على غرار ما فعلته ثورات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أنعشت الثورة الشعبية المصرية التي أسقطت، كما التونسية قبلها بأسابيع، وبالضربة القاضية، كافة المقولات العنصرية الاستشراقية حول عدم قابلية العرب للديموقراطية والحرية، واستسلامهم لأنظمة القمع والتسلط والفساد والتبعية، أنعشت أحلام التحرير والحرية والكرامة لدى الفلسطينيين الذين تابعوا باهتمام شديد تطورات «الحدث المصري». فقد رأوا أنه يوفر فرصة تاريخية لتحقيق إنجازات ديموقراطية وسياسية واجتماعية حقيقية، ويتيح إعادة النظر، ولو بعد حين، في منظومة العلاقات الخارجية لمصر، لا سيما ما يتعلق بمعاهدات كامب ديفيد التي شكلت الأساس المادي للانهيار العربي اللاحق، وكذلك بعلاقة التحالف الوثيق مع الأميركيين التي تلفعت برداء الحاجة إلى مواجهة ما أطلق عليه «الخطر الإسلامي المشترك». فكان من المنطقي والمفهوم، في خضم الأحداث المتسارعة، ألا تتطرق الثورة الشعبية المصرية، في مطالبها المعلنة وشعاراتها المرفوعة هذه الأيام، بشكل واضح وجلي إلى القضايا القومية، وفي مقدمها العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة، انطلاقاً من «الإدراك الجمعي» لضرورة التركيز على العناوين الأساسية الشاخصة التي تشكل «قواسم مشتركة» آنية ما بين أوسع الفئات الشعبية: محاربة التوريث والاستئثار بالثروة من قبل الحكام الذين اعتبروا الدولة ملكاً شخصياً لهم، ومن قبل بعض المنتفعين، وانتزاع الحقوق الديموقراطية والسياسية، وتحقيق قدر كاف من العدالة الاجتماعية، وكذلك انطلاقاً من المعرفة الدقيقة لحقيقة موقع مصر الاستراتيجي في المنطقة، لا سيما حيال إسرائيل التي تحاول المستحيل الحد من الخسائر الإستراتيجية التي تنتظرها، وحيال موازين القوى الإقليمية التي تهتز بقوة، ناهيك عن قوة ودور الجيش ذي النفوذ الكبير في المجتمع والاقتصاد المصريين، ما يدفع إلى الترجيح بأن ثمة فترة طويلة يمكن أن تنقضي قبل أن تنضج هذه التجربة الجديدة التي ستكون معنية، أولاً وبالأساس بإعادة ترتيب الأمور الداخلية ومن ثم البحث في أولويات السياسة الخارجية. ومع ذلك، كان لا بد من أن يحتل هدف بلورة بديل سلطوي للرئيس مبارك من رحم النظام ذاته، يجدد التزامه باتفاقيات كامب ديفيد التي فوضَت إسرائيل استباحة الفلسطينيين والعرب مقابل إعادة سيناء المنزوعة السلاح و «سلام مذل»، رأس جدول الأعمال الأميركي - الإسرائيلي الذي جهَز على عجل للتعاطي من الانتفاضة المصرية وتداعياتها، ذلك أن أصحاب هذا الجدول يدركون جيداً تلك الصلة الجدلية التي تربط ما بين التبعية للولايات المتحدة والمؤسسات الدولية التي تهيمن عليها، والاتفاقيات المذلة مع إسرائيل، وبين ديكتاتورية وفساد النخبة الحاكمة و»قططها السمان» من رجال الأعمال وقيادات «الحزب الوطني» الذين نهبوا الثروات الوطنية وسيطروا بالقوة على كل وسائل الإنتاج والقرارات السياسية، وحاولوا إخضاع الأغلبية الساحقة من دون أي تردد أو مساءلة. ما يحيل إلى الاستنتاج بأن حدود التغيير الجاري في مصر، وطبيعة السلطة المقبلة، التي يتفاعل الصراع بشأنهما راهناً، سيحددان نمط وأسلوب وتكتيك التعاطي مع اتفاقيات كامب ديفيد ومستقبلها، والتي يرى البعض أن مدخلها العملي يمكن أن يستند، تحت وطأة الضغط الأميركي والغربي