تحدث الكاتب الروسي ايغور تيموفييف حلقة الاثنين 13/11/2000 عن اللقاء الفاشل بين كمال جنبلاط والرئيس السوري حافظ الأسد وانعكاساته على التحالفات اللبنانية في وقت اشتد التنافس على رئاسة الجمهورية بين المرشحين الياس سركيس والعميد ريمون اده، وتطرق الكاتب الى دخول الجيش السوري وتغير موازين القوى العسكرية لمصلحة "القوات اللبنانية" ونجاح الأخيرة في اسقاط النبعة ومخيم تل الزعتر. وهنا الحلقة العاشرة والأخيرة. أدى سقوط تل الزعتر إلى تعزيز مواقع "الجبهة اللبنانية" كثيرا. وتشجع قادة الميليشيات المسيحية بانتصاراتهم فشرعوا يتكلمون عن الاستمرار في الحرب حتى النصر التام. وفي 13 آب اغسطس بدأت القوات السورية قصفا مدفعيا مكثفا لمنطقة حمانا، وفي اليوم التالي أذاعت محطة عمشيت المسيحية بلاغا عن بدء القتال لتحرير جبل لبنان. ونشبت معارك ضارية بين ميليشيات "الجبهة اللبنانية" والقوات المشتركة في صنين وبسكنتا وعلى تلال الزعرور، ثم انبسطت تدريجاً في اتجاه عينطورة والمتين وبولونيا وبشلاما. وفي 16 آب استولى السوريون على حمانا بعد قصف مدفعي تمهيدي طويل الأمد فقطعوا مواصلات القوات المشتركة في منطقة عينطورة والمتين. ونشبت معارك طاحنة في الوقت ذاته على جبهة عاليه-الكحالة وفي بيروت كذلك. وكانت على أشدها هذه المرة أيضا في الوسط التجاري وساحة الشهداء. وصرح كمال جنبلاط فور سقوط تل الزعتر أن باب المفاوضات بات مقفلاً، وأعلن بداية "الحرب الشعبية". وفي 17 آب توجه إلى الخطوط الأمامية في منطقة الزعرور، وفي اليوم التالي ألقى خطابا حماسيا في مهرجان المختارة أهاب فيه بالرجال الصمود وبذل التضحيات، وأكد أن الحركة الوطنية ساعية إلى النصر في الحرب وتسلم مقاليد السلطة كاملة في البلاد. وعلى مدار شهر آب 1976 ظلت أروقة جامعة الدول العربية تخوض في موضوع عقد قمة عربية يراد لها أن تتخذ قرارات جذرية لتسوية النزاع اللبناني الذي طال أمده. وكان التباطؤ يثير استياء جنبلاط المدرك ان الوقت الذي يمر ليس في مصلحته. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقد في 20 آب وحضره عدد كبير من الصحافيين اللبنانيين والأجانب، أعلن جنبلاط ضرورة زيادة عديد قوات الأمن العربية حتى تبلغ 15 ألفا وتزويدها جميع انواع الأسلحة، بما فيها الدبابات والمدفعية الثقيلة. ويمكن أن تتكون نواة هذه القوات، باعتقاد جنبلاط، من وحدات الجيش المصري النظامية تعززها وحدات عسكرية من المغرب والكويت وتونس والصومال والعراق. وإلى ذلك يمكن إرسال آلاف عدة من المتطوعين إلى لبنان يتم اختيارهم من بين مئات الآلاف من الراغبين في التطوع في شتى أنحاء العالم العربي. وشدد جنبلاط على الضرورة الملحة لمثل هذه الحلول محذّرا من مغبة قيام "وطن قومي ماروني" في لبنان يكون أكثر خطرا من إسرائيل نفسها بمرات، على حد تعبيره.... وعلى رغم الاخفاقات العسكرية والاحتكاك المتزايد مع الفلسطينيين والخلاف مع "جيش لبنان العربي" السائر في ركابهم، ظل جنبلاط مصرا على رأيه متصورا أن إمكانات النصر لم تستنفد بعد. وفي نهاية آب انتعش لديه الأمل من جديد في مساعدات من الاتحاد السوفياتي. وتأكيدا لتلميحات السفير ألكسندر سولداتوف المتكررة أن تبدلات