أصبح حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أخيراً الشعار الذي يلتف حوله الفلسطينيون المكافحون من أجل حقوقهم في كل مكان. ولم تطرح الشعار على جدول الاعمال الشعبي السلطة الفلسطينية، الوريث الشرعي المفترض للممثل الوحيد لشعب فلسطين، أي منظمة التحرير الفلسطينية. كما لم ترفع الشعار الجامعة العربية، ناهيك عن اولئك الذين عيّنوا أنفسهم رعاة "عملية السلام" في الشرق الأوسط. بل جاء شعار حق العودة من مختلف قطاعات المجتمع المدني الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، خصوصا التنظيمات المحلية التي تشكلت اخيراً في مخيمات اللاجئين والشتات الفلسطيني عموماً، منتزعة زمام المبادرة ومرجعة حق العودة الى مكانه الحقيقي في قلب الخطاب الفلسطيني. وفي 16 أيلول سبتمبر الماضي شهدت واشنطن ولندن تظاهرتين شارك فيهما الألوف من الناشطين للمطالبة بحق العودة. كما سارت تظاهرات مشابهة في مخيمات اللاجئين في لبنان وفي فلسطين نفسها، وذلك متزامنا مع الذكرى ال18 لمجزرتي صبرا وشاتيلا. والمرجح ان تصبح هذه التظاهرات احداثاً سنوية في مختلف المدن في انحاء العالم. احتلت قضية اللاجئين خلال معظم السنين الخمسين على بدايتها مركزاً ثانوياً في النقاش على القضية الفلسطينية في شكلها العام. وكانت الأممالمتحدة اشترطت في 1948 لقبول عضوية اسرائيل انصياعها للقرار 194 الذي ينص على حق العودة. وجددت المنظمة الدولية القرار سنوياً، لكن ارادتها للتنفيذ بقيت مشلولة. ومع بروز منظمة التحرير واندلاع الكفاح المسلح في الستينات بقيت قضية العودة مسألة انسانية متروكة لهيئات مثل "اونروا"، بدل أن تكون في قلب صراع الثوار الفلسطينيين من اجل التغلب على آثار النكبة. وافترضت نظرية الكفاح المسلح أن المشكلة ستجد حلها التلقائي مستقبلاً لدى قيام الدولة العلمانية الديموقراطية المنشودة. بعد كارثة 1967 تزايد طمس قضية اللاجئين، بل انها أوشكت ان تزول تماماً عن جدول أعمال منظمة التحرير. فقد كان الهدف الأهم بالنسبة الى المنظمة الحصول على اعتراف العالم بها ممثلة شرعية وحيدة لشعب فلسطين. النتيجة خلال الستينات والسبعينات كانت ما يشبه الاندماج بين مطلبي شرعية منظمة التحرير وحق تقرير المصير. اضافة الى ذلك فان المنظمة، بعدما اصبحت الأساس السياسي والعنصر الموحِّد للفلسطينيين الموزعين في الشتات، اعتبرت أن البحث في معاناة اللاجئين يشغلها عن القضايا "المهمة". من هنا بقيت القضية ضمن الاطار الانساني، واستعملت خصوصا لابراز منجزات المؤسسات "الاجتماعية" التابعة لمنظمة التحرير في لبنان، فيما استمر تراجع طرحها على أساس الحقوق السياسية. بعد 1972 عندما تراجعت أولوية الكفاح المسلح لصالح برنامج ديبلوماسي جديد كادت قضية اللاجئين أن تنطمس تماماً. وجاءت صيغة "الكفاح" الجديد، كما وضعتها اجتماعات القمة العربية في الجزائر والرباط والقاهرة، لتشجع منظمة التحرير على المطالبة بحق تقرير المصير في دولة فلسطينية صغيرة في الضفة الغربية وغزة. لكن الحكومات العربية طالبت بمقابل لدعمها منظمة التحرير في شكلها الجديد وبأهدافها المخففة. فقد كان على المنظمة خفض عملياتها العسكرية في شكل كبير ووقف الدعوة الى دولة ديموقراطية علمانية على كل أرض فلسطين التاريخية. "الجائزة" على ذلك كانت الدعم الديبلوماسي العربي في انحاء العالم للمنظمة، وزيادة المساعدة الاقتصادية الىها. وشكلت هذه الجهود الشغل الشاغل للفلسطينيين والعرب عموماً خلال العقدين التاليين، أي الى التوقيع على اتفاق أوسلو في 1993 . وتم خلال الفترة الغاء كل القضايا المتعلقة باللاجئين من جدول الاعمال المعلن للمنظمة. وهكذا، فان سعي