مهما كان موقفك السياسي والأيديولوجي من الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة عظمى، فإنك لا تملك إلا الإعجاب بما أكدته الانتخابات الرئاسية فيها، والتي انتهت يوم الخميس الماضي. أكدت هذه الانتخابات مرة أخرى متانة المؤسسات السياسية الأميركية، ومدى قدرتها على استيعاب عناصر الأزمة والصراع التي تنطوي عليها إنتخابات مثل هذه تترتب عليها مصالح كبيرة، وتتضمن إعادة التوازن بين قوى كبيرة أيضاً. أثبتت مؤسسات الدولة قوتها ومتانتها في وجه أزمة انتخابية غير مسبوقة، ومحل التنافس فيها هو أعلى منصب في الدولة، وعلى رغم الضعف السياسي والشخصي لكلا المرشحين. انعكست متانة مؤسسات الدولة الأميركية في الطريقة التي تعاملت بها تلك المؤسسات مع الأزمة الانتخابية في فلوريدا وتقلباتها. فقد نقلت أزمة فلوريدا الانتخابات من عملية سياسية إلى عملية قانونية. وبالتالي انتقل الصراع من صراع على أصوات الناخبين في الشوارع وصناديق الاقتراع، إلى صراع في دهاليز المحاكم والقضاء. كانت تصل ذروة الدراما في هذا الصراع أحياناً أن أحد المرشحين غالباً بوش يبدو قاب قوسين أو أدنى من النصر، لتصدر أحد المحاكم حكماً يعيد التنافس إلى بدايته حول الإشكالية الرئيسة، وهي إشكالية إعادة فرز الأصوات في بعض مقاطعات الولاية. وهذا بدوره يفرض استئناف الحكم من جانب أحد الطرفين، لتستمر المعركة القانونية، ومعها الأزمة الانتخابية من دون أن يعرف أحد نهاية لها. طوال ذلك كانت هناك ذروات عاطفية، وخلافات قانونية، ومصالح متقاطعة. ثم هناك عامل الوقت يضغط على أطراف اللعبة بالمواعيد النهائية لتسمية الهيئة الانتخابية للولايات، ولاجتماع هذه الهيئة لاختيار الرئيس الجديد... الخ. أكدت هذه الانتخابات مدى استقرار ومتانة مؤسسات الدولة الأميركية من ناحية، ومدى رسوخ التقاليد الديموقراطية فيها من ناحية أخرى. فللمرة الأولى تدخل هذه الانتخابات في أزمة كبيرة وتستمر لأكثر من شهر من دون معرفة من هو الرئيس المنتخب. وللمرة الأولى يتم حسم الصراع الرئاسي فيها ليس بالأصوات الانتخابية، وإنما على يد المحكمة الفيديرالية العليا. وللمرة الرابعة يفوز بالرئاسة الطرف الذي خسر التصويت الشعبي، وهو هنا جورج بوش الإبن. ومع كل ذلك بقيت مؤسسات الدولة تمارس وظائفها بشكل عادي وروتيني. حتى التظاهرات التي رافقت الأزمة كانت محدودة، ولم تتجاوز حدود التعبير السلمي عن مواقف مناصرة أو معارضة لهذا الطرف أو ذاك. ثم بعد أن أعلنت المحكمة الفيديرالية قرارها الذي أعطى النصر عملياً للمرشح الجمهوري، أعلن المرشح الديموقراطي آل غور بدوره تنازله وقبوله بالنتيجة التي فرضتها المحكمة على رغم أنه لايتفق مع قرارها، ولا مع الحيثيات التي بني عليها هذا القرار. خطاب التنازل الذي ألقاه غور مساء الاربعاء الماضي توقيت واشنطن دي سي كان استمراراً للتقليد الديموقراطي الأميركي الذي يقتضي دخول المعركة السياسية بكل قوة وإصرار، لكنه يفترض الانسحاب من الطرف الخاسر بكل شرف وطيب خاطر عندما تصل اللعبة السياسية إلى نهايتها. وذلك لأن مصلحة الوطن ووحدة الوطن تتقدمان على ما عداهما من مصالح حزبية أو شخصية. وقد استعان غور بهذا الإرث عندما استعاد ما قاله السيناتور ستيفن دوغلاس قبل حوالي قرن ونصف