ملحوظة ستطرأ قريبا على موقف موسكو، وردت للمرة الاولى في بيان نشرته اللجنة السوفياتية للتضامن الأفروآسيوي في 27 آب 1976 إشارة صريحة إلى ضرورة انسحاب القوات السورية من لبنان، وإلى تأييد المواطنين السوفيات "الحازم" لوجهة نظر منظمة التحرير والحركة الوطنية القائلة بأن التسوية اللبنانية يجب أن تتم من دون أي تدخل أجنبي. إلا أن مزاج جنبلاط أخذ يعتكر أكثر فأكثر من بداية أيلول سبتمبر. وكانت تأتيه يوميا مؤشرات على العزلة المتزايدة للحركة الوطنية. فاللقاء الأول بين الرئيسين الياس سركيس وحافظ الأسد دشّن موسم تقاطر السياسيين اللبنانيين على دمشق. ففي بداية الشهر المذكور زار العاصمة السورية بيار الجميل وكميل شمعون، وعلى أثرهما زارها بالتعاقب رشيد كرامي وصائب سلام والإمام موسى الصدر والمفتي خالد حسن. وكان مفاجأة مزعجة لكمال جنبلاط تبدل موقف القيادة السوفياتية. ففي 8 أيلول 1976 نشرت "البرافدا" مقالة استنكرت فيها دخول القوات السورية أراضي لبنان، إلا أنها انتقدت في الوقت ذاته "بعض العناصر اليسارية المتطرفة داخل الحركة الفلسطينية والقوى الوطنية التي تعارض كل الاقتراحات السلمية". شعر كمال جنبلاط بالفراغ حواليه، فلاحت عليه بوادر الانفعال إلا أنه لم يتنازل عن مواقفه السابقة قيد أنملة.... وعندما اقترب موعد اداء سركيس القسم لوحظ أن الرئيس المنتخب يستعجل الأحداث. فبعد فشل المشاورات السورية-الفلسطينية في صوفر في 11-12 أيلول 1976 دعا السوريين والفلسطينيين إلى لقاء جديد في شتورا يشارك فيه هو. إلا أن جولتي المحادثات في فندق "بارك اوتيل" في 17 و19 أيلول لم تخرجا بنتيجة. وكانت المسألة الأساسية في جدول الأعمال انسحاب قوات المقاومة الفلسطينية من المواقع التي تحتلها في الجبل. ومنذ اليوم الأول من المحادثات أبدى عرفات استعداداً لسحب قواته من المناطق الجبلية بشرط أن يتم الانسحاب في إشراف جامعة الدول العربية. وتم على الفور تأليف لجنة عسكرية فلسطينية-لبنانية لوضع جدول الانسحاب الفلسطيني وتحديد مساره. ولما كان للرئيس سركيس موعد في القاهرة مع الرئيس المصري أنور السادات في 18 أيلول، تقرر إجراء الجولة الختامية من لقاء شتورا في 19 منه. التقى جنبلاط قادة منظمة التحرير في 18 أيلول وأبلغهم رفض الحركة الوطنية القاطع سحب ميليشياتها من المتن الشمالي.... استغرق لقاء شتورا في 19 أيلول أقل من ساعتين، فرفعت الجلسة من دون أن يتوصل أطرافها إلى أي اتفاق. واعتبر جنبلاط هذه النتيجة فوزا سياسيا على رغم إدراكه أن إخفاق لقاء شتورا يؤدي حتما إلى مزيد من التصلب في موقف دمشق. وهذا ما حصل بالفعل. ففي 22 أيلول تلقى الفلسطينيون إنذارا يلزمهم باتخاذ قرار في غضون خمسة أيام لسحب تشكيلاتهم المسلحة من جبل لبنان، والا فإن دمشق سترغمهم على الانسحاب بالقوة. وفي 23 أيلول جرت في فندق بارك اوتيل في شتورا مراسم تولي الياس سركيس مهمات رئاسة الجمهورية. ولم يحضر جنبلاط حفل اداء القسم. وفي اليوم التالي عقد المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية برئاسته جلسة صاغت الموقف من الإنذار السوري. وأكد المجلس رفض مبدأ البحث في القضية اللبنانية والفلسطينية قبل مناقشة القضايا القائمة