الكتاب: الترجمة في العصر العباسي مدرسة حنين بن إسحق وأهميتها في الترجمة المؤلفة: مريم سلامة - كار المترجم: نجيب غزاوي الناشر: وزارة الثقافة في سورية دمشق: 1998 - 104 صفحات تعتبر دراسة منهجيات ترجمة النصوص اليونانية الى العربية ذات أهمية خاصة، تاريخية وفلسفية ولسانية، وتزداد أهميتها نتيجة تعارض اللغتين اليونانية والعربية بطبيعتهما ودرجة تطورهما. فالعربية لغة سامية بينما اليونانية هندو أوروبية وتختلف صيغ التعبير بينهما حتى يستحيل أحياناً المطابقة بين مفردات اللغتين. من هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته إذ يلقي الضوء على منهجيات وضعها مترجمو النصوص اليونانية الى العربية في مرحلة تاريخية شهدت تطوراً فكرياً ومادياً جعل من مقر السلطة المركزية في بغداد محوراً تتلاقى حوله الثقافات المختلفة في العصر العباسي وتتمازج ، وذلك بفضل حركة مهمة للترجمة احتلت فيها مدرسة حنين بن اسحق مكاناً متميزاً. وقد ساعد في توفير ذلك استيعاب هذه المدرسة للثقافة اليونانية، اضافة لثقافة ابن اسحق الواسعة في أكثر من مجال. فهو طبيب ولساني ومترجم. ركزت مؤلفة الكتاب سلامة كار دراستها حول ابن اسحق لكونه أهم من وضع منهجية تسمح بنقل الفكر اليوناني الى اللغة العربية. ولا تبغي الباحثة تقديم معلومات جديدة عن مدرسة ابن اسحق وإنتاجها، بقدر ما تطمح لوضع نشاط المدرسة في اطار الترجمة المعاصرة، وتبين الى أي درجة تبقى المسائل التي أثارها المترجمون العرب عهد ذاك عصرية، وانطلاقاً من هذه الرؤية تضع الباحثة مدرسة ابن اسحق في سياقها التاريخي والحضاري، إذ شهدت بغداد، منذ أسسها أبي جعفر المنصور عام 762، نشاطاً علمياً وفكرياً متميزاً، وظهر الجيل الأول من مترجمي العصر العباسي تحت حكم المنصور والرشيد لينتهي مع بداية حكم المأمون 813-833، ثم يبدأ الجيل الثاني الذي ينتمي له ابن اسحق، ويمتد حتى عام 912، ثم يأتي الجيل الثالث من مترجمي العصر العباسي ويستمر حتى القرن العاشر. تقول الباحثة في تعريف القارىء بشخصية ابن اسحق: "ولد أبو زيد حنين بن اسحق العبادي المعروف بإسم جوهانيتيوس أومان أو هومينوس في أوروبا العصر الوسيط في الحيرة بالعراق عام 809، في القبيلة العربية المسيحية "عباد" وكان أبوه عطاراً، ما أتاح له الاهتمام بالعقاقير والطب وبخاصة طب العيون، ودرس هذه العلوم لدى يوحنا بن ماسويه، ثم انتقل حنين الى بلاد بيزنطة ليتعلم اليونانية، ومنها الى البصرة في العراق حيث أكمل معرفته باللغة العربية، وبدأ الترجمة في سن مبكرة نسبياً إذ دعاه المأمون وطلب اليه ترجمة ما يستطيع من كتب حكماء اليونان الى اللغة العربية". ويذكر ابن اسحق نفسه في رسالة الى علي بن يحيى أنه ترجم كتاباً لفاليان "حول القوى الطبيعية" من الإغريقية الى السريانية وهو في عمر السابعة عشرة، كما كلفه الأخوة شاكير رعاة علماء أغنياء بترجمة مؤلفات علمية من اليونانية الى العربية. وكان