أمضت المغربيّة مليكة أوفقير وعائلتها، كما تروي في كتابها "السجينة"، ترجمة غادة موسى الحسيني، دار الجديد، بيروت 2000، زهاء عشرين عاماً وراء قضبان الملك الراحل الحسن الثاني*. ولا تعني القضبان، هنا، سجناً في المعنى التقليديّ للكلمة، ولا مقاسمة مساجين آخرين زنازين أو غرفاً موصدة ليست غريبة عن مخيّلة القارئ. كان الاعتقال شبه رحلة شاقّة دارت رحاها بين أماكن وقصور وقلاع تحوّلت على مرّ الزمن والهجران ممالك جرذان وعقارب وتلوّث لا يسع قاطنها غير انتظار موته في بطء ووجع وقسوة لا رادّ لها. في الظاهر، بدت أماكن الاعتقال شكلاً من أشكال الإقامة الجبريّة، إذ شاء السجّان توقيف أفراد العائلة مجتمعين وعدم تفريق شملهم وإخفاء مصير الواحد منهم عن الآخر، كما لم يرغب في دفعهم الى اختبار حياة السجن أو التعرف الى محبوسين يقضون عقوبات مختلفة. وبالفعل، يخلو الكتاب في صفحاته الثلاثمئة والستّين تقريباً من صورة أي سجين، خلا فلسطينيّين لمحتهما بطلة الكتاب في مفرزة الشرطة في طنجة، قبل بداية رحلة الخروج الى الحرية، وقالت لأحدهما: "صبراً جميلاً. كان الله في عونك". مع ذلك، لم تقلّ تجربة آل أوفقير أسى عن كلّ المساجين، بل إن هذه التجربة تبدو أنها كانت الأفظع لعدم وجود ما يبرّرها سوى التعبير عن مرارة الملك المغربيّ الراحل وخيبته من الجنرال محمّد أوفقير الذي وثق في ولائه ونصّبه في أعلى المراكز، فبادله الحسنى بالخيانة وحاول الانقلاب عليه اثناء تحليقه في الطائرة عائداً من باريس في 16 آب اغسطس 1972، فتمّت إطاحته ولقي حتفه سريعاً بعدما أشيع أنه انتحر بخمس رصاصات. ولكن، على رغم موته، لم يستطع الملك سوى المضيّ في انتقامه، مصدّراً الأوامر الى الأجهزة الأمنيّة باعتقال زوجة أوفقير وأبنائها الستّة وبعض خادماتها وسوقهم جميعاً الى الصحراء وبئس المصير. ولم تعرف الرحمة طريقها الى هذه الأوامر. فمن بين المعتقلين، عبداللطيف، الشقيق الأصغر لمليكة والذي كان دون الثالثة حين حُرِمَ من حرّيته. تعني "أوفقير" في لغة البربر "الفقير"، إلا أن هذه لم تكن حال الجنرال محمد أوفقير الذي عاش وأسرته في رغد بسبب إخلاصه للأسرة المالكة وسهره على حماية نظامها منذ عهد العاهل محمد الخامس. قبل عام من ضلوعه في الانقلاب الذي كلّفه حياته وعرّض أفراد عائلته للبلاء. شهد قصر الصخيرات محاولة دمويّة للانقلاب قامت بها فرقتان عسكريّتان ومنيت بفشل أعقبته إثارة الشكوك في دور محتمل أدّاه محمد أوفقير من وراء الكواليس. وقيل إن علاقته بالحسن الثاني، أخذت تتردّى منذ ذلك الحين. طبعاً، يحلو لمتابع الشؤون السياسية في المغرب التذكير ببروز اسم الجنرال أوفقير في قضية استاذ الرياضيات والمعارض المغربي السابق مهدي بن بركة واختفائه عن الأنظار منذ خطفه من امام مقهى باريسي في 29 تشرين الأول اكتوبر 1965. يومذاك، وجّهت السلطات الفرنسية أصابع الاتهام الى مدير الأمن العام العقيد الدليمي ومحمد أوفقير في صفته وزيراً للداخلية، وبعد إصدار مذكرة توقيف دولية في حقهما، تمكن الدليمي من مواجهة المحاكم الفرنسية وتبرئة نفسه، وأسفر تهرّب اوفقير من القضاء الفرنسي الى حكم الأخير عليه بالسجن المؤبد. للجنرال أوفقير سيرة سياسية حافلة لا يتضمنها الكتاب إلا اقتضاباً في حواشيه وهوامشه القليلة المذَيّلة لصفحاته. الحال أن "السجينة" كتاب ينأى بنفسه عن تأريخ مثل هذه السيرة، فهو سؤال بلا إجابة عن الظلم وفيه، ولا يتعدى مروره في قضية بن بركة ومحاولتي الانقلاب التمهيد للأسباب الكامنة خلف مأساة مليكة أوفقير وعائلتها. لكن، وفي الوقت نفسه، يستشفّ القارئ، وإن بشيء من الإيجاز والإيحاء، أن معاقبة آل أوفقير استقبلت في صحراء المغرب وكأنها درس للبربر وعبرة لهم لأن الأسرة المالكة سعت دوماً الى استمالتهم والتأكيد على دورهم في تماسك الشعب المغربي ووحدته، وكان ذلك واضحاً في اتباع ملوك البلاد عرفاً يقضي باختيار الزوجات اللواتي ينعمن بحقّ إنجاب أولياء العهد من بين نساء البربر. في تكتّم شديد، وضعت مليكة اوفقير مذكراتها بمساعدة امرأة اخرى من جيلها وتعيش مثلها حالياً في باريس، الكاتبة الصحافية اليهودية التونسية ميشيل فيتوسي. لذا يحمل