بين اللبنانيين أنفسهم. وأعلن أن مسألة انسحاب القوات المشتركة من المناطق الجبلية لن تبحث إلا بالارتباط مع انسحاب الجيش السوري من لبنان، وترك الميليشيات المسيحية جميع المناطق الجبلية والساحلية المأهولة سابقا بأنصار الحركة الوطنية الذين تعرضوا للتهجير القسري.... الهجوم الاخير في نهاية أيلول 1976 أدرك كمال جنبلاط أن الفلسطينيين يكادون يرضخون لضغط دمشق المتزايد ويكفّون عن المقاومة، وعندها تغدو هزيمة ميليشيا الحركة الوطنية التي لم تتحول إلى "جيش شعبي"، كما كان يريد، مسألة أيام لا غير. ومما زاد في درامية الموقف أن الزعماء المسلمين التقليديين الذين كانوا حتى وقت قريب يعارضون التدخل السوري، انقلبوا تماما وصاروا يعلنون على الملأ تنصلهم من كمال جنبلاط مؤكدين أنه لا يمثل مسلمي لبنان كما لا تمثلهم حركته الوطنية. وكلما ضيّق السوريون الخناق تبدد توهم جنبلاط في شأن التأييد الجماهيري من جانب السكان الذين لم يعودوا، على ما يبدو، يصغون إلى دعواته المتحمسة إلى "الحرب الشعبية"، ولم يبدوا استعدادا لمزيد من التضحيات... كل ذلك لم يترك مجالا للشك في أن طاقات اليسار اللبناني في الداخل استنفدت في الحقيقة، وأن الوقوف في وجه الكارثة الداهمة يتطلب نجدة ومساعدة فاعلة من الخارج. وكان جنبلاط يرى أن العامل الإقليمي الحاسم هو استحصال موافقة عربية من دول مثل مصر والجزائر والمملكة العربية السعودية على مرابطة قوات كبيرة لها في لبنان بدلا من القوات السورية الموجودة هناك. فذلك يوفر الإمكان لحقن الدماء وتحديد مكانة الفلسطينيين في لبنان وضمانها وبدء حوار بين الأطراف اللبنانيين المتنازعين، مما يؤدي إلى إيجاد فرصة لتأليف حكومة الوحدة الوطنية والانتقال إلى تنفيذ الإصلاحات الديموقراطية. ولا يقل أهمية عن ذلك، باعتقاد جنبلاط، ما إذا وجدت وحدات عسكرية من الدول الأوروبية، وخصوصا فرنسا، في لبنان. فذلك من شأنه أن يضمن صون الحريات المدنية والتقاليد الليبرالية التي هي الشرط الضروري لإصلاح المجتمع جذريا. وظل جنبلاط يعلق كالسابق آمالا جادة على الاتحاد السوفياتي الذي لوحظت تبدلات إيجابية اخيرا في موقفه، وما كان بالإمكان تصور وقوفه متفرجا على محاولات السوريين دحر الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اليسارية. في 14 أيلول 1976 سلم عزت عبداللطيف القائم بأعمال السفارة المصرية في بيروت كمال جنبلاط دعوة رسمية من الرئيس أنور السادات لزيارة القاهرة. وكان لا بد من البحث عن سبيل لمغادرة لبنان. فمطار بيروت الدولي معطّل، والموانئ البحرية مطوقة بالسفن الحربية السورية والإسرائيلية. ولأسباب معروفة لم تعد واردة طريق دمشق التي كان يسلكها الزعماء اللبنانيون عادة إلى القاهرة. استعان جنبلاط بالفلسطينيين، فلديهم من زمان مسالك سرية إلى مصر. وبعد ظهر 26 أيلول توجه، فور انتهاء لقائه والرئيس سركيس، إلى مرفأ الجية حيث كان ينتظره أعضاء الوفد المرافق. وعلى السلم المهتزة صعد إلى متن المركب "فينيسيا". وبعد ساعة في عباب البحر أخذت سلسلة الجبال اللبنانية الخضراء تغيب عن الانظار. عند نهاية المياه الإقليمية حصل حادث كاد ان يودي بحياة جنبلاط ورفاقه. فقد تعرض المركب البطيء لنيران