تبدأ النهضة، عادة، بصدمة الوعي التي تنتج عندما تواجه "الأنا" حضور "الآخر" الذي يستفزّها تقدمه، أو يعصف بها غزوه. هذه الصدمة قرينة رغبة المعرفة التي تنفجر في داخل "الأنا" مجاوزة كل النواهي التي تدعوها إلى الانغلاق على نفسها والاكتفاء بذاتها. وإما أن تستقيظ هذه الأنا من سباتها، وتفارق خمولها، أو تتمرد على ما اعتادت عليه، ومن ثم تضع نفسها موضع المساءلة في مواجهة التقدم المؤرِّق لهذا "الآخر". أعني التقدم الذي يتحول - في دلالة من دلالاته - إلى مرآة يجتلى فيها الوعي الذاتي للأنا سلبيات حضوره الذي يبدو متخلفاً في موازاة حضور الآخر المتقدم، الأمر الذي يدفع الوعي الذاتي للأنا إلى المراجعة التي تقيس حضور "الأنا" على حضور "الآخر" الذي يتحول - في أكثر من حال من أحوال التاريخ - إلى إطار مرجعي للتقدم. وبقدر ما تكتسب أبعاد تقدم هذا "الآخر" دلالة الوعد الذي ينتقل بواقع "الأنا" إلى إمكان التقدم، وذلك في عملية المساءلة الذاتية التي لا تخلو من توتر الصدمة، تغدو أبعاد تقدم الآخر انجازاً لا بد من نقله والصنع على منواله. والترجمة هي الخطوة الأولى في النقل، وأداته الفاعلة في تحقيق رغبة النهضة والمضيّ في طريقها الصاعد، وذلك بما يدني بهذه "الأنا" من ذلك "الآخر" المتقدم، أو يضعها في موازاته على طريق التقدم نفسه، ومن ثم يخايلها بإمكان منافسته أو حتى التفوق عليه. وعندئذ، تغدو الترجمة نقلاً لأسرار التقدم التي يحتكرها الآخر، ووسيلة لاكتساب معارفه وعلومه التي يتحقق بها هذا التقدم. وتغدو الترجمة، كذلك، جسراً يعبر هوة الزمان والمكان واللغة، ويفتح أفقاً جديداً من التواصل والاتصال، ويحفز على الإنجاز الموازي، وعلى مواصلة السعي من حيث انتهى "الآخر" السابق في طريق التقدم. والهدف هو تحقيق التميز أو تأكيد الهوية الذاتية في مدى الإضافة التي تنطوى على معنى الخصوصية. وتاريخنا الثقافي خير دليل على ذلك، فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذرى نهضتها التي أفادت منها الإنسانية كلها بواسطة حركة ناشطة في الترجمة، حتى من قبل أن ينشئ الخليفة المأمون "مدرسة الحكمة" في بغداد العباسيين. ونعرف من المصادر القديمة أن حركة الترجمة العربية الأولى بدأت في العصر الأموي، موازية لاتساع مدى الفتوح الإسلامية التي أسهمت على نحو غير مباشر في الانفتاح بالحضارة العربية على ميراث العالم القديم حولها، خصوصاً بعد أن شعر العرب أنهم ورثوا الحضارات السابقة عليهم، وأنّ عليهم الإفادة منها، والبدء من حيث انتهت إليه. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يدعو الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية - حكيم آل مروان - إلى ترجمة كتب الطب والنجوم والكيمياء وغيرها من العلوم العملية التي كان لها الأولوية في حركة الترجمة القديمة، وذلك لاتصالها بالمشكلات التي فرضها تطور الحضارة العربية الصاعدة، وأكّدها اتساع رقعتها الجغرافية وتعقد أوضاعها البشرية. وليس من الضروري أن نصدّق الروايات الشعبية التي تحدثت عن غرام الأمير خالد بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، أو الحلم بتحويل النحاس إلى ذهب، بوصفهما دافعا دفع الأمير إلى استجلاب المترجمين العارفين باليونانية لترجمة كتب الكيمياء القديمة والكشف عن أسرارها، فالأقرب إلى المنطق التاريخي أن مسعى الأمير كان علامة