدرة وينشر صورة فارس عودة 14 عاماً الشهيرة وهو يلقي حجراً في مواجهة دبابة استشهد الغلام بعد التقاط هذه الصورة بأيام، وترى إسرائيل أنه لا بد من حجب المشاهد وكتم الهتافات لأنها "تشيع مناخ العنف وتحرض عليه". سادساً: التناقض بين التشدق بالديموقراطية من ناحية، واستنكار تفاعل الانظمة العربية مع نبض الشارع العربي من ناحية أخرى. إن زعم الكاتب أنه "لم يكن لدى المؤتمرين في القمتين العربية والإسلامية من أرصدة للضغط على إسرائيل سوى أرصدة الاتفاقات السلمية" يفرض تساؤلات عدة: ماذا عن رصيد الشرعية التي تفتقدها إسرائيل في محيطها، والتي فجّرت العنف من أجل الحصول علىها قسراً بعد أن فشلت في الحصول عليها طوعاً في كامب ديفيد؟ ماذا عن رصيد المقاومة الشعبية، هذا العنصر الخطير الذي يتجاهله الكاتب، ويفرض نفسه على رغم أنف الجميع في المعادلة الحاكمة للصراع؟ من الذي أخرج إسرائيل مهانة من جنوبلبنان على رغم عقليتها الوجودية؟ من الذي يقاوم التطبيع في مصر والأردن؟ من الذي دفع 10 في المئة من المستوطنين اليهود اليوم إلى مغادرة مستوطناتهم الى داخل الخط الأخضر ويجعل ثلث المستوطنين يعلنون رغبتهم في الرحيل فور حصولهم على تعويضات من الحكومة الإسرائيلية؟ من الذي أجبر إسرائيل على إخلاء "قبر يوسف"، والبحرية الإسرائيلية على وضع خطة إخلاء سريع لمستوطنات غزة لحين الحاجة إليها؟ سابعاً: العزف عن منظمة "السلام الناقص أفضل من أي حرب"، والتحذير من خطورة "ضياع فرصة تسوية حقيقية"، وإدانة رفض صفقة باراك في كامب ديفيد، "الحل الوسط النسبي والتفصيلي والإنساني" على حد تعبير الكاتب. هذه كلها حجج ترددها الصحافة اليمينية في إسرائيل منذ الصيف الماضي. فهل يخفى عن أمين المهدي أن السلام الذي يريده عرفات مختزل بنسبة 78 في المئة، وأن إسرائيل هي التي ترفض السلام الناقص؟ أم أنه أسهل عليه أن يردد ما يقوله الإسرائيليون من أن 22 في المئة = 100 في المئة؟ ثامناً: وصف الانتفاضة بأنها "حرب" يشنها العسكريون الفلسطينيون يقابله قول باراك أمام مجلس وزرائه يوم 3/12: "عام 1947 وافقنا على حل وسط قرار التقسيم غير أن العرب اختاروا الحرب. واليوم كنا نريد الاتفاق ولكن اختار الفلسطينيون الحرب". يقول ميرون بنفينيستي هاآرتس 23/11 إن استخدام مصطلح "الحرب" يستهدف إضفاء مشروعية على العنف الإسرائيلي، طالما أنها حرب بقاء وحرب دفاعية. تاسعاً: كما تعهد باراك في مناسبات عدة بتحقيق الانتصار في هذه الحرب، يبشرنا أمين المهدي بهزيمة الفلسطينيين في الانتفاضة "الحرب"، حيث يزعم أن "كل خسائر العرب كانت ناتجة من ثنائية الحرب والهزيمة"، أي أن أي حرب لا بد من أن تنتهي بهزيمة العرب وخسارتهم، بغض النظر عن جنوبلبنان وتشرين الأول اكتوبر 1973. يمثل مقال أمين المهدي محاولة للعودة إلى ما قبل الانتفاضة وإحباط انجازاتها وإحياء خرافات ماتت مع أوسلو، من عينة "التأثير في المجتمع الإسرائيلي" باسترضائه تفاوضاً. هذا المجتمع الذي يصفه ماثيو انغل في الغارديان 28/11 بأنه "متعصب لا يرى سوى ذاته" لقد أثبت حزب الله أن المواجهة مع إسرائيل من دون تفاوض خيار ناجح، وأثبت موت أوسلو أن التفاوض من دون مواجهة خيار فاشل. ثم جاءت انتفاضة الاقصى لتعلي خيار المقاومة فوق أي خيار آخر. ربما كانت الحجة الوحيد المنطقية التي وردت في مقال الكاتب، هي قوله إن الانتفاضة تشكل "مأزقاً لكل الأطراف". فهي مأزق محمود للشعوب العربية العاجزة عن انتزاع حريتها من الانظمة الحاكمة، وبالتالي لا تتمكن من نصرة إخوانها في فلسطين. وهي مأزق مكروه للأنظمة العربية العاجزة عن انتزاع حقوق العرب من إسرائيل، كما تبين من قرارات القمة العربية المتواضعة. وهي مأزق مخيف لإسرائيل العاجزة عن انتزاع شرعيتها من الشعوب العربية، كما يتضح من المقاومة الشرسة لإحتلال الأرض وتطبيع العلاقات. الاستثناء الوحيد من هذا المأزق هو الشعب الفلسطيني الذي يعض النواجذ على الانتفاضة لأنها أصبحت - كما يقول الكاتب المصري فهمي هويدي - ضرورة حياة. ولأن أمين المهدي استبعد من مثلث العجز هذا أهم أضلاعه - المقاومة الشعبية - جاء تقويمه لموازين القوى ناقصاً. ففي المواجهة بين إسرائيل وشعوب العرب، تصبح الجيوش الجرَّارة والذخيرة الفتاكة غير ذات جدوى وتنتقل السيادة في أرض المعركة للقوى المعنوية، وهو المجال الذي يميل فيه ميزان القوى لمصلحة الشعوب لأنها هي التي تملك ورقتي الحق والشرعية. وبرهنت انتفاضة الأقصى على أنه مهما فجرت إسرائيل في بطشها، فإنها لن تنجح في انتزاع هاتين الورقتين لسبب بسيط خبرته في الانتفاضة الأولى وفي الجنوباللبناني: عجزها الكامل عن التعامل مع شعوب لا تهاب الموت. * كاتب مصري.