القرن للتعبير عن موقفه من خصمه في الانتخابات، جورج بوش، الذي أصبح الرئيس ال43 للولايات المتحدة. كان دوغلاس مثل آل غور قد هزم في الانتخابات الرئاسية أمام إبراهام لينكولن. قال دوغلاس مخاطباً لينكولن: "إن مشاعر التحزب السياسي والحزبي يجب أن تذعن الآن للمشاعر الوطنية. أنا معك يا سيادة الرئيس، وليحفظك الله". وبالروح نفسها أعلن غور قبوله قرار المحكمة الفيديرالية والنتيجة التي أفضى إليها، ومن ثم قدم تنازله، داعياً أن يبارك الله قيادة بوش للولايات المتحدة. نهاية الانتخابات بهذه الطريقة الديموقراطية اكتسبت أهميتها في هذا السياق لاعتبارات عدة ، من أهمها المصالح الكبيرة التي كانت مرتبطة بنتائجها. وربما أن أبرز الآثار السلبية للطريقة التي انتهت بها هذه الانتخابات أنها قد تكون بداية النهاية لمهنة آل غور السياسية. نعم قد تكون انتخابات هذا العام آخر انتخابات يكون نائب الرئيس ممثلاً فيها للحزب الديموقراطي. إذ كشفت هذه الانتخابات أن غور لا يملك قاعدة انتخابية واسعة في ولايته. ثانياً كشفت عدم قدرته على استثمار الإنجازات الاقتصادية والسياسية، ومن ثم الشعبية التي تتمتع بها إدارة كلينتون، وهي الإدارة التي ينتمي إليها غور نفسه. ثالثاً، على رغم أنه تمتع بدعم قطاع واسع من الأميركيين، خصوصاً ذوي الأصل الأفريقي منهم، ودعم الأميركيين اليهود ومعهم المنظمات اليهودية المتنفذة سياسياً ومالياً وتنظيمياً، إلا أنه لم يتمكن من هزيمة جورج بوش الإبن وهو واحد من أضعف مرشحي الرئاسة في التاريخ الأميركي الحديث، سواء بالوزن السياسي أو بالقدرات الفكرية والسياسية. رابعاً، ان الصراعات القانونية التي انتهت إليها الانتخابات الأخيرة ربما شوهت صورة آل غور لدى الرأي العام، وهي صورة لم تكن جذابة على أية حال. خامساً أنه اختار اليهودي ليبرمان، وهو اختيار لا ينم عن ذكاء سياسي بمقدار ما يعكس ارتهاناً سياسياً وأيديولوجياً لفئة اليهود في المجتمع الأميركي. وهذه الفئة عادة ما تعطي أصواتها للحزب الديموقراطي. وبالتالي كان غور في حاجة إلى مرشح آخر من فئة أو أقليم يحتاج الحزب إلى جذب أفراده وكسب أصواتهم. الضحية الأخرى لنتيجة الانتخابات الأميركية هي قوة وهيبة النفوذ اليهودي داخل النظام السياسي الأميركي. إن فشل آل غور في تحقيق فوز حاسم في الأصوات الشعبية، وفشله في كسب المعركة القانونية في المحاكم يشكلان ضربة قوية لذلك النفوذ. بل إن هذا النفوذ في حد ذاته قد يكون هو السبب في الفشل الذي انتهت إليه حملة غور الرئاسية. وفي هذا الصدد ليس من المستبعد أن معركة الرئاسة الأخيرة كانت نوعاً من الصراع بين القوى السياسية والإقتصادية في المجتمع الأميركي، خصوصاً من ولاية تكساس، التي تعارض تزايد النفوذ اليهودي داخل النظام السياسي الأميركي، وبين القوى السياسية والمالية التي تمثل هذا النفوذ. على رغم ضخامة المصالح التي ارتبطت بالانتخابات، إلا أن نهايتها تؤكد نضج العملية السياسية، ونضج الخطاب السياسي، ومعهما متانة المؤسسات السياسية والقضائية للدولة الأميركية. وليس أدل على ذلك أنه حالما أعلن قرار المحكمة الفيديرالية تم قبوله وقبول النتيجة المترتبة عليه بصدر رحب. ومعه انتقل الخطاب السياسي للمرشحين ولكل أقطاب النظام، إلى المصالحة وتغليب