حنين يمارس الطب الى جانب الترجمة، وقد أصبح الطبيب المعتمد للخليفة المتوكل، ورفع في عهده الى مرتبة مسؤول عن أعمال الترجمة في بيت الحكمة، وأشرف على أعمال المترجمين مثل: موسى بن خالد ويحيى بن هارون. ولم يكتف حنين بما جمعه بيت الحكمة من مخطوطات بل سافر الى سورية والإسكندرية وبيزنطة بحثاً عن مخطوطات للترجمة. وكان ابن اسحق يترأس جماعة مترجمين في بغداد، تطلق الباحثة كار عليهم اسم "مدرسة"، وتوضح أن المقصود بهذا المصطلح هو مركز انتاج، أكثر منه مدرسة حقيقية ذات هدف تعليمي، وان كانت المدرسة قد قامت بدور تأهيلي عملي في الترجمة. فاكتسب المترجمون فيها تقانة الترجمة، دون اعتماد نظرية معمقة حولها. ومن الناحية التنظيمية شكل بيت الحكمة كياناً مادياً وتنظيمياً للعمل يسمح بتوزيع أعمال الترجمة بين المختصين، سواء في حقل الترجمة نفسها أو في مهمات موازية لترجمة الكتب القديمة مثل النسخ وتجليد المخطوطات وتصنيف الكتب. فالمترجمون توزعوا مجموعات وفقاً لاختصاصاتهم ومجال الترجمة لكل منهم، ووضع على رأس كل مجموعة مراجع أو مصحح، وكان المترجمون عموماً يترجمون موضوعات مألوفة لديهم، بخاصة في الفروع العلمية كالفلك والطب، بينما كانت ترجمة الأعمال الفلسفية بحد ذاتها أقل دقة في التوزيع. ومن جهة أخرى يلعب الترابط بين العلوم دوراً في هذا المجال. ويوضح غاليان هذه النقطة في مؤلفه "الطبيب الجيد يجب أن يكون فيلسوفاً" الذي ترجمه ابن اسحق الى السريانية والعربية ويحدد فيه غاليان تبعية الطب للفلسفة والعلاقات الدقيقة بينهما. وكانت الترجمة تنجز غالباً على مرحلتين الأولى من اليونانية الى السريانية في حال عدم توافر ترجمة سريانية جيدة يمكن الانتقال منها الى العربية، وهو ما يحدث في المرحلة الثانية من الترجمة. وترى الباحثة أن مبرر المرحلة الأولى هو تسهيل مهمة المترجمين باعتبار أن القليل منهم يعرف اليونانية بشكل كافٍ ليترجم منها مباشرة. وعموماً كان حنين يترجم الى السريانية ويترك لمساعديه مهمة انتاج النص العربي انطلاقاً من ترجمته السريانية، وكان حنين يراجع النسخة الأخيرة ويصحح لغتها العربية. تعرض الباحثة منهجيات الترجمة التي اتبعها حنين ابن اسحق ومدرسته بغرض تقريب عمل هؤلاء من التحليلات النظرية للترجمة والتفسيرات المعتمدة لها الآن. وبتتبع مسار عمل مدرسة ابن اسحق تشير الباحثة الى ثلاثة مستويات هي: نص البداية الموضوع واللغة، العملية الترجمية الفهم واعادة بناء النص، ونص الوصول. ابن اسحق كان يسعى بدقة لتحقيق صحة نص البداية قبل الشروع في الترجمة، وكان يجمع عدة مخطوطات للكتاب نفسه، ليحدد النص الصحيح، وفي حال وقوع مخطوطات أكثر موثوقية بين يديه، بعد ترجمة الكتاب، يراجع ترجمته على ضوء المخطوطات الجديدة. عملية الترجمة تنطلق من "نص البداية"، وينبغي على المترجم أن يلمّ بالموضوع المترجم وليس فقط الضلوع باللغة. وبالنسبة لمدرسة ابن اسحق كان كل مترجم يختص بموضوع