بارزة في مسعى أعم، يتصل بحاجات الحضارة العربية الصاعدة إلى معرفة ميراث العالم في علوم الفلك التي ترتبط بالامتداد في المكان، وعلوم الطب التي ترتبط بالحفاظ على المسلم الجديد الذي أصبح متعدد الأعراق والأجناس. وأتصور أن الإقبال على علوم الكيمياء وما شابهها من العلوم كان بعض الحاجات العملية التي انطوت عليها مدن إسلامية متزايدة، مدن أخذت تعرف الصناعات والحرف والفنون المدينية متعددة الأنواع والأغراض. ولذلك لم تكن دعوة الأمير خالد بن يزيد إلى الترجمة عن اليونانية منفصلة عن المحاولات السابقة والموازية في الترجمة عن الفارسية التي كانت لغة "الدواوين". ويخبرنا المؤرخون أن "الدواوين" نقلت إلى العربية أيام الخليفة عبد الملك بن مروان في سورية، وأيام واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. ولم تكن دعوة الأمير خالد منفصلة بالقدر نفسه، سواء في مغزاها أو سياقها الوظيفي، عن عملية نقل "الدواوين" من القبطية إلى العربية في عهد عبدالعزيز بن عبدالملك والي مصر. ولا تنفصل دلالة هذا النوع من الترجمة عن الجوانب النفعية المباشرة، أو الجوانب العملية المادية التي سبقت الجوانب الفكرية، وفرضت نفسها على عملية النقل التي بدأت بالمعارف العملية والمادية أولاً، ثم انتقلت منها إلى المعارف الفكرية والفلسفية، وذلك في منحى وثيق الصلة بترجمة الآداب القصصية بالدرجة الأولى، لكن بعيداً عن ترجمة الشعر الذي ظل العرب على اقتناع بعدم حاجتهم إلى ترجمته، خصوصاً بعد أن آمنوا أنهم سبقوا غيرهم من الأمم في مجاله الإبداعي. وكان من الطبيعي أن تصل حركة الترجمة العربية القديمة إلى ذروتها في العصر العباسي، خصوصاً بعد أن انتهت مرحلة الفتوح الإسلامية، واستقرت الدولة العربية الإسلامية التي جمعت - في اتساعها الجغرافي المذهل - بين العديد من الأجناس المختلفة والمعتقدات المتباينة والأصول الحضارية المتباعدة، وأصبحت هذه الدولة في حاجة إلى معرفة كل ما لدى الآخرين لتستكمل المسيرة الإنسانية التي أصبحت وريثة لحضاراتها، والتي أخذت على عاتقها مهمة الإضافة إليها، واعية أن عليها البدء من حيث انتهى السابقون لتضيف إليه من منطلق أهدافها الخاصة ومطامحها المائزة. ولذلك، أخذنا نقرأ لفلاسفة العرب ما كتبوه عن "تتميم النوع الإنساني" الذي هو الغاية التي يسعى إليها عقلاء البشر، وأن هذه الغاية تشترك في تحقيقها الأمم جميعها، وتتداولها واحدة إثر أخرى. وأخذ أمثال جابر بن حيان وأبي زكريا الرازى يتحدثون عن المسعى الإنساني المتصل لتحقيق هذا "التتميم" الذي يضيف فيه اللاحق إلى السابق ما يجعل حركة التاريخ صاعدة دائماً ومتطورة أبداً. وقد كانت أمثال هذه العبارات والتصورات بمثابة تبرير عقلاني لاتساع حركة الترجمة القديمة التي لم تترك شيئاً من ميراث الحضارات التي سبقت الحضارة العربية في التقدم إلا وترجمته، لا على سبيل الاكتفاء بما تحقق، وإنما على سبيل الإضافة التي يكتمل بها معنى "تتميم النوع الإنساني" الذي أفصح عنه الكندي الفيلسوف في رسالته إلى المعتصم بالله عن "الفلسفة الأولى". وكان ذلك حين أكّد الفيلسوف العربي الأول للخليفة الذي توجّه إليه بالخطاب أن غيرنا من السابقين أنسباء وشركاء لنا في ما نفيده من ثمار فكرهم، وأن هذه الثمار سبل وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصّروا عن نيل حقيقته. ويضيف الكندي