يقول فرانز روزنتال إنّ الترجمة مهما بلغ من سطوة المترجَم وتأثيراته(*)، لا تنفردُ بإحداث التشابُك والتبادُل المبدع ين الثقافات والحضارات. وهو يُوردُ هذه العبارة في تقديمه لكتابه الشهير عن «الحياة المتجددة للتراث الكلاسيكي في الحضارة الإسلامية»(1). بيد أنّ تلميذه ديمتري غوتاس يخالفُهُ الرأْيَ في هذا الأمر، عندما يعتبر أنه لولا الموروثُ الكلاسيكي الذي استوعبه العرب والمسلمون لما كانت الثقافة العربية-الإسلامية الوسيطة على الصورة التي نعرفُها عليها اليوم، بل ومنذ قرنين من الزمان(2). لكنه وهو يدرس أمر الترجمة واختياراتها ومصائرها بين القرنين الثاني والخامس للهجرة (بين الثامن والثاني عشر للميلاد)، يُضطرُّ للإقرار بأنّ الهوية الخاصة العربية والإسلامية كانت لها تأثيراتها الكبرى في ثلاثة أمور: ماذا ترجم العرب ولماذا، وكيف فهموا ما ترجموه، وكيف بقيت روحُ حضارتهم السامية أو العربية أو الإسلامية بمنأىً إلى حدٍ كبير عن الموروث الحضاري الذي تلقَّوه. وهكذا فإنّ العملية الحضارية التاريخية هي عمليةٌ مركَّبةٌ أو معقَّدةٌ، وإذا كان التأثير أو التأثُّر بالدثائر المترجمة لا ينفرد بتحديد المصائر بين الحضارات؛ فإنّ الهوية الخاصةّ لأمةٍ أو ثقافةٍ لا تنفردُ هي أيضاً بتحديد مصائر تلك الحضارة. ولكي لا نبقى في نطاق الجدال الذي قدَّمْنا به، نبدأ باستعراض الحقب السالفة الذكر للتلقّي والتلاقُح الثقافي من خلال الترجمة في الثقافة العربية؛ لنقدّم بعد ذلك بعضَ الاستنتاجات الأولية بشأن عنوان المُداخلة، أي جدلية الترجمة والهوية. لدينا إذاً ثلاث حِقَبٍ رئيسيةٍ للترجمة في حياتنا الثقافية، وهي: الحقبة الكلاسيكية أو القديمة بين القرنين الثاني والخامس للهجرة (أي في ما بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد). وقد كانت الترجماتُ فيها إلى العربية عن الإغريقية مباشرةً أو بواسطة السريانية)، وعن الفارسية الوسيطة، وعن الهندية، وقليل جداً عن اللاتينية القديمة. أما الحقبةُ الثانية فتمتدُّ في ما بين الرُبع الأول من القرن التاسع عشر، والثلث الأول من القرن العشرين. أما الحقبة الثالثةُ فهي الزمنُ المُعاصر منذ السبعينات من القرن العشرين وإلى الزمن الحاضر. وفي هاتين الحقبتين الثانية والثالثة، كان معظم المترجَم عن الفرنسية والإنكليزية، مع كتاباتٍ أقلّ مترجَمة إلى العربية عن الإيطالية والإسبانية والروسية. يقول الأستاذ رشدي راشد(3) صاحب الإنجازات في تاريخ العلوم وفلسفتها، وبخاصةٍ تاريخ الرياضيات والفلك إنّ الترجمات تُحدِّدُها الاحتياجات العلمية والثقافية لثقافةٍ معينة. وهو بذلك يُعَلِّلُ الاهتمامات العربية الأُولى بالطب ومؤلَّفاته، وبالرياضيات والفلك والكيمياء. ونحن نعلمُ الآن أنّ العربَ الأوائل عندما كانوا يسعَون للحصول على نصوصٍ في هذه التخصُّصات من مواطن الثقافة الكلاسيكية والعلم الكلاسيكي بحرّان وجند يسابور والحيرة وبيزنطة، كانوا يترجمون أيضاً نصوصاً في الصيد، وفي مرايا الأُمراء (مثل رسائل أرسطو المنحولة التي يقال إنه بعث بها إلى الإسكندر) - كما يترجم لهم العاملون في دواوينهم نصوصاً عن الفارسية الوسيطة تتصل بِسِيَر الأكاسرة، وآيين المُلْك عندهم. وقد اشتهر من بين هؤلاء بالترجمة عن الفارسية كلٌّ من عبدالحميد وسالم أبو العلاء وابن المقفَّع وكلُّ ذلك في البلاط الأُموي. أمّا أبو جعفر المنصور فقد اهتمّ بالحساب الهندي والأعداد والطب. ثم كانت النهضة الكبرى في الترجمة أيام المأمون وبيت الحكمة. فأيام المأمون وخلفائه وعلى مدى قرن كان هناك نهوضٌ بارز وعارم، وبلغ أمر الترجمات إلى النصوص الفلسفية، وصار كبار الأطباء اليونان معروفين، وكذلك كبار الفلاسفة وفي طليعتهم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين والإسكندر الأفروديسي وفورفوريوس الصوري وغيرهم. ونحن نعلمُ الآن أنّ الترجمات الفلكية والرياضية والطبية بدأت تؤثّر مباشرةً في الحياة العلمية النظرية والتطبيقية. وهنا يختلف مؤرِّخو العلوم في حدود التأثير وحدود أو آفاق الإبداع. إنما فيما بين جورج سارتون وكنيدي وسزكين وراشد، هناك إجماعٌ على حدوث نهوضٍ علميٍّ هائل ظلَّ منطلقاً في سائر المجالات التي ذكرناها حتى القرن السابع عشر الميلادي. بيد أنّ هذا شيء، والحديث عن جدالية الترجمة والهوية شيء آخَر. ففي الثلث الأول من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، نجدُ الجاحظ (-255ه) يقول ما معناه إنه لم يحتج في كتاباته إلى حكماء اليونان، أو سياسات بني ساسان! ولكي نفهمَ معنى هذا الكلام، يكون علينا أن نأخذ في الاعتبار خمسة أمور: إنّ العرب وحوالى النصف الأول من القرن الثاني الهجري كانوا قد ترجموا المنطق الأرسطي أو على الأقلّ المقولات العشْر منه. ونحن نعرف اليوم ترجمتين كاملتين ومتواليتين لمنطق أرسطو تمتا خلال نصف قرن بين الثالث والرابع للهجرة. والأمر الآخر أنّ الحاجظ ما كان فقيهاً ولا محدِّثاً يجهل الميراث الكلاسيكي أو لا يحبه؛ بل كان من كبار العارفين بالتراثين اليوناني والفارسي، كما يبدو من كتبه: البيان والتبيين، والحيوان، والتاج. والأمر الثالث أنّ الكندي (-252ه) المعاصر للجاحظ والذي أَنتج في البصريات، حاول في رسالته في الفلسفة الأولى أن يُنشئ لاهوتاً عقلياً على نمط الميتافيزيقا الأرسطية. والأمر الرابع أنّ الحارث بن أسد المحاسبي (-243ه) المُعاصر للجاحظ والكندي، كتب رسالةً سمّاها: «مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه»، وقد انتهى فيها إلى أنّ العقل غريزةٌ أو نورٌ وليس جوهراً فرداً، في ردٍّ مباشرٍ على الكندي وأهل الأَخْذ عن الدثائر الإغريقية. والأمر الخامس أنه في مطالع القرن الرابع الهجري (العاشر/ الحادي عشر الميلادي) كان متى بن يونس وأبو سعيد السيرافي يتناقشان في المنطق والنحو، لأنّ السيرافي كان يعتبر أنّ النحو هو منطقُ العرب، وهو يرفض منطق اليونان لأنه غريبٌ عن روح الحضارة العربية-الإسلامية! ماذا يعني هذا كلُّه؟ نحن لم نقل كلمةً واحدةً بعد عن الدين وعلائقه بالهوية، بل تتبعنا مسارات الترجمة، وأين أثَّرت وتلاقحت، وأين وجدتْ مقاومةً لها علاقةٌ بالهوية إذا شئتم. ففي الحياة العلمية للناس، دخلت الترجمة مباشرةً وأثّرت وأَنتجت دونما اعتراضٍ من أحد. لكنّ الهوية تدخلتْ عندما جرى المساسُ بها: عند المحاسبي والسيرافي في مفهوم العقل واختلافه بين الثقافتين، وعند الجاحظ في التقاليد الإدارية والسياسية والشؤون القيمية للإنسان فرداً وجماعة. وإذا تقدمنا قليلاً إلى القرن الخامس الهجري (الثاني عشر الميلادي) نجد الغزالي (-505ه) يقدم رؤيةً متكاملةً في نقض النظام الفلسفي الكلاسيكي المؤسلَم في «تهافت الفلاسفة»، لكنه في سائر كتبه (باستثناء «إحياء علوم الدين» بالطبع) مثل المستصفى ومعيار العلم، ومحكّ النظر، ظلَّ تابعاً أميناً للمنطق الأرسطي الذي قال عنه إنّ مَنْ لم يعرفْه لا يوثَقُ بعلمه! وهكذا فإنّ الترجمة عن اليونانية أثرت في شتّى المجالات وإن اختلف عُمقُ التأثير واتّساعه بين مجالٍ وآخر، لكنّ تأثيرها ظلَّ محدوداً في المسائل المتعلقة بالهوية أو الروح العميقة للثقافة العربية - الإسلامية. ولنمضِ مباشرةً إلى الحقبة الثانية، حقبة الترجمة في القرن التاسع عشر وبعض العشرين. وفي هذه الحقبة هناك مشابهات مع الأُولى. فالاحتياجات كانت ماديةً وحضاريةً وفي العلوم البحتة والتطبيقية، وكذلك الترجمات التي جاءت لتلبيتها. وكان هناك تركيز على الجانب الصناعي أو التقني بسبب الاحتياجات العسكرية والإدارية لدولة محمد علي(4). ومع ذلك؛ فإنّ الفروق مع التجربة الكلاسيكية صارت هائلةً في المرحلتين الثانية والثالثة من مراحل التواصُل منذ منتصف القرن التاسع عشر. فالحضارةُ التي كانت الترجمةُ تنصبُّ على نتاجاتها هي حضارةٌ حيةٌ ومُسيطرة، وليست مثل الحضارة الإغريقية البائدة. فالإسلام الوسيط ما وجد تحدياتٍ جديةً لِسَواده وسطوته لا في اليونان ولا عند الفرس، ولذلك ما كانت هناك حساسية ظاهرة من الترجمة إلاّ ما تعلّق منها بالهوية الثقافية الخاصة. وما كان الأمر على هذا النحو مع الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر. فقد كان الغرب وقتَها يزحف على آسيا وإفريقيا ليضمَّ العالَمَ كُلَّه قديمه وحديثَه تحت سيطرته وفي متناوَل أسواقه وعساكره ورحّالته ومستشرقيه. والطهطاوي الشديد الثقة بدينه وثقافته ما وجد هو ولا شيخه شيخ الأزهر حسن العطّار، بُدّاً من عَرْض التجربة الباريسية في كتابه: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، والذي لخَّص فيه دستور الثورة الفرنسية، مستعيذاً بالله من كلّ ذلك، ومفتوناً به في الوقت نفسه. ثم بعد أربعين سنةً، قام بطلبٍ من الخديوي إسماعيل بترجمة قانون نابليون(5). بل وأكثر من ذلك. ففي الثمانينات من القرن التاسع عشر، وقد سيطرت القوانين المدنية الغربية في شتّى المجالات، أقبل قدري باشا وزملاؤه على تنظيم الفقه الحنفي في مواد قانونية مُناظرة لقانون نابليون. بل وبدأ محمد عبده بعدها بقليلٍ هو وتلامذته بالمطالبة بإصلاحٍ دينيٍ خجول بعض الشيء، لكنه دالٌّ ومؤثّر. ولكي لا أُطيلَ في مناحي ومجالات تأثير الترجمة والتواصُل من طريقها، أذكر هُنا نموذجاً واحداً وهو كتب غوستاف لوبون السوسيولوجي الفرنسي المتوفى عام 1897. ففيما بين العام 1988 والعام 1919 ترجم المصريون والعرب الآخرون ستة عشر كتاباً من مؤلَّفاته، وتتعلق كُلُّها بالحضارات والمدنيات القديمة، وبالثورة الفرنسية، وبقواعد قيام حضارات وانقضائها. ومن طريق لوبون وأمثاله ظهرت لدى النهضويين العرب فكرة السُنَن في قيام الحضارات والدول، التي بنى عليها محمد عبده تفسيره للقرآن الكريم والذي عُرف بعده بتفسير المنار لأنه كان في الأصل دروساً تنشرها مجلة المنار على حلقات. هل هناك ما هو أَوقع وأبلغُ من هذا كُلِّه في المساس بالهوية الخاصة والعامة؟ لقد شكَّل هذا كُلُّه مشروعاً جديداً للدولة أولاً وللمجتمع ثانياً وللثقافة العامة والخاصة ثالثاً. وكما سبق القول؛ فإنّ الترجمة ما كانت السبيل الوحيد للتواصُل والتأثير. لكنْ لدى النُخَب العالِمة؛ فإنّ الكتاب كان هو المفصل في التأثير والاحتجاج والتوثيق والاعتبار: أَوَلم يضطر طنطاوي جوهري وحسين الجسر إلى تجربة نظرية دارون في تفسير علميٍّ للقرآن؟! هل كانت هناك ردود أفعال لجهة الهوية والاعتداء عليها؟ لقد كانت هناك ردودُ أفعالٍ بالطبع، لكنّ السطوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية للغرب، كانت من الضخامة والهَول، بحيث نحّتْ كلَّ اتجاهٍ آخر، وربما لأنه ما كان هناك اتّجاهٌ آخر، أَوَ لم يقل خير الدين التونسي (- 1888م) في مقدمته على «أقوم المسالك» إنّ هذا الغرب هو كالسيل الجارف الذي لا يمكن دفعه؟! ومرةً ثالثةً إنّ هذا الاجتياح كلَّه ما انفردت الترجمة في إحداثه، لكنّ الكتاب المترجَم كان ذا تأثيرٍ كبيرٍ في النَخَب العالِمة. ويكونُ علينا أن ننتظر بالفعل إلى الجيل التالي لتبدو التأثيرات في المجتمع وثقافته وهويته ومصائره. ومع ذلك فقد يمكنُ تلمُّس الآثار المبكّرة لهذا الاجتياح في ردّ فعل وتحولات محمد رشيد رضا تلميذ محمد عبده بالذات، والذي تحوَّل بعد الحرب العالمية الأُولى - ودائماً من خلال مقالاته في مجلة «المنار» - من إصلاحيٍّ يبحث في القرآن عن تأصيلٍ للدستور والحكم البرلماني إلى أُصولي سلفيٍّ، تراجع عن أكثر مقولاته النهضوية في سنيِّ المجلة الأُولى. هل نحتاج بعد هذا الاستطلاع والتأمُّل إلى التحدث في وقائع الحقبة الثالثة من حِقَب الترجمة في علائقها بالهوية؟ لا أظنُّ ذلك ضرورياً. لكنْ ربما كانت بعضُ الملاحظات مستحسَنةً على سبيل الاستنارة. وأُولى هذه الملاحظات أنّ حضارة الغرب - وبخاصةٍ بعد الحرب العالمية الثانية - صارت حضارةَ العالَم، وصار ضرورياً ضرورةً وجوديةً لكلّ الثقافات الأُخرى، وعلى الخصوص في آسيا وإفريقيا، السعْيُ للتواصل والتلاؤم مع الحضارة الغالبة، وبشروط تلك الحضارة. وما عاد الاختيار ممكناً بين الاندماج أو التحدي والانفصال والانشقاق. ولاحِظوا أنني أقول الانفصال والانشقاق وليس البقاء على الاستقلال أو التوازي أو الانكماش والانعزال. ما عادت هناك مشروعيةٌ لأيّ ثقافةٍ خارج الثقافة السائدة. والذين حاولوا ذلك من سائر الاُمم والأديان اضطروا للاستظلال بالثقافات الفرعية السرية المقموعة بالغرب وعياً وتعليلاً، أو لخوض صراعٍ بالسلاح دفاعاً عن الذاتية المنقضية. وفي الحالتين كان المصير معروفاً: الانتحار الذاتي! وثانية هذه الملاحظات أنّ الترجمات إلى العربية في الحقبة الثالثة هذه تزايدت عدداً وعُدَّةً وتنوعاً إلى آفاقٍ بعيدة، لكنّ وظائفها وتأثيراتها تراجعت طرْداً وعكساً. ذلك أنّ العلوم البحتة والتطبيقية وما اتّصل بها صارت تُقرأُ بلغاتها الأصلية، أمّا العلوم الإنسانية والاجتماعية ذات الطابع الأكاديمي والمدرسي؛ فإنّ أهل الاختصاص تلقَّوها أيضاً باللغات الأصلية أثناء دراستهم في الغرب. إنما