والتهديدات الإسرائيلية التي سيرتفع منسوبها باضطراد، إلى إعلان «الشروط السرية» في الاتفاقات التي لم يعرف بها الشعب المصري، وعرضها على برلمان منتخب في شكل ديموقراطي ليقرر مصيرها ومصير الاتفاقات ومستقبلها. في المقابل، وبموازاة «الصمت» الذي خيَم على حركتي «فتح» و «حماس» حيال أحداث مصر، وقرار منع التظاهر الذي اتخذته سلطتا رام اللهوغزة. الأولى، بسبب رزمة عوامل من بينها الخشية من ارتكاب ذات الخطيئة التي ارتكبت إبان الاجتياح العراقي للكويت مطلع تسعينات القرن الماضي، وأدت إلى قطع الكويت علاقتها بمنظمة التحرير، وطرد آلاف الفلسطينيين العاملين هناك. والثانية، بسبب حساسية العلاقة مع مصر تحت وطأة سيف الجغرافيا السياسية. بموازاة ذلك، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى التقاط هذه اللحظة التاريخية واستثمارها لمصلحة القضية والحقوق الوطنية، من قبل طرفي المعادلة الفلسطينية اللذين صمَا الآذان عن سماع الدرس الأول الذي تقدمه الثورة الشعبية المصرية، والذي يفيد بوضوح أن الانقسامات السابقة فقدت معناها، وأن وزن النقاشات الفكرية بين التيارات الإيديولوجية السابقة فقد معناه أيضاً لمصلحة تعددية جديدة قوامها الجمع الخلَاق بين الحقوق الوطنية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والهوية العربية. ويبدو أن الترجمة العملية لهذا «الطرش» القيادي الفلسطيني المظلل بإمكانية قيام إسرائيل بتشديد حصارها وإجراءاتها القمعية، لا بل وشن حرب على قطاع غزة بحجة أن الأوضاع في المنطقة العربية غير مستقرة وتهدد إسرائيل، بدأت تشق طريقاً معاكساً للدروس المصرية واستحقاقاتها، وذلك من خلال التمترس في ذات الخنادق السياسية السابقة، والعمل ما أمكن لتجنب ما أسمته السلطة الفلسطينية «تداعيات الزلزال المصري» عبر تعزيز النضال الشعبي محلياً، والنضال السياسي دولياً، وتعزيز الديموقراطية داخلياً، وتجنب حدوث انفجار عنيف في مواجهة إسرائيل، انطلاقاً من التقدير بأن الفلسطينيين الذين تأثروا في انتفاضتهم الثانية (انتفاضة الأقصى) بالنموذج اللبناني في طرد إسرائيل من الجنوب عام 2000، سيتأثرون حتماً بالنموذجين المصري والتونسي في التغيير، وهو ما سيؤدي، وفق تقدير السلطة، إلى إلحاق ضرر كبير بالفلسطينيين، على المستويين البشري والاقتصادي، وربما يفتح الطريق أمام عودة حركة «حماس» إلى الواجهة. وعليه، وتحت عباءة الترويج بأن السلطة الفلسطينية المصممة على اللجوء إلى مجلس الأمن للمطالبة بوقف الاستيطان بعد فشل المفاوضات، ستبدي تشدداً أكبر إزاء المفاوضات مع إسرائيل في مرحلة ما بعد الثورة الشعبية المصرية، تحاول هذه السلطة استباق التطورات المحتملة من خلال الدعوة إلى إجراء انتخابات بلدية تعقبها انتخابات برلمانية ورئاسية في الأراضي الفلسطينية، وذلك على رغم أن ما يدب على الأرض الفلسطينية هو حراك معاكس للمصلحة الوطنية أبرز عناوينه هو تلك المعركة «الفايسبوكية» التي تنتشر كالنار في الهشيم بين حركتي «فتح» و «حماس»، وتجد وقودها في استمرار الانقسام، والقمع والبطش والبطالة والفقر، وذلك بخلاف تجربة الشباب المصري الذي استخدم التكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة للتواصل، وإيصال صوته الرافض للظلم والتهميش والاستبداد وكم الأفواه. * كاتب فلسطيني