إلى ذلك قوله إنه لا ينبغي لأحد أن يستحي من اقتناء الحق مهما كان موطنه أو لغته أو جنسه، فالحق أحق أن يتبّع، وأن يضاف إليه ما لم يقل فيه السابقون. وقد أسهمت عبارات الكندي وتبريرات أمثاله في تأسيس نوع من التقاليد الخلاّقة التي ظلّت متوهجة بتوهج دوافع معرفة "الآخر" والانفتاح عليه، طوال عصور ازدهار الحضارة العربية التي وجدت في "الترجمة" البداية الأولى للإضافة النوعية في عملية "تتميم النوع الإنساني". ومن هذا المنظور، كان تشجيع الخلفاء والوزراء في العصر العباسي على الترجمة، وكان شغف الخليفة أبي جعفر المنصور بكتب الطب والهندسة والفلك والنجوم، وكانت مراسلاته إلى ملك الروم لطلب كتب الحكمة، وكان ما جمعه حوله من المترجمين الذين نعرف منهم طبيبه الخاص جورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع، بل كان تشجيعه على الترجمة عن اللغة الهندية القديمة السانسكريتية؟ في الرياضيات وعلوم الفلك. وقس على ذلك ما يروى عن هارون الرشيد من أنه تولى توسيع ديوان الترجمة الذي أنشأه سلفه أبو جعفر المنصور، وأنه عهد بمهمة ترجمة المخطوطات اليونانية القديمة التي وجدها في عمورية وأنقرة وغيرهما من المدن التي غزاها إلى يوحنا بن ماسويه ليشرف على ترجمتها. ويتصاعد إيقاع دوافع الترجمة في عهد المأمون الذي راسل ملوك الروم، وطلب منهم إرسال ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه - فيما يقول صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم" - بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو طاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلّفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حضّ الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلمها، فقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لما كانوا يرون من عطاياه. وما أكثر ما يروى عن تشجيع الخليفة المأمون لحركة الترجمة، وإيمانه بها. يكفي الإشارة إلى أن أحد شروط الصلح بينه والإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث كانت تنازل الأول عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية، وأن إعجابه بالمترجم حنين بن إسحق كان يدفعه - أي المأمون - أن يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى اللسان العربي، الأمر الذي دفع المترجم الماكر إلى تكثير وزن ترجماته بحيل طريفة ذكرها ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". وقد استمرت حركة الترجمة العربية مزدهرة، لم تتوقف في الأندلس، بل ظلت مستمرة، لم تتراجع إلا عندما توقف الدافع الخلاّق إلى "تتميم النوع الإنساني" عن الحضور والتأثير، فتغلبت عوامل الاتّباع والتقليد على دوافع الابتداع والاجتهاد، ونزعت "الأنا" القومية إلى الانغلاق على نفسها، والانكفاء على أوهامها، ففقدت رغبة المبادرة والإضافة، ومن ثم قدرة الإبداع الذاتي، فغربت شمس الحضارة العربية الإسلامية، ودخلت دورات الهزيمة والانحدار التي لم تنج منها إلا بما نفض هذه "الأنا" من جديد، ودفعها إلى معاناة الصدمة المعرفية التي أسقطت عنها الكثير من قيودها الفكرية الجامدة وتقاليدها الاتباعية البالية، وزودها بالدافع الخلاّق الذي بعث فيها رغبة النهضة فتية، عفية، فنهضت حركة الترجمة الحديثة التي جمعت ما بين رغبة التعرف وحلم الإضافة في آن.