بقيت للترجمات بعض الوظائف المعرفية لدى العامّة، وهي ساهمت وتُساهم في الحداثة الاجتماعية والثقافية. ما عاد الكتابُ المترجَم وسيلةً رئيسيةً بين وسائل الاتصال، ولذلك فقد لا يكونُ مسوَّغاً الشكوى الدائمة من أنّ العرب لا يترجمون كثيراً، بل ربما كان الأصحّ أنهم لا يقرأون كثيراً بأيّ لغة. والملاحظة الثالثة والأخيرة وهي تتناول العلائق بالهوية. لقد تفجَّرت الهوية أو الهويات العربية-الإسلامية في العقود الستة الماضية. وهذا المخاض الهائلُ الذي نشهده اليوم هو خليطٌ من ثلاثة عناصر: الهوية أو الهويات المتعملقة، ودفاعٌ مستميتٌ من جانب أهل التحديث المنقوص الذين سادوا في الحقبة الماضية عن وجودهم ومصالحهم، وسعْيٌ حثيثٌ وصراعي وباسم الحرية من جانب الأجيال الجديدة للتلاؤم بل والاندماج في ثقافة العصر، وعصر العالم. إنها عمليةٌ تاريخيةٌ هائلة، وهي تقع وفق تعبير فريدريك نتيشه في ما وراء الخير والشر. لدينا إذن في المجال الثقافي/ الحضاري ثلاثُ حِقَبٍ لتأمُّل علائق الترجمة بالهوية. في الحقبة الأولى الكلاسيكية أثرت الترجمات تأثيراً كبيراً في وعي النُخَب العالمة والحاكمة. ولأنّ الانتماء العربيَّ–الإسلاميَّ كان مزدهراً ومنتصراً؛ فإنّ الهوية استطاعت الاستيعاب والهضم والتخليق والتجاوُز. وما كان الأمر كذلك في الحقبة الثانية المعروفة بعصر النهضة. فالموقف الثقافي والحالة الحضارية، كانا في حالة خمودٍ وتخثُّر، بينما كانت الحضارة المنقول عنها شديدة التوهُّج ويملأها وعْيُ الانتصار. وقد أدَّت الترجمةُ هذه المرة أيضاً دوراً رئيسياً، فاخترقت محرَّمات الهوية وجرّحتْها. وحدثت عملية التخلخل العميقة التي شهدنا آثارها في الحقبة الثالثة الحاضرة. لقد تعمقت جراح الهوية إلى حدودٍ فظيعة، وسادت نُخَبٌ ثقافيةٌ وسياسيةٌ محدَّثة وتحديثيةٌ وليست ذات وعيٍ مُعاصر. ونشهد اليوم عملية تلاؤمٍ كبرى طال انتظارُها ومن هنا تأتي صعوبتُها؛ لكنّ الترجمة ما عادت تلعب دوراً بارزاً فيها. الحواشي (*) النص، محاضرة أُلقيت في معرض الكتاب في أبو ظبي في 1/4/2012 بدعوة من مؤسسة «كلمة». (1) Franz Rosenthal: Das Fortleben der Antike im Islam. Artenis Verlag 1965. PP. 5- 8. (2) ديمتري غوتاس: الفكر اليوناني والثقافة العربية. ترجمة نقولا زيادة. المنظمة العربية للترجمة: بيروت 1988. ص ص 12-14. وقارن بفرانز روزنتال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي. ترجمة أنيس فريحة. بيروت 1961. ص ص 12-15. (3) رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 2011. ص ص 15-65. وقارن بجورج صليبا: العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية. ترجمة محمود حداد. كلمة. أبوظبي؛ 2011. ص ص 15-64، 133 وما بعدها. (4) قارن بجمال الدين الشيّال: الترجمة في عصر محمد علي: دار الكتب المصرية، 1962، ص ص 35-56. ولطيف زينونة: حركة الترجمة في عصر النهضة. بيروت: دار المنتخب العربي، 1995، ص ص 114-168. (5) قارن بمعتز الخطيب: الفقيه وتقنين الشريعة؛ في: الأمة والدولة والتاريخ والمصائر، دراسات مهداة إلى رضوان السيد بمناسبة بلوغه الستين. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2011، ص ص 491-518.