يضطلع به. فحنين أبدع بترجمة النصوص الطبية باعتباره طبيباً بينما ترجماته في الرياضيات تطلبت مراجعة مختص، كما في ترجمته "اقليدس" الذي راجعه بعده ثابت بن قره. وبشكل عام كان المترجم يتخلى عن الشكل ليركز على المضمون ويؤدي معنى النص، وان تعدى الأمر حدود الترجمة الحقيقية، ليشمل تقديم شروح أو تلخيصات فالمهم إيصال الفكرة الى قارىء العربية بشكل واضح. وأحياناً كان يلحق بالترجمة شرح أو ملخص لأعمال أخرى من نفس الاختصاص. ومهمة التلخيص تحقيق مضمون الخطاب المكتوب، وتكوين المعنى المنبثق عن المستند اللغوي والعناصر غير اللغوية مثل معرفة المترجم عن الموضوع المعالج. أما فيما يتعلق بتنقيح الترجمات السابقة، فكان حنين يفضل اعادة الترجمة كاملة كونها تتطلب تعديلات أساسية أحياناً. تأتي المؤلفة الى المرحلة الأخيرة في الترجمة وهي انتاج "نص الوصول" بشكل واضح، من حيث التركيب اللغوي، ليفهمه المتلقي المختص وغير المختص. وباعتبار أن معظم المترجمين هم من غير العرب أصلاً وجب مراجعة النص لجهة لغة الوصول الموجهة للقارىء. وهنا ظهرت مشكلة عدم توافر مرادفات عربية لجميع الألفاظ اليونانية أو السريانية نتيجة اختلاف بنية كل لغة عن الأخرى، فلجأ المترجمون الى استدانة ألفاظ يونانية وتعريبها صوتياً أو الى نحت ألفاظ جديدة انطلاقاً من الجذور العربية، واستخدموا الاستدانة بشكل أوسع لدى الترجمة من اليونانية الى السريانية فالعربية. وقد ترافقت الاستدانة بشرح عربي أو ملاحظة هامشية توضح اللفظ الجديد، ثم يأتي المترجمون اللاحقون وليستبدلوا اللفظ اليوناني من النسخة العربية بألفاظ عربية لدى اعادة الترجمات الأولى، فمثلاً: لفظ Namus أُخذ من اليونانية Vomos ونقل الى العربي ناموس بمعنى قانون، وتوافر له جمع مقبول صرفياً في اللغة العربية. وهذه الظاهرة في الترجمة إدخال ألفاظ جديدة فما زالت مستمرة حتى اليوم. وتضرب الباحثة مثلاً عن دخول ألفاظ انكلو سكسونية في اللغة الفرنسية، فلفظة Software دخلت النص الفرنسي ثم استبدلت بمقابلها الفرنسي Logiciel. بتتبع مجالات النصوص المختارة للترجمة ندرك تطوراً ملموساً بين الاهتمامات المباشرة للخلفاء الأوائل بتعريب السجلات الإدارية والمالية والعلوم الطبيعية، وبين راعي العلماء المأمون، الذي تُرجمت في عهده غالبية أعمال أرسطو. لكن يبقى الأدب اليوناني بعيداً - نوعاً ما - عن اهتمامات مجموع حركة الترجمة، وان ظهر الأدب اليوناني بشكل شذرات في الأمثال والحكم المنسوبة الى حكماء العصور القديمة التي تضمها كتب الأدب العربي. أما الكتب الفلسفية والطبية فاحتلت مكانة خاصة في ترجمات مدرسة حنين، اضافة لعلم الفلك. وكان مصلح الفلسفة يجمع مؤلفات في البلاغة وما وراء الطبيعة. ومما ترجمه ابن اسحق ومدرسته في الفلسفة بعض مؤلفات أرسطو "في الروح، في السماء، ما وراء الطبيعة، المقولات..."، وجزءاً من كتب أفلاطون "الحوارات، القوانين، الجمهورية، فلسفة الطبيعة..."، ومن النصوص العلمية التي نقلها ابن اسحق الى العربية "عناصر اقليدس، المجسطي لبطليموس". أما قائمة المؤلفات الطبية المترجمة فهي طويلة جداً تشمل كتب ابقراط وغاليان مثل "الطبقات في الطب، ثقافة الشفاء، النبض، الدورة الدموية، العادات...". وتقول الباحثة سلامة كار "يسمح حجم الترجمات التقنية فيزياء، فلسفة في انتاج مدرسة حنين بالمقارنة مع العلاقة التي تقوم الآن بين الترجمة التقنية والترجمة الأدبية الصرفة. وإذا كانت الترجمات الأدبية تتمتع عموماً بانتشار يفوق انتشار النصوص التقنية لأنها تتوجه، بسبب طبيعتها، الى شريحة أكثر اتساعاً من القراء، فإن الترجمات التقنية تظل متفوقة من وجهة النظر الكمية، رغم ان انتشارها وذيوعها أقل بكثير إذ يقتصر على المختصين". تدرس كار مساهمة الترجمات على المستوى اللغوي من خلال إبداع مفردات تقنية عربية، أو إعطاء مضمون خاص لألفاظ قائمة غير مستخدمة في اطار المفردات العلمية، وعلى مستوى الحضارة العربية الإسلامية عبر دور الترجمات في بناء نظام فلسفي فكري كونته حركة فكرية شاملة نفذت بما أنتجته الترجمة. وأخيراً أسهمت النسخ العربية للمؤلفات الفلسفية والعلمية اليونانية التي ترجمت الى اللاتينية بخلق تيار فلسفي في الغرب المسيحي في العصر الوسيط. وكان لهذه الترجمات، اضافة لأهمية مضمونها، الفضل بإعادة كشف العلوم اليونانية القديمة للغرب وإطلاق أبحاث علمية وتفكير فلسفي جديد هيأ له عصر النهضة. الكتاب: الترجمة في العصر العباسي مدرسة حنين بن إسحق وأهميتها في الترجمة المؤلفة: مريم سلامة - كار المترجم: نجيب غزاوي الناشر: وزارة الثقافة في سورية دمشق: 1998 - 104 صفحات تعتبر دراسة منهجيات ترجمة النصوص اليونانية الى العربية ذات أهمية خاصة، تاريخية وفلسفية ولسانية، وتزداد أهميتها نتيجة تعارض اللغتين اليونانية والعربية بطبيعتهما ودرجة تطورهما. فالعربية لغة سامية بينما اليونانية هندو أوروبية وتختلف صيغ التعبير بينهما حتى يستحيل أحياناً المطابقة بين مفردات اللغتين. من هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته إذ يلقي الضوء على منهجيات وضعها مترجمو النصوص اليونانية الى العربية في مرحلة تاريخية شهدت تطوراً فكرياً ومادياً جعل من مقر السلطة المركزية في بغداد محوراً تتلاقى حوله الثقافات المختلفة في العصر العباسي وتتمازج ، وذلك بفضل حركة مهمة للترجمة احتلت فيها مدرسة حنين بن اسحق مكاناً متميزاً. وقد ساعد في توفير ذلك استيعاب هذه المدرسة للثقافة اليونانية، اضافة لثقافة ابن اسحق الواسعة في أكثر من مجال. فهو طبيب ولساني ومترجم. ركزت مؤلفة الكتاب سلامة كار دراستها حول ابن اسحق لكونه أهم من وضع منهجية تسمح بنقل الفكر اليوناني الى اللغة العربية. ولا تبغي الباحثة تقديم معلومات جديدة عن مدرسة ابن اسحق وإنتاجها، بقدر ما تطمح لوضع نشاط المدرسة في اطار الترجمة المعاصرة، وتبين الى أي درجة تبقى المسائل