محافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية يرفع التهنئة للقيادة    "الرياض" ضيف شرف معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    وزير التعليم يرفع التهنئة للقيادة بما تحقق من منجزات تعليمية    وزارة التعليم تستعرض منصاتها في معرض تونس الدولي للكتاب 2025    بيان مشترك لوزير المالية ومدير عام صندوق النقد الدولي ورئيس مجموعة البنك الدولي بشأن سوريا    أبها تتغطى بغطاءها البنفسجي    مواقع أجنبية: الهلال يبعث برسالة تهديد لرونالدو    وزير الصحة: تطبيق نموذج الرعاية الصحية الحديث أسهم في رفع متوسط عمر الإنسان في المملكة إلى 78.8 عامًا    تركي بن محمد بن فهد يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة ما تحقق من إنجازات في مسيرة رؤية المملكة 2030 بعامها التاسع    ريال مدريد ينتقد اختيار الحكم الذي سيدير نهائي كأس إسبانيا    للمرة الثالثة على التوالي ..الخليج بطلاً لممتاز كبار اليد    بيراميدز يحقق ما عجز عنه الأهلي    زيلينسكي: أوكرانيا تريد ضمانات أمنية أمريكية كتلك التي تمنحها لإسرائيل    وزير "البيئة" يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة صدور التقرير السنوي لرؤية المملكة وما تضمنه من إنجازات    مجلس الأعمال السعودي - الأمريكي يستضيف فعالية تواصل استثمارية رفيعة المستوى    الرئيس التونسي يزور جناح جامعة نايف بمعرض تونس للكتاب ويشيد بجهودها في تعزيز الأمن العربي    «أماني» تحصد الدكتوراه برسالة متميزة    القبض على باكستانيين في المنطقة الشرقية لترويجهما «الشبو»    محمد العرفج يُفجع بوفاة والدته    الاتحاد السعودي للطيران الشراعي يُقيم معسكرًا لفئة النخبة    نائب أمير تبوك: رؤية المملكة 2030 حققت قفزات نوعية وإنجازات    موعد مباراة الهلال في نصف نهائي دوري أبطال آسيا للنخبة    أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة من منجزات في الأعوام التسعة الماضية    عام 2024 يُسرع خُطى الرؤية السعودية ويسجّل إنجازات استثنائية    بلدية محافظة ضرية تطرح 8 فرص استثمارية    ثانوية الأمير عبدالمحسن تحصد جائزة حمدان بن راشد    قطاع بارق الصحي يُنفّذ مبادرة "صحة الفم والأسنان"    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُقيم فعالية "متلازمة داون"    مستشفى أحد رفيدة يُنفّذ "اليوم العالمي للتوحد"    "عبيّة".. مركبة تحمل المجد والإسعاف في آنٍ واحد    مدرب الأهلي: جماهيرنا سندنا لتخطي بوريرام التايلندي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف يلتقي مديري عموم الفروع    غدًا.. انطلاق أكبر فعالية مشي في المملكة «امش 30»    في الدمام ( حرفتنا حياة ) ضمن مبادرات عام الحرف اليدوية 2025    "حديث المكتبة" يستضيف مصطفى الفقي في أمسية فكرية عن مكتبة الإسكندرية    إمام المسجد الحرام: الإيمان والعبادة أساسا عمارة الأرض والتقدم الحقيقي للأمم    إمام الحرم النبوي: حفظ الحقوق واجب شرعي والإفلاس الحقيقي هو التعدي على الخلق وظلمهم    تنفيذ ورشة عمل لاستعراض الخطط التنفيذية للإدارات في جازان    بيولي: هدفنا الآسيوية وجاهزون ليوكوهاما    هيئة تطوير وتعمير المناطق الجبلية بجازان تستعرض مشروع زراعة أشجار الصندل في "أسبوع البيئة 2025"    مبادرة لرعاية المواهب السعودية في قطاع الجمال    الشيخ صلاح البدير يؤم المصلين