يعتبر البعض في الولاياتالمتحدة ان المعركة الانتخابية الرئاسية القادمة، العام المقبل، أضحت محسومة لتوها، اذ أكدت استطلاعات الرأي العام ان جورج دبليو بوش، حاكم ولاية تكساس ونجل الرئيس الاميركي السابق، يحظى باستمرار على غالبية أصوات الناخبين المسجلين في الحزب الجمهوري، فيما يحافظ آل غور، نائب الرئيس الحالي، على موقعه في صدارة الحزب الديموقراطي. ففوز بوش وغور على التوالي في المؤتمرين اللذين يختار فيهما كل من الحزبين مرشحه للانتخابات الرئاسية يكاد ان يكون مؤكداً. وفي المواجهة الختامية بين هذين المرشحين، تشير التوقعات الى ان بوش سينتصر، ليصبح أول رئيس للولايات المتحدة في الألفية الجديدة. إلا ان المتغيرات التي قد تؤدي الى تبديل هذه التوقعات ما زالت عديدة، والفترة الزمنية التي تفصل مرشحي اليوم عن الانتخابات في تشرين الثاني نوفمبر من العام المقبل ما زالت طويلة. وتتضح هشاشة هذه التوقعات عند تحليل طبيعة الولاء السياسي في أوساط الجمهور الاميركي. اذ لكل من الحزبين قاعدة ثابتة نسبياً تتألف من الفئات والاتجاهات ذات الارتباط بالتوجه الفكري السائد فيه، أو بالخط السياسي المهيمن عليه. فقيادات النقابات العمالية، على سبيل المثال، راسخة في تأييدها للحزب الديموقراطي، فيما يغلب على أصحاب المهن الحرة تأييد الجمهوريين. إلا أنه في ما يتعدى الأقلية ذات المصلحة الواضحة في تأييدها لأحد الحزبين، فإن الاكثرية الساحقة من الجمهور الاميركي تبقى عرضة للتقلب وفق القضايا الآنية، ونتيجة للتجاوب مع من ينجح في استقطابها من المرشحين. فهذه القابلية للانتقال من مرشح الى آخر، ومن حزب الى آخر، والعائدة الى عوامل مختلفة البعض منها دليل صحة في المجتمع الاميركي والبعض الآخر دليل سقم في نظامه الانتخابي، هي التي تقتضي ان تتحول الدورة الانتخابية الى عملية تسويق شخصيات وشعارات مختصرة، بدلاً من البرامج السياسية التفصيلية. فجورج دبليو بوش مثلاً، وهو الذي يعد نفسه لتبوء منصب الرئاسة، ما زال الى اليوم من دون برنامج انتخابي مفصل. وحجته المعلنة لافتقاده البرنامج هي انه يفضل تطويره تدريجياً في اطار الحملة الانتخابية. إلا انه لا يخفي ان تجنبه التزام توجهات معينة يعفيه من عبء مخاصمة من يعارضها في صفوف جمهور مؤيديه الواسع، والذي يضم العديدين من الذين يمنحونه الولاء وفاء لوالده أو تجاوباً مع صورته الاعلامية الطيبة، وليس نتيجة اطلاع على سياسته أو تقييم لأفكاره. فالمتغير الأول الذي قد يسقط التوقعات قد يكون استنزاف الصورة الاعلامية لمرشح ما، أو النجاح في تقديم صورة اعلامية اكثر تشويقاً لمرشح آخر. وجورج دبليو بوش قد تجاوز لتوه محنة اعلامية تتعلق بتناوله المخدرات في الماضي. فقد بدا للوهلة الأولى ان خصومه قد تمكنوا من خلال طرح هذا المو ضوع من اكتشاف موطن ضعف في خلفيته قد يتمكنون عبره من تلطيخ سمعته. إلا ان استطلاعات الرأي العام كشفت ان غالبية الاميركيين لا تعبأ بهذا الجانب من خلفية المرشح. فكادت الحملة على بوش ان تتحول، في نظر هذه الغالبية، الى حملة اضطهاد ذات نتيجة عكسية تضاعف من التعاطف معه. ولا شك ان انحسار الضجة الاعلامية والسياسية في شأن بوش والمخدرات، عائد الى حد ما الى استيعاب خصومه لفحوى هذه الاستطلاعات. وعلى رغم المناوشات الدعائية التي تعرض لها بوش، فإنه لا يزال في طليعة المرشحين كافة من الحزبين في الاستجابة الشعبية لصورته الاعلامية. ويبدو ان الخطر الوحيد الذي تتعرض له هذه الصورة مصدره اليوم باتريك بوكانان. فبوكانان الذي كان خصم جورج بوش الأب في الانتخابات الرئاسية عام 1988، والذي أطلق عليه لقب "الملك جورج" في اشارة الى كونه من النخبة الاجتماعية والمالية، مع ما يتضمنه هذا اللقب من التلميح الى نضال المستوطنين الاميركيين في حرب استقلالهم عن بريطانيا وملكها جورج الثالث في القرن الثامن عشر، يستأنف اليوم أداته الخطابية هذه، فيشير الى جورج دبليو بوش بلقب "الأمير"، رافضاً ان تتحول عملية اختيار مرشح رئاسي في الحزب الجمهوري الى "تتويج لهذا الشاب الذي تنقصه الخبرة" على حد تعبيره. فهذا الأسلوب الاستخفافي ضمناً انما الحريص حرصاً أبوياً على سلامة الحزب شكلاً، مؤهل ان يؤذي صورة بوش اكثر من حملة صريحة تستهدفه. والصورة الاعلامية هي ايضاً المسألة الشائكة التي يواجهها آل غور في مسعاه الانتخابي، اذ على رغم بعض المغامرات الخطابية مثل اعتماد الأسلوب الحماسي التبشيري الافريقي - الاميركي وعلى رغم سنوات عدة على هامش الحكم أو ربما بسبب هذه السنوات، فإن آل غور لم ينجح في توطيد صورة ايجابية قطعية في أوساط الجمهور الاميركي. ويتبين ذلك من الطبيعة الضحلة للتأييد له وفق ما تشير اليه الاستطلاعات. فغور، بحكم منصبه، يحظى بتأييد القاعدة المؤسساتية للحزب الديموقراطي، وهو مؤهل بالتالي ان يحصل افتراضياً على أصوات الناخبين الديموقراطيين. لكن منافسه بيل برادلي تمكن من إحراز تقدم ملحوظ في الأوساط الشعبية، حتى كادت حظوظ المرشحين تتكافأ في ولاية نيو هامبشير التي ستشهد أول مبارزة بينهما للحصول على ترشيح الحزب للانتخابات الرئاسية. والجدير بالذكر ان التقدم الذي حققه برادلي قائم الى حد كبير على شخصيته، لا على برنامجه الذي لا يزال في طور الإعداد. فهو، كما يصوره القائمون على حملته الانتخابية، ابن اسرة عادية وبلدة عادية من ولاية ميسوري، من العمق الاميركي، وبطل كرة السلة، والمتتبع الدائم للحال الاميركية. لكن أزمة الصورة التي يتعرض الى قدر منها كل من المرشحين الرئيسيين بوش وغور، قد تخفي واقعاً أشد خطورة داخل الحزبين الجمهوري والديموقراطي. اذ كما ان الرئيس كلينتون ونائبه غور قد سعيا الى الانتقال بالحزب الديموقراطي من واقع ارتباطه بالمجموعات ذات المصالح الخاصة الى "الوسط" السياسي والاجتماعي - الاقتصادي الاميركي، فجورج دبليو بوش يشكل كذلك تجسيداً لجهود القيادة الجمهورية في الابتعاد عن الصبغة العقائدية المحافظة اجتماعياً والتي كانت ارتبطت بالحزب الجمهوري. فكلا الحزبين، على مستوى القيادة، تحرك من موقعه باتجاه "الوسط" الساعي الى تأطير النقلة النوعية في الاقتصاد والمجتمع الاميركيين والتي فرضها الواقع العالمي الجديد. إلا ان هذا التحرك خلف وراءه مجموعات ممتعضة من تخلي