العلاقة بين ألمانيا واسرائيل مطلع هذا القرن ليست صداقة عادية، لأنها لا تزال تحمل في عمقها ذكريات المحرقة. وبكلمة اخرى، لم تتحرر العلاقة من الماضي بل بقيت متجمدة فيه. وهي تقوم، من الطرف الألماني، على شعور طاغ بالذنب. لكن المجزرة التي ارتكبها الألمان بحق ملايين اليهود انتهت مع انتصار الحلفاء في 1945، أي قبل 55 عاماً. من هنا فإن السياسيين والديبلوماسيين وكبار المسؤولين والصناعيين والعسكريين الذين يقودون ألمانيا في العقد الحالي ينتمون كلهم الى جيل ما بعد الحرب، من دون مسؤولية مباشرة عما حصل في ألمانيا النازية. ان رجلاً كان في العشرين وشغل مرتبة متواضعة في الدولة هو الآن متقاعد في الخامسة والسبعين. هذا الوضع يدفع الى السؤال: الى متى سيستمر لدى قادة ألمانيا الشعور بأنهم مقيدون الى الماضي ومجبرون على اغفال ما شهده العالم من تغيرات، خصوصاً وجه اسرائيل البشع اليوم؟ وكان ديبلوماسيون بريطانيون متقاعدون اخبروني أن المانيا تتباطأ في الرد كلما حاول الاتحاد الأوروبي وضع سياسة موحدة تجاه الشرق الأوسط، مبدية القلق من موقف اسرائيل. أي ان ألمانيا تركز على مصالح ستة ملايين اسرائيلي لا مصالح نحو 240 مليون عربي. التعاون العسكري بين ألمانيا واسرائيل، الذي قلّما يبرز الى العلن، يعود الى أربعين سنة. وكان المستشار كونراد أديناور ورئيس وزراء اسرائيل ديفيد بن غوريون التقيا في نيويورك في 1960 لوضع اسس التعاون العسكري بين البلدين. وشمل التعاون حيز الاستخبارات، كما تلقى عدد من صغار الضباط الألمان التدريب مع لواء مشاة "غيفاتي" المعروف بقسوته. في 1999 تسلمت اسرائيل من ألمانيا غواصتين من طراز "دولفين"، وتسلمت للتو الغواصة الثالثة والأخيرة في الصفقة. وأكملت هذه الغواصة مرحلة الاختبار البحري وسيتم نشرها قريباً. وجاء في مجلة "جينز ديفنس ويكلي" أوائل الشهر أن هذه الغواصات "ستقوم بعمليات الاعتراض والاستطلاع وأيضا العمليات الخاصة". وقالت تقارير ان ألمانيا ساهمت في كلفة تصميم وبناء السفن. أي أن العملية جزء، مهما جاء متأخراً بعقود، من التعويضات على جرائم النازيين. الغواصات الثلاث أكثر تطوراً من الغواصات المصرية، وستوفر لاسرائيل تفوقا خلال فترة طويلة. وهي مسلحة بصواريخ "هاربون"، وقال مراقبون ان اسرائيل تحاول وضع رؤوس نووية عليها. واذا كانت اسرائيل تريد تكذيب التقارير حالياً، فليس هناك ما يمنع من تحقق ذلك في المستقبل، لأن اسرائيل، كما يعتقد، تملك بالفعل ما بين 200 الى 300 رأس نووي. من بين الأركان الأساسية لسياسة اسرائيل العسكرية "الشراكة الاستراتيجية" مع تركيا. ورأى بعض الوزراء في حكومة بنيامين نتانياهو وقتها أن الشراكة تعادل في أهميتها معاهدة السلام مع مصر. وتبادل سلاحاً الجو الاسرائيلي والتركي التدريب في كل من البلدين، بما في ذلك التدريب في اجواء الحدود التركية السورية. كما قام الطرفان بمناورات بحرية مشتركة، ذريعتها التدرب على أعمال الانقاذ. ومن الممكن طبعاً ان تبقي اسرائيل واحدة أو أكثر من الغواصات الثلاث في ميناء تركي وليس في حيفا، لحمايتها من هجوم مفاجىء. وسيكون هذا تطوراً رئيسياً على الصعيد العسكري بالنسبة الى البلدين. هناك وجه آخر جديربالاهتمام ل"الشراكة": في آب أغسطس السنة الماضية كان هناك قدر من التقارب بين أنقرة وأثينا بعد الهزات الأرضية الكبرى في البلدين، لكنه لم يكف لازالة التوتر بين الدولتين الحليفتين في "ناتو"، ومن مصادره الرئيسية استمرار احتلال تركيا الغير شرعي لشمال قبرص. وانسحبت اليونان من مناورات حلف الأطلسي الأخيرة، فيما قامت مقاتلات الطرفين بطلعات تحرشية متبادلة في سماء قبرص. وعززت اليونان وقبرص اتفاق الدفاع المشترك بينهما. ولا يستبعد مستقبلاً ان تتطلعا الى مساعدة من الدول العربية لمواجهة ما تعتبران انه تهديد من جيش تركيا المدعوم بعقود دفاعية مع اسرائيل. غواصات اسرائيل الجديدة الثلاث تشكل بالتأكيد تصعيداً في سباق التسلح الذي تشهده المنطقة، خصوصاً ان البحرية الاسرائيلية ترغب في الحصول على المزيد من الغواصات.والواضح ان قسطاً كبيراً من المسؤولية عن السباق يقع على الولاياتالمتحدة، وليس فقط لدعمها غير المحدود لآلة الحرب الاسرائيلية بل أيضاً التشجيع على "الشراكية الاستراتيجية" مع تركيا. ان من شأن الروابط العسكرية بين تركيا واسرائيل تقوية شكوك العرب في نيات اسرائيل وزيادة صعوبة تجنب صراع رئيسي بين الطرفين. لنأمل أن انتفاضة القدس ستشجع المانيا على اعادة النظر في علاقتها مع اسرائيل في شكل يماشي أكثر حقيقة الأوضاع. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو