عندما وصل بطل اللواء زكي الأرسوزي الى دمشق ربيع 1938 هو وأنصاره ومريدوه وتلاميذه تجمَّع حولهم نخبة من الشباب المثقف رأوا في الأرسوزي وفيهم النموذج الأمثل للعربي الجديد، عربي المستقبل. أوَلم يقدم الأرسوزي وجماعته كل منهم ذاته وما يملك للحفاظ على عروبة اللواء. كانت ثمة أربعة معاني كبيرة على كل الألسن بين الحربين: النهضة، اليقظة، الاحياء والبعث، ويؤثر الأرسوزي معنى البعث على غيره لما يشير اليه من تراث عالمي يمكن أن يُبعث فيصير مستقبلاً. وكان الأرسوزي أول مَن تحدث عن انشاء حزب بعث ينهض بالعروبة العتيدة. لم تكن السلطة المنتدبة ولا جماعة الكتلة الوطنية الذين كانوا قد بدأوا يفرضون عام 1938 كل منهم على ساحة العمل السياسي في سورية ولحد ما في الأقطار المجاورة. ويشن عليهم الأرسوزي حرباً لا هوادة فيها أداتها الاضرابات والمظاهرات، ولم يكن لمصلحة أي طرف من الأطراف السياسية معاداة تركيا في تلك المرحلة ولا بعدها فعزلوا الأرسوزي واضطهدوه وشرَّدوا جماعته. ولم يكن من مصلحة الدولة المنتدبة بعد أن بدأت الحرب العالمية الثانية ظهور سلطة سياسية مستقلة منها، وأفهموا الأرسوزي ذلك باتصال مباشر وبالبنط العريض، فلم يبق أمامه بعد عام 1943 وانتقال السلطة السياسية في سورية وغيرها من الفرنسيين الى البريطانيين، سوى نشر أفكاره، أولاً في كتابه الأساسي العبقرية العربية في لسانها ويُتبعه برسائل البعث: للأمة رسالة، للفلسفة العربية أخرى وثالثة للحضارة، ورسائل وكتب أخرى حاول فيها ان يحيط ضمن حدود توثيقه بمشكلات العالم العربي التي عاشها في لبنان وسورية والعراق. 1943 - 1947 حزب البعث العربي. 1949 الحزب العربي الاشتراكي وحركات سياسية ومنظمات اجتماعية كثيرة تنادي بالوحدة العربية. بشتاء 1953 وحدة الحزبيين في واحد هو الحزب العربي الاشتراكي وانتشار الأفكار الوحدوية بشكل أو بآخر في منطقة الهلال الخصيب ومنها الى مصر والأقطار العربية الأخرى. كانت قد بدأت في الوقت ذاته تحركات شعبية أشرت اليها في حينه من أجل استقلال الفلاح عن الاقطاعي واشراك الشعب في القرار السياسي. فثمة اعتقاد عند جيل الأربعينات والخمسينات من الشباب المتقن وبكثير من الاخلاص وقصر النظر بأن الوحدة العربية الشاملة آتية حتماً وفي المستقبل المنظور في حين ان معاني الوحدة والشعب والتحرر والثورة وغيرها من معاني وجودنا الكبير حتى اليوم كانت تفرَّغ من محتواها لأسباب كثيرة ذكرت أهمها. 1 - صيرورة الشعب جمهوراً. 2 - الثورة التي صارت انقلاباً والانقلاب قطري بطبيعته وارادة زعيمه فوق كل ارادة. 3 - المواطن الذي صار رعية ولم يصر مواطناً. 4 - نكسات الوحدة القومية الكثيرة: فك وحدة مصر سورية ايلول سبتمبر 1961 وتلحق بها نكبة حرب الأيام الستة عام 1967 وأخيراً لا آخراً حرب الخليج الثانية. ها هو كل قطر ينطوي على ذاته، يُحكِم اغلاق حدوده، يدافع بضراوة عن مصالحه ويزاود على الأقطار العربية الأخرى نظرياً بالعمل من أجل الوحدة والنضال في سبيلها، ويصير تدريجاً لكل قطر تاريخ يترسََّخ فهو الأكثر استقصاءً على التجاوز. الأبلغ دلالة من كل ما تقدم هو انه عندما تسلَّم حزب البعث العربي الاشتراكي اياه زمام السلطة في العراق وسورية 1963 انقسم الى شطرين متصارعين على البقاء: الواحد سوري والآخر عراقي. مما يدل على ان الشعوب العربية لم تكن قد أدركت بعد مستوىً من فهم موقعها من دول البحر الأبيض المتوسط ودوره في بناء حضارة المستقبل، حيث تعمل من أجل توحيد صفوفنا. وبكلمة فإن حكم الفرد داء أكثر فتكاً بالشعوب من داء فقدان المناعة المتكسبة. يمكن للرأي الآخر ان يعيد الى الكلمات الفارغة مضمونها عندما انتقل زكي الأرسوزي عام 1968 الى الرفيق الأعلى ولحق به عبدالناصر بعد سنتين 1970 كانا قد صارا من الماضي الذي يتباعد. لا بل أن كتيب ستالين الشهير - وقد أشرت عليه - نُشِر عام 1930 أي في اطار الثورة الصناعية الأولى ورأسماليتها البورجوازية، وكان كل من ماركس وانجلز واليتين وغيرهم قد ناضلوا من أجل اشعال ثورة عالمية تنقل السلطة الى البروليتاريا... وكانت من جهتها الرأسمالية قد تجاوزت أزمة 1929 الخانقة التي وضعتها على شفا الهاوية وأخذت تجدِّد ذاتها لتعاود السير نحو مستقبل غير متوقع. 1950 السيبرنيتيكا ومن ثم الحاسوب والذاكرة الالكترونية بانتظار المعلوماتية، تلك كانت الثورة الصناعية الثانية الالكترونية. 1970 بدايات انتقال الثورة هذه الى العالم العربي والعالم الثالث أواخر القرن 20 وبداية القرن 21 شعور عميق يتملكنا، ونحن على ما نحن عليه من تمزق داخلي انه صار بين التخلف والتقدم هوة تجاوزها يكاد يحاذي أحياناً حدود الممتنع. وتعود اسطورة حرق المراحل، الا ان الاعرابي الذي يرتدي بنطلوناً وفي جيبه هاتف محمول، وضعيف الثقافة الذي يتمرد على المعلوماتية والمحامي الذي يملأ فراغاته بسماع موسيقى الجاز تأتيه من انترنت أو يقرأ صحيفته اليومية وصحف أخرى على فسحة انترنت... هؤلاء حالهم كلهم كحال سائق العربة الليلية تنقل ركابه، مثلاً من دمشق الى حمص، عندما صار سوّاقاً لسيارة أجرة تجتاز المسافة ذاتها، يعرِّض ذاته وسيارته الى خطر الانزلاق مع أول منعطف سريع لعدم توافر شروط حركة السيارة: طرق معبَّدة عريضة نسبياً وجسور ومعابر فوق مجرى السيول واشارات مرور تدل السائق على مواطن الخطر. مرة أخرى أقول: الشكل لا يستدعي ضرورة المضمون. ويبدو واضحاً منذ الآن ان حضارة ما بعد الحداثة المعلوماتية وانترنت حيث الانسان يتاجر ويفكر على مستويين متلازمين وأيضاً الفسحات السياسية - الاقتصادية كل منها بسعة قارة والإعلام المصمَّم ونموذجه CNN تلتهم الرأي العام وتبدله من دون أن ندري بين عشية وضحاها، وكذلك المهندس رفيع الاختصاص والباحث العلمي كلاهما يطور العالم بسرعة، فالبروليتاري يرتد دوره في الانتاج والتطوير الى المرتبة الثانية والثالث... هذه كلها تخترق من الداخل مفاهيم الحضارة السابقة ومعالمها وقيمها وتجعلها على غير ما هي عليه، فالأمة بذاتها منذ الآن سؤال عن موقعها من العالم ودورها فيه، وكذلك مفاهيم الحزب والثورة والشعب والمواطن... عرضة للتبدل المستمر. شيء واحد لن يتبدل أبداً: كون الحرية هي جوهر الانسان والرأي الآخر سبيله الى التحرر. لقب قيل ورُدِّد القول بأشكال متعددة ان الطريق الى الديموقراطية بعد 37 سنة من حكم الحزب الواحد ووسائله الملتوية، صارت شبه ممتنعة اليوم ولا شعار لا أدري متى سيأتي، لا شك في ذلك يا سيدي، ما أطلبه ليس الديموقراطية بل شيء آخر ممكن جداً. إذا لم أكن في موقع الظنين فعلامَ تخاطبني من علٍ وعينك تغمز الى المسدس على جنبك. أنا انسان مثلك، لا أشكل أي خطر على أمن الدولة طالما اني لا أملك سلاحاً ولا أية وسيلة اعلامية حتى ولا زاوية في صحيفة من صحفنا المحلية. أطلب منك ألاَّ تحاول اقناعي بالقوة ان الفساد يبدأ في الدوائر العليا وينتقل منها الى الأدنى، فأنت قلت ذلك. عندما يبدأ التخاطب بيننا تخاطب الند للند يمكن أن نأمل الوصول يوماً الى شيء من الديموقراطية، لقد قال الرئيس بشار الأسد في بيانه التاريخي امام مجلس الشعب وبعد القسم: "فإلى أي مدى نحن ديموقراطيون؟ وما هي الدلائل على وجود الديموقراطية أو عدمها؟ هل هي في الانتخاب أم في حرية النشر أم في حرية الكلام أم في غيرها من الحريات والحقوق؟ أقول ولا واحدة من كل ذلك. فهذه الحقوق وغيرها ليست ديموقراطية. بل هي ممارسات ديموقراطية ونتائج لها وهي تُبنى جميعها على فكر ديموقراطي، وهذا الفكر يستند الى أساس قبول الرأي الآخر، وهو طريق ذو اتجاهين حتماً وبشكل أكيد، أي ما يحق لي يحق للآخرين. وعندما يتحوَّل الطريق باتجاه واحد يتحوَّل الى أنانية وفردية. أي لا نقول يحق لنا كذا أو كذا. يجب ان نقول يحق للآخرين حقوق معينة، فإذا كان هذا الحق يجوز للآخرين من وجهة نظرنا أصبح لنا الحق نفسه، فإذاً الديموقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا" أيوجد أبلغ وأعمق من هذا الكلام؟ فاسمح لي يا سيدي الرئيس أن أضيف فكرة واحدة مستمدة من كلامك: في الديموقراطية فائض عن ممارساتها. هو الانسان الحر يقف في وجه العدو اسرائيلياً كان أم أميركياً، ويوماً ينتصر عليه. وحده يبني الحضارات، فإذا غابت الحرية فالتخلف الى الأبد. * كاتب سوري.