حزبها عن مواقعه التقليدية. فهذه المجموعات جاهزة للتعبئة لمصلحة المرشحين الذين يفضلون التراجع عن النهج الجديد. والعديد من المرشحين الرئاسيين الجمهوريين يسعون بالفعل الى تعبئة المحافظين الاجتماعيين والدينيين عبر التشكيك بمواقف بوش. لكن الواقع ان بوش، والقيادة الجمهورية، والنهج الجديد، تمكنوا بالفعل من الإمساك بزمام الأمور داخل الحزب الجمهوري، فالمعارضة الداخلية الجمهورية الموالية هي معارضة لفظية وحسب. اما التحدي الحقيقي الذي يواجهه بوش والحزب الجمهوري فهو احتمال إقدام بوكانان على الانفصال عن الحزب والانضمام الى الحزب الاصلاحي الذي أسسه المرشح الرئاسي السابق روس بيرو. اذ من شأن هذا الانفصال ان ينتزع نسبة مئوية من الاصوات في الانتخابات الرئاسية ترجح كفة غور والديموقراطيين. ولمواجهة هذا الاحتمال، بدأ بوش بالفعل برسم ملامحه السياسية امام الملأ، معتمداً عدداً من المواقف المحافظة، مثل معارضة الاجهاض والزواج المثلي، وسط تشكيك من بوكانان بصدقية هذه المواقف ومشيراً الى ان بوش يقدم عليها بلهجة استدراكية وبصوت هامس فحسب. أما المسائل التي باشر بوش بالدعوة اليها بصوت مدو فهي التربية واصلاح نظام التمويل الانتخابي ودعم الزراعة. ففي موضوع التربية، تقدم بوش بخطة تتطرق لفشل برامج التنشئة التي تدعمها الحكومة الاتحادية، فتقضي بمحاسبة المدارس وفق نتائج الطلاب فيها، وتحويل الدعم المالى الى أولياء الطلبة بدلاً من الإدارات في حال الفشل. ولا شك ان بوش أراد طرح هذه الخطة الاصلاحية التي تحتفظ بدور للحكومة الاتحادية في مراقبة برامج التنشئة كنموذج للنهج الجمهوري الجديد، والذي يختلف عن الموقف الجمهوري القديم الداعي الى تقليص هذه البرامج أو حتى انهائها. وعلى رغم ان هذه الخطة المتواضعة لا تطال الا 2 في المئة من الاموال التي تهبها الحكومة الاتحادية للمدارس المحلية، فإن ردة الفعل في أوساط الديموقراطيين جاءت تهويلية تتهم بوش بأنه يسعى الى تقويض بنية الدعم الاتحادي للمدارس المحلية وغيرها من المؤسسات المستفيدة من البرامج الحكومية. وردة الفعل هذه، وضرورة الرد عليها، ثم الرد على الرد والسجال الحزبي وما يؤدي اليه من لامبالاة شعبية، هي تحديداً الدافع الذي حث بوش على التباطؤ في طرح أفكاره. والواقع ان الشدة في ردة الفعل الديموقراطية تعود الى إدراك ان موضوع التربية يحظى اليوم بالأولوية لدى الناخب الاميركي، وبالأولوية بالتالي لدى كل من غور وبرادلي، فلا يسع الديموقراطيين السماح لبوش بتحديد معالم طرحه. وفي موضوع التمويل الانتخابي، أعلن بوش اتخاذ خطوات عملية فورية في اطار حملته، لا سيما منها الافصاح عن مصادر كامل التبرعات التي يحصل عليها. والواقع ان الدعوة الى اصلاح نظام التمويل الانتخابي تلقى شبه اجماع في صفوف المرشحين من الحزبين، لكن الهيئات التشريعية ما فتئت تتخلف في أعقاب المواسم الانتخابية عن اقرار الاصلاحات الموعودة لأسباب وأعذار مختلفة. فالطاقة الشعبوية للدعوة الى اصلاح نظام التمويل الانتخابي تكاد ان تكون استُنزفت. ويمكن استشفاف قدر من الشعبوية والسعي الى استقطاب فئة