الوحدة الوطنية على المصالح الحزبية. شيء آخر تؤكده انتخابات الرئاسة الأميركية لهذا العام، ولا يخص التاريخ الأميركي وحده، وإنما يخص التاريخ السياسي لكل الدول. إنه الديموقراطية عامل قوة ومتانة لمؤسسات الدولة وليست عامل إضعاف لها. وأي ادعاء عكس ذلك ما هو إلا تدليس يمارسه الذين يحتكرون السلطة تبريراً لهذا الإحتكار. تستوي في ذلك الدول التي تحصل فيها انتخابات، والدول التي لا يحصل فيها شيء من ذلك في العالم العربي. من هنا ليس مهماً أن تكون هناك انتخابات في حد ذاتها. الأهم من ذلك كيف تجري هذه الانتخابات، وكيف تنتهي، وما هي المبادئ والأسس التي تحكمها، وما مدى قدرة مؤسسات الدولة على إجراء هذه الانتخابات. وفوق ذلك ما مدى قدرة هذه المؤسسات على إدارة نتائج الانتخابات مهما كانت نتيجتها بنزاهة وحياد بما يدعم استقرار الدولة واستمرار مسيرتها. ولذا فإن ما يفرض النظر إلى الانتخابات الأميركية من زاوية دلالتها على قوة الدولة، وشرعية مؤسساتها هو ما يحصل للانتخابات في بعض الدول العربية، وغياب فكرة الانتخابات تماماً في بعضها الآخر. وبالتالي دلالة ذلك السياسية بالنسبة إلى قوة الدولة وشرعيتها. الكل يعرف أن أول ما يلفت النظر في الانتخابات العربية، الرئاسية منها أو النيابية، أنها لا تؤثر في التركيبة السياسية للدولة. الرئيس يبقى هو الرئيس مدى الحياة. والحزب الحاكم يبقى هو الحزب الحاكم. لاحظ هنا تعبير "الحزب الحاكم"، وقارنه مع تعبير "حزب الغالبية" في الأنظمة السياسية الغربية. ما هو الفرق بين مصطلح "الحزب الحاكم" ومصطلح "حزب الغالبية". الفرق أن الحزب الحاكم، مثل العائلة الحاكمة يبقى حاكماً إلى الأبد. بل إنهم في إحدى الدول العربية كانوا يسمون الرئيس الراحل "قائدنا إلى الأبد". أي أنه ليس رئيساً مدى الحياة فحسب، وإنما هو رئيس حتى بعد مماته. ولذلك تجد أن الإشارة الرسمية إليه بعد مماته تقول "الرئيس الخالد". لكن "حزب الغالبية" قد يتحول نتيجة للانتخابات إلى حزب الأقلية. هذا في الأنظمة البرلمانية. أما في النظام الأميركي فإن الحزب الذي يحتل مرشحه البيت الأبيض قد لا يكون بالضرورة هو حزب الغالبية في الكونغرس. نخرج من ذلك أن رئيس الدولة في العالم العربي، ومعه الحزب الحاكم، كل منهما في الانتخابات مرشح وحيد لخلافة نفسه. لماذا؟ لأن رئيس الدولة ومعه حزبه من الضعف بحيث لا يحتملون المنافسة، ولا يطيقون فكرة الانتخابات الحقيقية. ما حدث في الانتخابات البرلمانية في مصر قبل أسابيع خير دليل على ذلك. ومثله حدث في كل الانتخابات العربية، في سورية والعراق والجزائر، مثلاً. وآخر مسرحيات الانتخابات العربية ما حدث ويحدث في السودان هذه الأيام. لا بد أن نستثني هنا الانتخابات في الكويت وفي الأردن، ليس لأنهما يمثلان نموذجاً للديموقراطية، ولكن لأن الانتخابات في هذين البلدين الصغيرين تجري نسبياً بدرجة أوسع من الحرية، مع شيء من الشفافية والتمثيل الشعبي. ولعل صغر حجم البلدين له علاقة بذلك. هذا طبعاً عدا الدول التي لا تعترف بفكرة الانتخابات أصلاً. وهذه دول أراحت نفسها حقاً من عبء التمثيل وادعاء شيء لا وجود له. لكن يبقى أن غياب الديموقراطية، كما برهنت التجربة الأميركية، دليل على ضعف الدولة وهزال تجربتها السياسية. * كاتب سعودي