المنظمة الى الاعتراف الدولي استغرق القسم الأكبر من الجهد العربي والفلسطيني، في الوقت الذي تعرضت فيه حقوق اللاجئين الى التهميش. المفارقة ان المنظمة، التي توصلت الى هدفها في ان تكون محور القضية الفلسطينية، كانت أول طرف عربي يوقع على اتفاق يلغي عملياً حقوق اللاجئين المعترف بها دولياً. بل أن المنظمة "الوطنية" الفلسطينية، التي اعترف بها العالم ممثلاً شرعياً للفلسطينيين أينما كانوا في سعيهم الى التوصل الى حقوقهم الوطنية والسياسية الثابتة، تنازلت عملياً عن حقهم في العودة. هذا الخفض لأهمية قضية اللاجئين لصالح جعل المنظمة "الممثل الشرعي الوحيد" يبدو قراراً خاطئاً من منظور الحاضر. لكن هل يمكن لرجوع قضية حق العودة بهذا الشكل القوي، بعد نحو ربع قرن من الخمود، ان يكبح من تسرع ياسر عرفات الى تسوية ضارّة؟ اللاجئون و"اتفاق بيلين - أبو مازن" بدأت اسرائيل والسلطة الفلسطينية في أعقاب "أوسلو 2" بتطوير اطار لقضايا الوضع النهائي حسب ما تطلبه "اعلان المبادىء". وتم التوصل الى اتفاق سري بين محمود عباس أبو مازن، الرجل الثاني في القيادة الفلسطينية بعد عرفات، ويوسي بيلين، مستشار شمعون بيريز، تناول قضايا الوضع النهائي، من ضمنها طرح حلول لقضية اللاجئين. لكن الاتفاق وضع جانباً بعد فشل شمعون بيريز وكتلة العمل في انتخابات ربيع 1996. وعاد الاتفاق الى الظهور بعد فشل قمة كامب ديفيد الثانية في تموز يوليو من هذه السنة، ونشرت مجلة "نيوزويك" في أيلول سبتمبر نصه الكامل. اعتبر واضعو الاتفاق المؤرخ في 13 تشرين الأول اكتوبر 1995، والمعنون "اطار للتوصل الى اتفاق للوضع النهائي بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية" ان الوثيقة تمهد الطريق ل"سلام دائم وشامل"، وان لها صفة نهائية، اذ تعلن "الغاء وابطال أي اتفاق أو اعلان أو وثيقة أو بيان يناقض اتفاق الاطار هذا". ونفترض ان الوثيقة بذلك لا تلغي قرار الأممالمتحدة 194 فحسب بل كل الآليات الدولية الأخرى التي تكرس حقوق اللاجئين، من ضمنها المادة 13 من "شرعة حقوق الانسان". وأصبح هذا الاتفاق أساساً مهماً لمجموعة من "التفاهمات" السرية التي تم التوصل اليها في كامب ديفيد في تموز وآب من السنة الجارية. وكان الرئيس بيل كلينتون بذل جهداً كبيراً في تلك المحادثات، آملا ان نجاحها سيطمس سجله الفضائحي ويضمن له مكانه في التاريخ، ثم هاجم ياسر عرفات بعنف عندما فشل في انتزاع استسلام شبه كامل منه. واذ توقفت المحادثات تماما منذ تشرين الأول اكتوبر فقد تسربت منها الى الصحافة، بما يكفي من الوضوح، الخطوط العامة لاتفاق بين الطرفين. من المفيد - الى الحد الذي يشكل فيه اتفاق بيلين - أبو مازن قسماً مهماً من "تفاهمات" كامب ديفيد 2 - ان نتفحص اشاراته الى اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون 67.7 في المئة من الملايين الفلسطينيين الثمانية في العالم ويلزم الاتفاق في القسم الأول من المادة السابعة الجانب الفلسطيني باعادة النظر بحقوق اللاجئين حسب القانون الدولي على ضوء تغيرات الواقع على الأرض منذ 1948: "في الوقت الذي يعتبر فيه الجانب الفلسطيني أن القانون الدولي والعدالة الطبيعية يكرسان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم فهو يدرك أن متطلبات المرحلة الجديدة من السلام والتعايش، اضافة الى الوقائع التي خلقت على الأرض منذ 1948، تجعل العمل بهذا الحق أمراً متعذراً. لهذا، يعلن الجانب الفلسطيني استعداده لقبول وتنفيذ سياسات واجراءات تضمن، بمقدار ما يمكننا ذلك، ضمان صالح ورفاه اولئك اللاجئين". والمؤكد ان البراغماتية وصلت في هذا الاتفاق الى بعد لا سابق له. لكن ما يثير الاستغراب