في جامع السلطان محمد تكروفان الأعظم بالمالديف    مخاطر في الذكاء الاصطناعي    مملكة الخير والإنسانية    تقلص الجليد القطبي    خشونة الورك: الأسباب.. التشخيص.. العلاج.. الوقاية    اللواء الودعاني يدشّن مشاريع تطويرية لتعزيز قدرات حرس الحدود    رئيس نادي الثقافة والفنون بصبيا يكرّم رئيس بلدية المحافظة لتعاونه المثمر    محافظ صبيا يشيد بجهود رئيس مركز العالية ويكرمه بمناسبة انتهاء فترة عمله    محافظ صبيا يكرم رئيس مركز قوز الجعافرة بمناسبة انتهاء فترة عمله    بلدية صبيا تدعو للمشاركة في مسيرة المشي ضمن مبادرة #امش_30    ذكاء اصطناعي للكشف عن حسابات الأطفال في Instagram    بناءً على توجيهات ولي العهد..دعم توسعات جامعة الفيصل المستقبلية لتكون ضمن المشاريع الوطنية في الرياض    أكدا على أهمية العمل البرلماني المشترك .. رئيس «الشورى»ونائبه يبحثان تعزيز العلاقات مع قطر وألمانيا    لبنان.. الانتخابات البلدية في الجنوب والنبطية 24 مايو    ملك الأردن يصل جدة    10 شهداء حرقًا ووفاة 40 % من مرضى الكلى.. والأونروا تحذّر.. الاحتلال يتوسع في جرائم إبادة غزة بالنار والمرض والجوع        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحثة غربية تدرس منهجيات الترجمة عند العرب : اسقاطات معاصرة لحركة الترجمة في العصر العباسي
نشر في الحياة يوم 22 - 09 - 1998


الكتاب: الترجمة في العصر العباسي
مدرسة حنين بن إسحق وأهميتها في الترجمة
المؤلفة: مريم سلامة - كار
المترجم: نجيب غزاوي
الناشر: وزارة الثقافة في سورية
دمشق: 1998 - 104 صفحات
تعتبر دراسة منهجيات ترجمة النصوص اليونانية الى العربية ذات أهمية خاصة، تاريخية وفلسفية ولسانية، وتزداد أهميتها نتيجة تعارض اللغتين اليونانية والعربية بطبيعتهما ودرجة تطورهما. فالعربية لغة سامية بينما اليونانية هندو أوروبية وتختلف صيغ التعبير بينهما حتى يستحيل أحياناً المطابقة بين مفردات اللغتين.
من هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته إذ يلقي الضوء على منهجيات وضعها مترجمو النصوص اليونانية الى العربية في مرحلة تاريخية شهدت تطوراً فكرياً ومادياً جعل من مقر السلطة المركزية في بغداد محوراً تتلاقى حوله الثقافات المختلفة في العصر العباسي وتتمازج ، وذلك بفضل حركة مهمة للترجمة احتلت فيها مدرسة حنين بن اسحق مكاناً متميزاً.
وقد ساعد في توفير ذلك استيعاب هذه المدرسة للثقافة اليونانية، اضافة لثقافة ابن اسحق الواسعة في أكثر من مجال. فهو طبيب ولساني ومترجم. ركزت مؤلفة الكتاب سلامة كار دراستها حول ابن اسحق لكونه أهم من وضع منهجية تسمح بنقل الفكر اليوناني الى اللغة العربية.
ولا تبغي الباحثة تقديم معلومات جديدة عن مدرسة ابن اسحق وإنتاجها، بقدر ما تطمح لوضع نشاط المدرسة في اطار الترجمة المعاصرة، وتبين الى أي درجة تبقى المسائل التي أثارها المترجمون العرب عهد ذاك عصرية، وانطلاقاً من هذه الرؤية تضع الباحثة مدرسة ابن اسحق في سياقها التاريخي والحضاري، إذ شهدت بغداد، منذ أسسها أبي جعفر المنصور عام 762، نشاطاً علمياً وفكرياً متميزاً، وظهر الجيل الأول من مترجمي العصر العباسي تحت حكم المنصور والرشيد لينتهي مع بداية حكم المأمون 813-833، ثم يبدأ الجيل الثاني الذي ينتمي له ابن اسحق، ويمتد حتى عام 912، ثم يأتي الجيل الثالث من مترجمي العصر العباسي ويستمر حتى القرن العاشر.
تقول الباحثة في تعريف القارىء بشخصية ابن اسحق: "ولد أبو زيد حنين بن اسحق العبادي المعروف بإسم جوهانيتيوس أومان أو هومينوس في أوروبا العصر الوسيط في الحيرة بالعراق عام 809، في القبيلة العربية المسيحية "عباد" وكان أبوه عطاراً، ما أتاح له الاهتمام بالعقاقير والطب وبخاصة طب العيون، ودرس هذه العلوم لدى يوحنا بن ماسويه، ثم انتقل حنين الى بلاد بيزنطة ليتعلم اليونانية، ومنها الى البصرة في العراق حيث أكمل معرفته باللغة العربية، وبدأ الترجمة في سن مبكرة نسبياً إذ دعاه المأمون وطلب اليه ترجمة ما يستطيع من كتب حكماء اليونان الى اللغة العربية". ويذكر ابن اسحق نفسه في رسالة الى علي بن يحيى أنه ترجم كتاباً لفاليان "حول القوى الطبيعية" من الإغريقية الى السريانية وهو في عمر السابعة عشرة، كما كلفه الأخوة شاكير رعاة علماء أغنياء بترجمة مؤلفات علمية من اليونانية الى العربية. وكان حنين يمارس الطب الى جانب الترجمة، وقد أصبح الطبيب المعتمد للخليفة المتوكل، ورفع في عهده الى مرتبة مسؤول عن أعمال الترجمة في بيت الحكمة، وأشرف على أعمال المترجمين مثل: موسى بن خالد ويحيى بن هارون. ولم يكتف حنين بما جمعه بيت الحكمة من مخطوطات بل سافر الى سورية والإسكندرية وبيزنطة بحثاً عن مخطوطات للترجمة. وكان ابن اسحق يترأس جماعة مترجمين في بغداد، تطلق الباحثة كار عليهم اسم "مدرسة"، وتوضح أن المقصود بهذا المصطلح هو مركز انتاج، أكثر منه مدرسة حقيقية ذات هدف تعليمي، وان كانت المدرسة قد قامت بدور تأهيلي عملي في الترجمة. فاكتسب المترجمون فيها تقانة الترجمة، دون اعتماد نظرية معمقة حولها.
ومن الناحية التنظيمية شكل بيت الحكمة كياناً مادياً وتنظيمياً للعمل يسمح بتوزيع أعمال الترجمة بين المختصين، سواء في حقل الترجمة نفسها أو في مهمات موازية لترجمة الكتب القديمة مثل النسخ وتجليد المخطوطات وتصنيف الكتب. فالمترجمون توزعوا مجموعات وفقاً لاختصاصاتهم ومجال الترجمة لكل منهم، ووضع على رأس كل مجموعة مراجع أو مصحح، وكان المترجمون عموماً يترجمون موضوعات مألوفة لديهم، بخاصة في الفروع العلمية كالفلك والطب، بينما كانت ترجمة الأعمال الفلسفية بحد ذاتها أقل دقة في التوزيع.
ومن جهة أخرى يلعب الترابط بين العلوم دوراً في هذا المجال. ويوضح غاليان هذه النقطة في مؤلفه "الطبيب الجيد يجب أن يكون فيلسوفاً" الذي ترجمه ابن اسحق الى السريانية والعربية ويحدد فيه غاليان تبعية الطب للفلسفة والعلاقات الدقيقة بينهما.
وكانت الترجمة تنجز غالباً على مرحلتين الأولى من اليونانية الى السريانية في حال عدم توافر ترجمة سريانية جيدة يمكن الانتقال منها الى العربية، وهو ما يحدث في المرحلة الثانية من الترجمة. وترى الباحثة أن مبرر المرحلة الأولى هو تسهيل مهمة المترجمين باعتبار أن القليل منهم يعرف اليونانية بشكل كافٍ ليترجم منها مباشرة.
وعموماً كان حنين يترجم الى السريانية ويترك لمساعديه مهمة انتاج النص العربي انطلاقاً من ترجمته السريانية، وكان حنين يراجع النسخة الأخيرة ويصحح لغتها العربية.