نافذة سياسياً في تطرق بوش الى موضوع دعم المزارعين الاميركيين. بل، في هذا الموضوع وفي المسائل التي تعني المحافظين الاجتماعيين، يبدو ان التحدي الذي يشكله بوكانان يسير في اتجاه إرغام بوش والقيادة الجمهورية على عدم اهمال الفئات المرتبطة تقليدياً بالحزب الجمهوري. ويظهر بالفعل ان بوش يقتبس الاشكال الخطابية من بعض الشعارات الرئيسية التي يطرحها بوكانان، أي المحافظة الاجتماعية، والوطنية الاقتصادية، وضبط الهجرة. تبقى مسألة معارضة بوكانان لاتفاقات التجارة الدولية الحرة، فهذه المسألة غير كافية لبوكانان لتبرير إنفصاله عن الحزب الجمهوري. وإذا ارتأى بوكانان هذا الانفصال، فقد تكون حجته إفراغ الحزب الجمهوري من مضمونه المحافظ على رغم الكساء الخطابي الذي يعتمده بوش. وتمكن ملاحظة بعض أوجه التشابه بين دور بوكانان في الحزب الجمهوري ودور برادلي في الحزب الديموقراطي. فبرادلي مثلاً نال تأييد مجموعات دفاع عن البيئة تجد في انتقال الحزب الديموقراطي نحو "الوسط" خطراً يتمثل في تشجيع قطاع الاعمال لهذا الانتقال، واحتمال ان يدفع هذا القطاع الحزب في اتجاه التراجع عن المكاسب التي حققتها تشريعات المحافظة على البيئة. وفي موضوع حق الاجهاض يقف برادلي بصراحة مع الحفاظ على مشروعية هذا الحق. في وقت كان آل غور سعى الى تلطيف موقفه، أي تغليفه بضبابية ترضي طرفي النقيض. فكما حال بوش، يجد غور اليوم نفسه مضطراً الى العودة الى القواعد التقليدية للحزب الديموقراطي. لكن الاختلاف بين برادلي وغور لا يصل الى حد القطيعة التي تكاد ان تحصل بين بوش وبوكانان وذلك رغم جهود بوش في التودد لبوكانان. وقد رفض برادلي فكرة خوض المعركة الانتخابية خارج اطار الحزب الديموقراطي، فيما بوكانان يستعرض احتمال الانفصال عن الحزب الجمهوري. أي ان المكافئ لبوكانان في الحزب الديموقراطي ليس برادلي، فالقيادة الديموقراطية تمكنت من تجنب بروز حركة انفصالية في حزبها، بل، ونتيجة لتحرك الحزبين باتجاه "الوسط" قد تجوز الاشارة الى تواصل فكري وسياسي "وسطي" من خط برادلي الى خط بوش مروراً بغور. ويتضح هذا التواصل على أكثر من صعيد. ففي موضوع السياسة الخارجية، على سبيل المثال، وهو موضوع هامشي في اطار المعركة الانتخابية، لا اختلاف في المواقف بين برادلي وغور وبوش، بل هناك التزام للثوابت السائدة مع نقد عارض للتنفيذ. اما بوكانان فوحده يخرج عن الاجماع في موضوع الشرق الأوسط مثلاً، أي عن الإصرار على العلاقة المميزة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل واعتبار القدس عاصمة للدولة العبرية، ويدعو الى وقف المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدة لاسرائيل ودول الجوار. وليس من الضروري ان يؤدي التحدي الذي يشكله كل من بوكانان وبرادلي للحزبين الجمهوري والديموقراطي على التوالي الى تغيير النتائج المرتقبة في اختيار الحزبين لمرشحيهما للانتخابات الرئاسية أو في نتيجة هذه الانتخابات. ولكن، حتى اذا صحت التوقعات، فإن هذا التحدي ربما أرغم الحزبين على التمهل في التغيير الجوهري في المواقف والذي تسعى اليه كل من قيادتيهما.