التي أثارها المترجمون العرب عهد ذاك عصرية، وانطلاقاً من هذه الرؤية تضع الباحثة مدرسة ابن اسحق في سياقها التاريخي والحضاري، إذ شهدت بغداد، منذ أسسها أبي جعفر المنصور عام 762، نشاطاً علمياً وفكرياً متميزاً، وظهر الجيل الأول من مترجمي العصر العباسي تحت حكم المنصور والرشيد لينتهي مع بداية حكم المأمون 813-833، ثم يبدأ الجيل الثاني الذي ينتمي له ابن اسحق، ويمتد حتى عام 912، ثم يأتي الجيل الثالث من مترجمي العصر العباسي ويستمر حتى القرن العاشر. تقول الباحثة في تعريف القارىء بشخصية ابن اسحق: "ولد أبو زيد حنين بن اسحق العبادي المعروف بإسم جوهانيتيوس أومان أو هومينوس في أوروبا العصر الوسيط في الحيرة بالعراق عام 809، في القبيلة العربية المسيحية "عباد" وكان أبوه عطاراً، ما أتاح له الاهتمام بالعقاقير والطب وبخاصة طب العيون، ودرس هذه العلوم لدى يوحنا بن ماسويه، ثم انتقل حنين الى بلاد بيزنطة ليتعلم اليونانية، ومنها الى البصرة في العراق حيث أكمل معرفته باللغة العربية، وبدأ الترجمة في سن مبكرة نسبياً إذ دعاه المأمون وطلب اليه ترجمة ما يستطيع من كتب حكماء اليونان الى اللغة العربية". ويذكر ابن اسحق نفسه في رسالة الى علي بن يحيى أنه ترجم كتاباً لفاليان "حول القوى الطبيعية" من الإغريقية الى السريانية وهو في عمر السابعة عشرة، كما كلفه الأخوة شاكير رعاة علماء أغنياء بترجمة مؤلفات علمية من اليونانية الى العربية. وكان حنين يمارس الطب الى جانب الترجمة، وقد أصبح الطبيب المعتمد للخليفة المتوكل، ورفع في عهده الى مرتبة مسؤول عن أعمال الترجمة في بيت الحكمة، وأشرف على أعمال المترجمين مثل: موسى بن خالد ويحيى بن هارون. ولم يكتف حنين بما جمعه بيت الحكمة من مخطوطات بل سافر الى سورية والإسكندرية وبيزنطة بحثاً عن مخطوطات للترجمة. وكان ابن اسحق يترأس جماعة مترجمين في بغداد، تطلق الباحثة كار عليهم اسم "مدرسة"، وتوضح أن المقصود بهذا المصطلح هو مركز انتاج، أكثر منه مدرسة حقيقية ذات هدف تعليمي، وان كانت المدرسة قد قامت بدور تأهيلي عملي في الترجمة. فاكتسب المترجمون فيها تقانة الترجمة، دون اعتماد نظرية معمقة حولها. ومن الناحية التنظيمية شكل بيت الحكمة كياناً مادياً وتنظيمياً للعمل يسمح بتوزيع أعمال الترجمة بين المختصين، سواء في حقل الترجمة نفسها أو في مهمات موازية لترجمة الكتب القديمة مثل النسخ وتجليد المخطوطات وتصنيف الكتب. فالمترجمون توزعوا مجموعات وفقاً لاختصاصاتهم ومجال الترجمة لكل منهم، ووضع على رأس كل مجموعة مراجع أو مصحح، وكان المترجمون عموماً يترجمون موضوعات مألوفة لديهم، بخاصة في الفروع العلمية كالفلك والطب، بينما كانت ترجمة الأعمال الفلسفية بحد ذاتها أقل دقة في التوزيع. ومن جهة أخرى يلعب الترابط بين العلوم دوراً في هذا المجال. ويوضح غاليان هذه النقطة في مؤلفه "الطبيب الجيد يجب أن يكون فيلسوفاً" الذي ترجمه ابن اسحق الى