تعرض الباحثة منهجيات الترجمة التي اتبعها حنين ابن اسحق ومدرسته بغرض تقريب عمل هؤلاء من التحليلات النظرية للترجمة والتفسيرات المعتمدة لها الآن. وبتتبع مسار عمل مدرسة ابن اسحق تشير الباحثة الى ثلاثة مستويات هي: نص البداية الموضوع واللغة، العملية الترجمية الفهم واعادة بناء النص، ونص الوصول.
ابن اسحق كان يسعى بدقة لتحقيق صحة نص البداية قبل الشروع في الترجمة، وكان يجمع عدة مخطوطات للكتاب نفسه، ليحدد النص الصحيح، وفي حال وقوع مخطوطات أكثر موثوقية بين يديه، بعد ترجمة الكتاب، يراجع ترجمته على ضوء المخطوطات الجديدة.
عملية الترجمة تنطلق من "نص البداية"، وينبغي على المترجم أن يلمّ بالموضوع المترجم وليس فقط الضلوع باللغة. وبالنسبة لمدرسة ابن اسحق كان كل مترجم يختص بموضوع يضطلع به. فحنين أبدع بترجمة النصوص الطبية باعتباره طبيباً بينما ترجماته في الرياضيات تطلبت مراجعة مختص، كما في ترجمته "اقليدس" الذي راجعه بعده ثابت بن قره. وبشكل عام كان المترجم يتخلى عن الشكل ليركز على المضمون ويؤدي معنى النص، وان تعدى الأمر حدود الترجمة الحقيقية، ليشمل تقديم شروح أو تلخيصات فالمهم إيصال الفكرة الى قارىء العربية بشكل واضح. وأحياناً كان يلحق بالترجمة شرح أو ملخص لأعمال أخرى من نفس الاختصاص. ومهمة التلخيص تحقيق مضمون الخطاب المكتوب، وتكوين المعنى المنبثق عن المستند اللغوي والعناصر غير اللغوية مثل معرفة المترجم عن الموضوع المعالج. أما فيما يتعلق بتنقيح الترجمات السابقة، فكان حنين يفضل اعادة الترجمة كاملة كونها تتطلب تعديلات أساسية أحياناً.
تأتي المؤلفة الى المرحلة الأخيرة في الترجمة وهي انتاج "نص الوصول" بشكل واضح، من حيث التركيب اللغوي، ليفهمه المتلقي المختص وغير المختص. وباعتبار أن معظم المترجمين هم من غير العرب أصلاً وجب مراجعة النص لجهة لغة الوصول الموجهة للقارىء.
وهنا ظهرت مشكلة عدم توافر مرادفات عربية لجميع الألفاظ اليونانية أو السريانية نتيجة اختلاف بنية كل لغة عن الأخرى، فلجأ المترجمون الى استدانة ألفاظ يونانية وتعريبها صوتياً أو الى نحت ألفاظ جديدة انطلاقاً من الجذور العربية، واستخدموا الاستدانة بشكل أوسع لدى الترجمة من اليونانية الى السريانية فالعربية. وقد ترافقت الاستدانة بشرح عربي أو ملاحظة هامشية توضح اللفظ الجديد، ثم يأتي المترجمون اللاحقون وليستبدلوا اللفظ اليوناني من النسخة العربية بألفاظ عربية لدى اعادة الترجمات الأولى، فمثلاً: لفظ Namus أُخذ من اليونانية Vomos ونقل الى العربي ناموس بمعنى قانون، وتوافر له جمع مقبول صرفياً في اللغة العربية.
وهذه الظاهرة في الترجمة إدخال ألفاظ جديدة فما زالت مستمرة حتى اليوم.
وتضرب الباحثة مثلاً عن دخول ألفاظ انكلو سكسونية في اللغة الفرنسية، فلفظة Software دخلت النص الفرنسي ثم استبدلت بمقابلها الفرنسي Logiciel.