حقاً هو انعدام اي قدر من التلطيف لصيغة - ما يسمونه "الغموض الخلاق" - الذي ربما سمح للسلطة الفلسطينية بتقوية موقفها التفاوضي في محادثات لاحقة. في القسم الثاني من المادة السابعة تقرّ اسرائيل ب"المعاناة المعنوية والمادية التي وقعت على الفلسطينيين نتيجة حرب 1947 - 1948"، لكن ذلك لا يجرّ على اسرائيل أية مسؤولية قانونية أو أخلاقية عن تلك "المعاناة". ويتماشى اتفاق الاطار هذا مع اتفاق "أوسلو 1"، الذي ينقل كل المسؤولية عن أضرار الاحتلال الى عاتق السلطة الفلسطينية. اذ يؤكد الاتفاق الجديد "أنها اسرائيل تقرّ اضافة الى ذلك بحق عودة اللاجئين الى الدولة الفلسطينية وحقهم في التعويض واعادة التأهيل عن خسائرهم المادية والمعنوية". هكذا فان هذه الفقرة تلغي وتبطل فعلياً حق العودة عندما تضع مسؤولية العمل به على عاتق السلطة الفلسطينية، فيما تتخلى اسرائيل عن كل مسؤولية. اضافة الى ذلك فان الاطار ينيط قضية التعويض أو استعادة الممتلكات، وهي مسؤولية اسرائيلية اخرى، ب"اللجنة الدولية للاجئين الفلسطينيين"، ومهمتها جمع الأموال وتوزيعها والبت في الخلافات على الممتلكات وتطوير "برامج للتأهيل والاستيعاب" - على أن تكون احكام اللجنة قاطعة لا تقبل الاستئناف. بكلمة اخرى، فان هذه اللجنة تحمي اسرائيل من المسؤوليات التي يضعها عليها القانون الدولي وتسعى للحصول على التعويضات من مصادر اخرى. كما انها تحمي اسرائيل من المقاضاة أمام العدالة الدولية. اتفاق الاطار هذا يضع على الدولة الفلسطينية العتيدة، على صغرها واجتزائها، والدول العربية والدول المانحة الراغبة في انهاء الصراع، مهمة القيام بمسؤوليات اسرائيل. ان في كل هذا إعاقة صارخة لمجرى العدالة. كما يستحيل على الآلية المقترحة توفير قسط معقول من الانصاف الى اللاجئين الفلسطينيين، لأن عليهم في حال العمل بها التنازل الى الأبد عن الحق في العودة الى المواطن والممتلكات، فيما أقصى ما على اسرائيل عمله السماح بعودة أقل من مئة الف لاجىء "لأسباب انسانية"، وفي ظل السلام الكامل. اضافة الى ذلك يمكن ان نستخلص من التقارير الاعلامية أن اسرائيل لن تسمح ب"عودة" اكثر من عشرين ألف لاجىء سنوياً الى الدولة الفلسطينية، ما يعني ان اكمال المشروع يتطلب قرناً ونصف قرن على الأقل. أما مطالبة اللاجئين بالتعويض فستتم تلبيتها ضمن حدود ما تتمكن اللجنة من جمعه من المال، وفي حال توفر آلية قضائية ترغب وتتمكن من العمل في نطاق قانوني ضيق كهذا. أما السابقة التي تشكلها التعويضات على المحرقة النازية، التي حصلت وتحصل عليها الهيئات اليهودية الرئيسية في انحاء العالم بالتعاون مع اسرائيل والحركة الصهيونية العالمية التي ترفدها، فلا تؤخذ بأي اعتبار في هذا السياق. وهو أمر متوقع، لأن القضية بأسرها، كما نعلم، تدور على ازدواجية المعايير. الواقع ان رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك أكد عشية مغادرته الى قمة كامب ديفيد على جوهر ما يعنيه اتفاق الاطار هذا بالنسبة الى مطالب اللاجئين. فقد كانت رسالته الى مؤيديه التي نشرتها "يديعوت احرونوت" في 11 تموز يوليو بمثابة اعلان بأن لا سلام من دون خضوع فلسطيني كامل لمطالب اسرائيل، من ضمنها كل "الخطوط الحمر" التي حددها سابقاً. جاء في الرسالة: "الفصل بين الطرفين - نحن هنا وهم هناك. القدس موحدة تحت سيادتنا. لا جيش اجنبياً غرب الأردن. بقاء اكثر المستوطنين تحت سيادة اسرائيل ضمن ترتيبات الوضع النهائي. لا اعتراف اسرائيلياً بأي مسؤولية معنوية أو قانونية عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين". * أستاذ علوم سياسية في جامعة ماساشوستس في دارتموث - الولايات المتحدة