السريانية والعربية ويحدد فيه غاليان تبعية الطب للفلسفة والعلاقات الدقيقة بينهما. وكانت الترجمة تنجز غالباً على مرحلتين الأولى من اليونانية الى السريانية في حال عدم توافر ترجمة سريانية جيدة يمكن الانتقال منها الى العربية، وهو ما يحدث في المرحلة الثانية من الترجمة. وترى الباحثة أن مبرر المرحلة الأولى هو تسهيل مهمة المترجمين باعتبار أن القليل منهم يعرف اليونانية بشكل كافٍ ليترجم منها مباشرة. وعموماً كان حنين يترجم الى السريانية ويترك لمساعديه مهمة انتاج النص العربي انطلاقاً من ترجمته السريانية، وكان حنين يراجع النسخة الأخيرة ويصحح لغتها العربية. تعرض الباحثة منهجيات الترجمة التي اتبعها حنين ابن اسحق ومدرسته بغرض تقريب عمل هؤلاء من التحليلات النظرية للترجمة والتفسيرات المعتمدة لها الآن. وبتتبع مسار عمل مدرسة ابن اسحق تشير الباحثة الى ثلاثة مستويات هي: نص البداية الموضوع واللغة، العملية الترجمية الفهم واعادة بناء النص، ونص الوصول. ابن اسحق كان يسعى بدقة لتحقيق صحة نص البداية قبل الشروع في الترجمة، وكان يجمع عدة مخطوطات للكتاب نفسه، ليحدد النص الصحيح، وفي حال وقوع مخطوطات أكثر موثوقية بين يديه، بعد ترجمة الكتاب، يراجع ترجمته على ضوء المخطوطات الجديدة. عملية الترجمة تنطلق من "نص البداية"، وينبغي على المترجم أن يلمّ بالموضوع المترجم وليس فقط الضلوع باللغة. وبالنسبة لمدرسة ابن اسحق كان كل مترجم يختص بموضوع يضطلع به. فحنين أبدع بترجمة النصوص الطبية باعتباره طبيباً بينما ترجماته في الرياضيات تطلبت مراجعة مختص، كما في ترجمته "اقليدس" الذي راجعه بعده ثابت بن قره. وبشكل عام كان المترجم يتخلى عن الشكل ليركز على المضمون ويؤدي معنى النص، وان تعدى الأمر حدود الترجمة الحقيقية، ليشمل تقديم شروح أو تلخيصات فالمهم إيصال الفكرة الى قارىء العربية بشكل واضح. وأحياناً كان يلحق بالترجمة شرح أو ملخص لأعمال أخرى من نفس الاختصاص. ومهمة التلخيص تحقيق مضمون الخطاب المكتوب، وتكوين المعنى المنبثق عن المستند اللغوي والعناصر غير اللغوية مثل معرفة المترجم عن الموضوع المعالج. أما فيما يتعلق بتنقيح الترجمات السابقة، فكان حنين يفضل اعادة الترجمة كاملة كونها تتطلب تعديلات أساسية أحياناً. تأتي المؤلفة الى المرحلة الأخيرة في الترجمة وهي انتاج "نص الوصول" بشكل واضح، من حيث التركيب اللغوي، ليفهمه المتلقي المختص وغير المختص. وباعتبار أن معظم المترجمين هم من غير العرب أصلاً وجب مراجعة النص لجهة لغة الوصول الموجهة للقارىء. وهنا ظهرت مشكلة عدم توافر مرادفات عربية لجميع الألفاظ اليونانية أو السريانية نتيجة اختلاف بنية كل لغة عن الأخرى، فلجأ المترجمون الى استدانة ألفاظ يونانية وتعريبها صوتياً أو الى نحت ألفاظ جديدة انطلاقاً من الجذور العربية، واستخدموا الاستدانة بشكل أوسع لدى الترجمة من اليونانية الى السريانية فالعربية. وقد ترافقت