بتتبع مجالات النصوص المختارة للترجمة ندرك تطوراً ملموساً بين الاهتمامات المباشرة للخلفاء الأوائل بتعريب السجلات الإدارية والمالية والعلوم الطبيعية، وبين راعي العلماء المأمون، الذي تُرجمت في عهده غالبية أعمال أرسطو. لكن يبقى الأدب اليوناني بعيداً - نوعاً ما - عن اهتمامات مجموع حركة الترجمة، وان ظهر الأدب اليوناني بشكل شذرات في الأمثال والحكم المنسوبة الى حكماء العصور القديمة التي تضمها كتب الأدب العربي. أما الكتب الفلسفية والطبية فاحتلت مكانة خاصة في ترجمات مدرسة حنين، اضافة لعلم الفلك. وكان مصلح الفلسفة يجمع مؤلفات في البلاغة وما وراء الطبيعة. ومما ترجمه ابن اسحق ومدرسته في الفلسفة بعض مؤلفات أرسطو "في الروح، في السماء، ما وراء الطبيعة، المقولات..."، وجزءاً من كتب أفلاطون "الحوارات، القوانين، الجمهورية، فلسفة الطبيعة..."، ومن النصوص العلمية التي نقلها ابن اسحق الى العربية "عناصر اقليدس، المجسطي لبطليموس". أما قائمة المؤلفات الطبية المترجمة فهي طويلة جداً تشمل كتب ابقراط وغاليان مثل "الطبقات في الطب، ثقافة الشفاء، النبض، الدورة الدموية، العادات...".
وتقول الباحثة سلامة كار "يسمح حجم الترجمات التقنية فيزياء، فلسفة في انتاج مدرسة حنين بالمقارنة مع العلاقة التي تقوم الآن بين الترجمة التقنية والترجمة الأدبية الصرفة. وإذا كانت الترجمات الأدبية تتمتع عموماً بانتشار يفوق انتشار النصوص التقنية لأنها تتوجه، بسبب طبيعتها، الى شريحة أكثر اتساعاً من القراء، فإن الترجمات التقنية تظل متفوقة من وجهة النظر الكمية، رغم ان انتشارها وذيوعها أقل بكثير إذ يقتصر على المختصين".
تدرس كار مساهمة الترجمات على المستوى اللغوي من خلال إبداع مفردات تقنية عربية، أو إعطاء مضمون خاص لألفاظ قائمة غير مستخدمة في اطار المفردات العلمية، وعلى مستوى الحضارة العربية الإسلامية عبر دور الترجمات في بناء نظام فلسفي فكري كونته حركة فكرية شاملة نفذت بما أنتجته الترجمة. وأخيراً أسهمت النسخ العربية للمؤلفات الفلسفية والعلمية اليونانية التي ترجمت الى اللاتينية بخلق تيار فلسفي في الغرب المسيحي في العصر الوسيط. وكان لهذه الترجمات، اضافة لأهمية مضمونها، الفضل بإعادة كشف العلوم اليونانية القديمة للغرب وإطلاق أبحاث علمية وتفكير فلسفي جديد هيأ له عصر النهضة.
الكتاب: الترجمة في العصر العباسي
مدرسة حنين بن إسحق وأهميتها في الترجمة
المؤلفة: مريم سلامة - كار
المترجم: نجيب غزاوي
الناشر: وزارة الثقافة في سورية
دمشق: 1998 - 104 صفحات
تعتبر دراسة منهجيات ترجمة النصوص اليونانية الى العربية ذات أهمية خاصة، تاريخية وفلسفية ولسانية، وتزداد أهميتها نتيجة تعارض اللغتين اليونانية والعربية بطبيعتهما ودرجة تطورهما. فالعربية لغة سامية بينما اليونانية هندو أوروبية وتختلف صيغ التعبير بينهما حتى يستحيل أحياناً المطابقة بين مفردات اللغتين.
من هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته إذ يلقي الضوء على منهجيات وضعها مترجمو النصوص اليونانية الى العربية في مرحلة تاريخية شهدت تطوراً فكرياً ومادياً جعل من مقر السلطة المركزية في بغداد محوراً تتلاقى حوله الثقافات المختلفة في العصر العباسي وتتمازج ، وذلك بفضل حركة مهمة للترجمة احتلت فيها مدرسة حنين بن اسحق مكاناً متميزاً.