الكتاب اسميهما معاً، وتذكر فيتوسي في مقدمة عملها ما يمكن اعتباره تلخيصاً جيداً لشخصية "السجينة". فباستثناء تجربة الاعتقال الذي سرق منها أجمل سني عمرها، عاشت مليكة أوفقير حياتين مختلفتين داخل بيتها وفي البلاط الملكي، حيث "تبنّاها الملك محمد الخامس وهي في الخامسة وترعرعت مع ابنته الأميرة امينة لتقارب عمريهما. وحين توفّي العاهل المغربي، أخذ ابنه الحسن الثاني على عاتقه تربية البنتين. أمضت مليكة أحد عشر عاماً وراء أسوار قصر قلّما خرجت منه، فكانت سجينة الترف الملكي، وحين سُمِحَ لها بمغادرته أمضت عامين من مراهقتها في كنف أهل متنفّذين ومتمكّنين". تنسج مليكة مذكرات الفصل الأول من حياتها في أجواء هذه المقدمة، وتعيد تكوين القصر الملكي في صور عبيده وحريمه، ويختلط مناخ البذخ والتقاليد ودسائس الجواري وخبايا القصر وتصرّف سيده في ما لا يحق لغيره التصرف فيه على نحو ليس مألوفاً إلا في خيالات ألف ليلة وليلة. تذكر "السجينة" أنّ الملك محمد الخامس لم يستطع اخفاء اعجابه بجمال أمها لكنّه كبح اهواءه وأحال رغبته فيها طلباً عرضه عليها وتمنّى فيه قبولها تبنّي ابنتها مليكة ووضعها في رعايته وتربيته، فكان له ما شاء. وفي وسط مناخ الترف الذي وجدت نفسها أسيرته، لم تدر مليكة أنها أُعدّت لتكون شهرزاد "الألف ليلة وليلة" في بلادها، ولكن في مناخ آخر وفي قصر ملكيّ. فهي لم تستنفذ حياة عائلتها في الأسر بسرد ما شهدته من حكايات أثناء إقامتها بين أفراد الحاشية الملكية المغربية، بل باختراع قصص طالت طوال احد عشر عاماً من الأسْر. تدور أشهرها في روسيا القرن التاسع عشر وبطلها أميرٌ شاب وسيم، اندره اوليانوف، يثير الرعب والشرّ من حوله. الحقّ ان السينما كانت الحلم الكبير لمليكة اوفقير، وعلى رغم قصر فترة الحرية التي نعمت بها قبل قيام والدها بانقلابه المعروف إلا أنها تمكّنت من عقد صداقات مع بعض كبار النجوم والمنتجين، أمثال الفرنسي آلان ديلون والأميركي ستيوارت ويتمان، وكادت تمتهن التمثيل بعد توقيعها عقداً للظهور في فيلم أميركي لولا معرفة والدها بالأمر ومسارعته الى الاتصال بوكيل المنتجين وتوصيته بإلغاء العقد. يصلح كتاب "السجينة" لتحويله فيلماً سينمائياً، أو، الأفضل، مسلسلاً تلفزيونياً، إذ إن حياة المُعتقلين هنا تشبه تناسل الحلقات بعضها من بعض وتتابعها على المنوال نفسه. وإذا كان ثمة من تماثل مع عالم السجن، فهو يتجلّى في مصارعة اليأس واكتشاف الإيمان على الطريقة الكاثوليكية والتشبّث بفكرة "الفرار الكبير" عبر حفر نفق حتى تتحقق فعلاً ويُكتب للعائلة المغربية المنكوبة ان تلفت أنظار منظمات حقوق الإنسان وتنتزع حريتها وتخرج من الموت الى الحياة. مذكرات لا تتسع لذاكرة في تفاصيل أجادت ميشيل فيتوسي جمعها، لكنها تحتاج في المقابل إلى تشذيب ولا سيما في استطراداتها التفسيرية، علماً بأن النص لا يسعه أيضاً، وفي أكمل وجهه، أن يدّعي انتماءه الى فن الرواية، فهو يظلُّ أقرب نسباً الى التسجيل الصحافيّ للوقائع. ومن الظلم كذلك تحميل مليكة أوفقير أي موقف سياسي يتجاوز الحقوق الإنسانية، لها ولعائلتها على حد سواء. ذلك أن نصها لا يزعم إدانة للنظام القائم في بلادها أو للمؤسسة الملكية، كما لا يتوخى حثّ القراء الى كره المغرب. وليس أدلّ على هذا من نقدها لافتراءات كتاب "صديقنا الملك" الذي وضعه الفرنسي جيل بيرو عام 1991، وتسبّب بأزمة بين المغرب وفرنسا، مثلما تناول العاهل الراحل الحسن الثاني بالتشهير وأساء الى صورته بما كان من شأنه عامذاك أن يساعد آل أوفقير في حشد المزيد من المتعاطفين مع قضيّتهم لو انحازوا الى مضمون الكتاب. المهمّ أن قوة الوثيقة، التي تضعها مليكة أوفقير بين يديّ القارئ، تكمن في ازدواج حضور الأب: أبوها الحقيقي، الجنرال، وأبوها بالتبنّي، الملك. في حياتها، حاول الأب قتل أبيها بالتبني. وفي مأساتها، لم يقف العدوّ في وجهها، بل كان العدوّ كامناً في نفسها وجزءاً منها، على ما تبوح في منتهى الصراحة والشفافية. * "السجينة" في نسختها العربية غير المقرصنة، ترجمة غادة موسى الحسيني، إصدار "دار الجديد"، بيروت 2000. الطبعة الفرنسية الأولى: منشورات "غراسيه وفاسكيل" باريس 1999.