الاستدانة بشرح عربي أو ملاحظة هامشية توضح اللفظ الجديد، ثم يأتي المترجمون اللاحقون وليستبدلوا اللفظ اليوناني من النسخة العربية بألفاظ عربية لدى اعادة الترجمات الأولى، فمثلاً: لفظ Namus أُخذ من اليونانية Vomos ونقل الى العربي ناموس بمعنى قانون، وتوافر له جمع مقبول صرفياً في اللغة العربية. وهذه الظاهرة في الترجمة إدخال ألفاظ جديدة فما زالت مستمرة حتى اليوم. وتضرب الباحثة مثلاً عن دخول ألفاظ انكلو سكسونية في اللغة الفرنسية، فلفظة Software دخلت النص الفرنسي ثم استبدلت بمقابلها الفرنسي Logiciel. بتتبع مجالات النصوص المختارة للترجمة ندرك تطوراً ملموساً بين الاهتمامات المباشرة للخلفاء الأوائل بتعريب السجلات الإدارية والمالية والعلوم الطبيعية، وبين راعي العلماء المأمون، الذي تُرجمت في عهده غالبية أعمال أرسطو. لكن يبقى الأدب اليوناني بعيداً - نوعاً ما - عن اهتمامات مجموع حركة الترجمة، وان ظهر الأدب اليوناني بشكل شذرات في الأمثال والحكم المنسوبة الى حكماء العصور القديمة التي تضمها كتب الأدب العربي. أما الكتب الفلسفية والطبية فاحتلت مكانة خاصة في ترجمات مدرسة حنين، اضافة لعلم الفلك. وكان مصلح الفلسفة يجمع مؤلفات في البلاغة وما وراء الطبيعة. ومما ترجمه ابن اسحق ومدرسته في الفلسفة بعض مؤلفات أرسطو "في الروح، في السماء، ما وراء الطبيعة، المقولات..."، وجزءاً من كتب أفلاطون "الحوارات، القوانين، الجمهورية، فلسفة الطبيعة..."، ومن النصوص العلمية التي نقلها ابن اسحق الى العربية "عناصر اقليدس، المجسطي لبطليموس". أما قائمة المؤلفات الطبية المترجمة فهي طويلة جداً تشمل كتب ابقراط وغاليان مثل "الطبقات في الطب، ثقافة الشفاء، النبض، الدورة الدموية، العادات...". وتقول الباحثة سلامة كار "يسمح حجم الترجمات التقنية فيزياء، فلسفة في انتاج مدرسة حنين بالمقارنة مع العلاقة التي تقوم الآن بين الترجمة التقنية والترجمة الأدبية الصرفة. وإذا كانت الترجمات الأدبية تتمتع عموماً بانتشار يفوق انتشار النصوص التقنية لأنها تتوجه، بسبب طبيعتها، الى شريحة أكثر اتساعاً من القراء، فإن الترجمات التقنية تظل متفوقة من وجهة النظر الكمية، رغم ان انتشارها وذيوعها أقل بكثير إذ يقتصر على المختصين". تدرس كار مساهمة الترجمات على المستوى اللغوي من خلال إبداع مفردات تقنية عربية، أو إعطاء مضمون خاص لألفاظ قائمة غير مستخدمة في اطار المفردات العلمية، وعلى مستوى الحضارة العربية الإسلامية عبر دور الترجمات في بناء نظام فلسفي فكري كونته حركة فكرية شاملة نفذت بما أنتجته الترجمة. وأخيراً أسهمت النسخ العربية للمؤلفات الفلسفية والعلمية اليونانية التي ترجمت الى اللاتينية بخلق تيار فلسفي في الغرب المسيحي في العصر الوسيط. وكان لهذه الترجمات، اضافة لأهمية مضمونها، الفضل بإعادة كشف العلوم اليونانية القديمة للغرب وإطلاق أبحاث علمية وتفكير فلسفي جديد هيأ له عصر النهضة.