وقد ساعد في توفير ذلك استيعاب هذه المدرسة للثقافة اليونانية، اضافة لثقافة ابن اسحق الواسعة في أكثر من مجال. فهو طبيب ولساني ومترجم. ركزت مؤلفة الكتاب سلامة كار دراستها حول ابن اسحق لكونه أهم من وضع منهجية تسمح بنقل الفكر اليوناني الى اللغة العربية.
ولا تبغي الباحثة تقديم معلومات جديدة عن مدرسة ابن اسحق وإنتاجها، بقدر ما تطمح لوضع نشاط المدرسة في اطار الترجمة المعاصرة، وتبين الى أي درجة تبقى المسائل التي أثارها المترجمون العرب عهد ذاك عصرية، وانطلاقاً من هذه الرؤية تضع الباحثة مدرسة ابن اسحق في سياقها التاريخي والحضاري، إذ شهدت بغداد، منذ أسسها أبي جعفر المنصور عام 762، نشاطاً علمياً وفكرياً متميزاً، وظهر الجيل الأول من مترجمي العصر العباسي تحت حكم المنصور والرشيد لينتهي مع بداية حكم المأمون 813-833، ثم يبدأ الجيل الثاني الذي ينتمي له ابن اسحق، ويمتد حتى عام 912، ثم يأتي الجيل الثالث من مترجمي العصر العباسي ويستمر حتى القرن العاشر.
تقول الباحثة في تعريف القارىء بشخصية ابن اسحق: "ولد أبو زيد حنين بن اسحق العبادي المعروف بإسم جوهانيتيوس أومان أو هومينوس في أوروبا العصر الوسيط في الحيرة بالعراق عام 809، في القبيلة العربية المسيحية "عباد" وكان أبوه عطاراً، ما أتاح له الاهتمام بالعقاقير والطب وبخاصة طب العيون، ودرس هذه العلوم لدى يوحنا بن ماسويه، ثم انتقل حنين الى بلاد بيزنطة ليتعلم اليونانية، ومنها الى البصرة في العراق حيث أكمل معرفته باللغة العربية، وبدأ الترجمة في سن مبكرة نسبياً إذ دعاه المأمون وطلب اليه ترجمة ما يستطيع من كتب حكماء اليونان الى اللغة العربية". ويذكر ابن اسحق نفسه في رسالة الى علي بن يحيى أنه ترجم كتاباً لفاليان "حول القوى الطبيعية" من الإغريقية الى السريانية وهو في عمر السابعة عشرة، كما كلفه الأخوة شاكير رعاة علماء أغنياء بترجمة مؤلفات علمية من اليونانية الى العربية. وكان حنين يمارس الطب الى جانب الترجمة، وقد أصبح الطبيب المعتمد للخليفة المتوكل، ورفع في عهده الى مرتبة مسؤول عن أعمال الترجمة في بيت الحكمة، وأشرف على أعمال المترجمين مثل: موسى بن خالد ويحيى بن هارون. ولم يكتف حنين بما جمعه بيت الحكمة من مخطوطات بل سافر الى سورية والإسكندرية وبيزنطة بحثاً عن مخطوطات للترجمة. وكان ابن اسحق يترأس جماعة مترجمين في بغداد، تطلق الباحثة كار عليهم اسم "مدرسة"، وتوضح أن المقصود بهذا المصطلح هو مركز انتاج، أكثر منه مدرسة حقيقية ذات هدف تعليمي، وان كانت المدرسة قد قامت بدور تأهيلي عملي في الترجمة. فاكتسب المترجمون فيها تقانة الترجمة، دون اعتماد نظرية معمقة حولها.
ومن الناحية التنظيمية شكل بيت الحكمة كياناً مادياً وتنظيمياً للعمل يسمح بتوزيع أعمال الترجمة بين المختصين، سواء في حقل الترجمة نفسها أو في مهمات موازية لترجمة الكتب القديمة مثل النسخ وتجليد المخطوطات وتصنيف الكتب. فالمترجمون توزعوا مجموعات وفقاً لاختصاصاتهم ومجال الترجمة لكل منهم، ووضع على رأس كل مجموعة مراجع أو مصحح، وكان المترجمون عموماً يترجمون موضوعات مألوفة لديهم، بخاصة في الفروع العلمية كالفلك والطب، بينما كانت ترجمة الأعمال الفلسفية بحد ذاتها أقل دقة في التوزيع.
ومن جهة أخرى يلعب الترابط بين العلوم دوراً في هذا المجال. ويوضح غاليان هذه النقطة في مؤلفه "الطبيب الجيد يجب أن يكون فيلسوفاً" الذي ترجمه ابن اسحق الى السريانية والعربية ويحدد فيه غاليان تبعية الطب للفلسفة والعلاقات الدقيقة بينهما.
وكانت الترجمة تنجز غالباً على مرحلتين الأولى من اليونانية الى السريانية في حال عدم توافر ترجمة سريانية جيدة يمكن الانتقال منها الى العربية، وهو ما يحدث في المرحلة الثانية من الترجمة. وترى الباحثة أن مبرر المرحلة الأولى هو تسهيل مهمة المترجمين باعتبار أن القليل منهم يعرف اليونانية بشكل كافٍ ليترجم منها مباشرة.
وعموماً كان حنين يترجم الى السريانية ويترك لمساعديه مهمة انتاج النص العربي انطلاقاً من ترجمته السريانية، وكان حنين يراجع النسخة الأخيرة ويصحح لغتها العربية.
تعرض الباحثة منهجيات الترجمة التي اتبعها حنين ابن اسحق ومدرسته بغرض تقريب عمل هؤلاء من التحليلات النظرية للترجمة والتفسيرات المعتمدة لها الآن. وبتتبع مسار عمل مدرسة ابن اسحق تشير الباحثة الى ثلاثة مستويات هي: نص البداية الموضوع واللغة، العملية الترجمية الفهم واعادة بناء النص، ونص الوصول.
ابن اسحق كان يسعى بدقة لتحقيق صحة نص البداية قبل الشروع في الترجمة، وكان يجمع عدة مخطوطات للكتاب نفسه، ليحدد النص الصحيح، وفي حال وقوع مخطوطات أكثر موثوقية بين يديه، بعد ترجمة الكتاب، يراجع ترجمته على ضوء المخطوطات الجديدة.
عملية الترجمة تنطلق من "نص البداية"، وينبغي على المترجم أن يلمّ بالموضوع المترجم وليس فقط الضلوع باللغة. وبالنسبة لمدرسة ابن اسحق كان كل مترجم يختص بموضوع يضطلع به. فحنين أبدع بترجمة النصوص الطبية باعتباره طبيباً بينما ترجماته في الرياضيات تطلبت مراجعة مختص، كما في ترجمته "اقليدس" الذي راجعه بعده ثابت بن قره. وبشكل عام كان المترجم يتخلى عن الشكل ليركز على المضمون ويؤدي معنى النص، وان تعدى الأمر حدود الترجمة الحقيقية، ليشمل تقديم شروح أو تلخيصات فالمهم إيصال الفكرة الى قارىء العربية بشكل واضح. وأحياناً كان يلحق بالترجمة شرح أو ملخص لأعمال أخرى من نفس الاختصاص. ومهمة التلخيص تحقيق مضمون الخطاب المكتوب، وتكوين المعنى المنبثق عن المستند اللغوي والعناصر غير اللغوية مثل معرفة المترجم عن الموضوع المعالج. أما فيما يتعلق بتنقيح الترجمات السابقة، فكان حنين يفضل اعادة الترجمة كاملة كونها تتطلب تعديلات أساسية أحياناً.
تأتي المؤلفة الى المرحلة الأخيرة في الترجمة وهي انتاج "نص الوصول" بشكل واضح، من حيث التركيب اللغوي، ليفهمه المتلقي المختص وغير المختص. وباعتبار أن معظم المترجمين هم من غير العرب أصلاً وجب مراجعة النص لجهة لغة الوصول الموجهة للقارىء.
وهنا ظهرت مشكلة عدم توافر مرادفات عربية لجميع الألفاظ اليونانية أو السريانية نتيجة اختلاف بنية كل لغة عن الأخرى، فلجأ المترجمون الى استدانة ألفاظ يونانية وتعريبها صوتياً أو الى نحت ألفاظ جديدة انطلاقاً من الجذور العربية، واستخدموا الاستدانة بشكل أوسع لدى الترجمة من اليونانية الى السريانية فالعربية. وقد ترافقت الاستدانة بشرح عربي أو ملاحظة هامشية توضح اللفظ الجديد، ثم يأتي المترجمون اللاحقون وليستبدلوا اللفظ اليوناني من النسخة العربية بألفاظ عربية لدى اعادة الترجمات الأولى، فمثلاً: لفظ Namus أُخذ من اليونانية Vomos ونقل الى العربي ناموس بمعنى قانون، وتوافر له جمع مقبول صرفياً في اللغة العربية.
وهذه الظاهرة في الترجمة إدخال ألفاظ جديدة فما زالت مستمرة حتى اليوم.
وتضرب الباحثة مثلاً عن دخول ألفاظ انكلو سكسونية في اللغة الفرنسية، فلفظة Software دخلت النص الفرنسي ثم استبدلت بمقابلها الفرنسي Logiciel.
بتتبع مجالات النصوص المختارة للترجمة ندرك تطوراً ملموساً بين الاهتمامات المباشرة للخلفاء الأوائل بتعريب السجلات الإدارية والمالية والعلوم الطبيعية، وبين راعي العلماء المأمون، الذي تُرجمت في عهده غالبية أعمال أرسطو. لكن يبقى الأدب اليوناني بعيداً - نوعاً ما - عن اهتمامات مجموع حركة الترجمة، وان ظهر الأدب اليوناني بشكل شذرات في الأمثال والحكم المنسوبة الى حكماء العصور القديمة التي تضمها كتب الأدب العربي. أما الكتب الفلسفية والطبية فاحتلت مكانة خاصة في ترجمات مدرسة حنين، اضافة لعلم الفلك. وكان مصلح الفلسفة يجمع مؤلفات في البلاغة وما وراء الطبيعة. ومما ترجمه ابن اسحق ومدرسته في الفلسفة بعض مؤلفات أرسطو "في الروح، في السماء، ما وراء الطبيعة، المقولات..."، وجزءاً من كتب أفلاطون "الحوارات، القوانين، الجمهورية، فلسفة الطبيعة..."، ومن النصوص العلمية التي نقلها ابن اسحق الى العربية "عناصر اقليدس، المجسطي لبطليموس". أما قائمة المؤلفات الطبية المترجمة فهي طويلة جداً تشمل كتب ابقراط وغاليان مثل "الطبقات في الطب، ثقافة الشفاء، النبض، الدورة الدموية، العادات...".
وتقول الباحثة سلامة كار "يسمح حجم الترجمات التقنية فيزياء، فلسفة في انتاج مدرسة حنين بالمقارنة مع العلاقة التي تقوم الآن بين الترجمة التقنية والترجمة الأدبية الصرفة. وإذا كانت الترجمات الأدبية تتمتع عموماً بانتشار يفوق انتشار النصوص التقنية لأنها تتوجه، بسبب طبيعتها، الى شريحة أكثر اتساعاً من القراء، فإن الترجمات التقنية تظل متفوقة من وجهة النظر الكمية، رغم ان انتشارها وذيوعها أقل بكثير إذ يقتصر على المختصين".
تدرس كار مساهمة الترجمات على المستوى اللغوي من خلال إبداع مفردات تقنية عربية، أو إعطاء مضمون خاص لألفاظ قائمة غير مستخدمة في اطار المفردات العلمية، وعلى مستوى الحضارة العربية الإسلامية عبر دور الترجمات في بناء نظام فلسفي فكري كونته حركة فكرية شاملة نفذت بما أنتجته الترجمة. وأخيراً أسهمت النسخ العربية للمؤلفات الفلسفية والعلمية اليونانية التي ترجمت الى اللاتينية بخلق تيار فلسفي في الغرب المسيحي في العصر الوسيط. وكان لهذه الترجمات، اضافة لأهمية مضمونها، الفضل بإعادة كشف العلوم اليونانية القديمة للغرب وإطلاق أبحاث علمية وتفكير فلسفي جديد هيأ له عصر النهضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.