رشاش من زورق حربي إسرائيلي نقره بعد ذلك ب"منقاره" الفولاذي مرات عدة مخلفاً ثغراً كبيرة في أعلى هيكله الخشبي. ومن حسن الحظ أن الحادث انتهى عند هذا الحد، فوصل المركب بسلام إلى ميناء لارنكا فجر اليوم التالي. واستقل جنبلاط ومرافقوه من هناك طائرة ذات تسعة مقاعد كان الرئيس السادات ارسلها إلى قبرص، وبعد ساعة هبطت الطائرة في مطار القاهرة الدولي. نزل وفد الحزب التقدمي الاشتراكي في فندق "هيلتون" على شاطئ النيل. ومساء 27 أيلول التقى كمال جنبلاط وزير الخارجية المصري نائب رئيس الوزراء إسماعيل فهمي، وفي اليوم التالي قابل الرئيس أنور السادات الذي استحسن خطة جنبلاط للتسوية ووعده بأن يرسل إلى لبنان مجموعة من 10 آلاف عسكري ويطلب من الرئيس الجزائري هواري بومدين دعم الوحدات المصرية ب 200 دبابة.... كانت البداية واعدة تماما. ولم يعكّر تفاؤل جنبلاط ورفاقه سوى أنباء المعارك الضارية أثناء الهجوم الواسع النطاق الذي شنه السوريون فجر 28 أيلول 1976 على مواقع القوات المشتركة في المتنين الشمالي والأعلى واستخدموا فيه الدروع والقذائف الصاروخية. وتقدمت القوات السورية في اتجاهين: على محور حزّرتا - ترشيش ومحور كفر سلوان - جوار الحوز - قرنايل، والتقت في المساء عند مشارف عينطورة والمتين وطوقت ترشيش من جميع الجهات. وكانت مدفعية "الجبهة اللبنانية" تقصف طوال النهار وبلا انقطاع المواقع الفلسطينية في الزعرور وصنين، وكذلك المناطق الموصلة إلى برمانا وبعبدات.... وعلم جنبلاط أن الهجوم السوري على جبل لبنان أسفر عن انسحاب الفلسطينيين من مواقعهم في اتجاه بحمدون. وما كان بوسع قوات الحركة الوطنية القليلة العدد أن تحتفظ لوحدها بمواقعها فاضطرت هي الأخرى إلى الانسحاب. وهز جنبلاط بخاصة نبأ فاجعة بلدة صليما التي بطش الكتائبيون بالدروز فيها. وردا على العملية العسكرية السورية في جبل لبنان، دعا الرئيس أنور السادات إلى عقد قمة عاجلة في الرياض تحضرها مصر وسورية والمملكة العربية السعودية والكويت ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية. وحدد السعوديون يوم 2 تشرين الأول اكتوبر موعداً للقمة المصغرة وبعثوا إلى الرئيس حافظ الأسد دعوة رسمية للمشاركة فيها، فرفضها قائلاً أن القمة ينبغي الا تقتصر على البحث في الأحداث اللبنانية بل تتناول حلقة أوسع من مسائل العلاقات العربية وموقف العرب من إسرائيل، مما يتطلب دعوة وفد أردني أيضا إلى الرياض. وكان جنبلاط يدرك أن رفض سورية المشاركة في القمة يعود إلى رغبتها في كسب الوقت لتتمكن من دحر المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية نهائيا، ودق إسفين بينهما. فأدلى في 2 تشرين الأول 1976 بحديث إلى مجلة "روز اليوسف" القاهرية ناشد فيه الحكومات العربية أن تعقد القمة من دون الرئيس السوري.... عاد كمال جنبلاط والوفد المرافق له إلى القاهرة في 9 تشرين الأول، وفي اليوم التالي اتصل ياسر عرفات هاتفيا وأبلغه أن الجولة الأولى من المفاوضات الثلاثية في شتورا برعاية جامعة الدول العربية انتهت من دون أن تتوصل إلى اتفاق، وأن "الجبهة اللبنانية"، على حد علمه، ماضية في عزمها على إبادة فصائل المقاومة الفلسطينية في جنوبلبنان بأيدي السوريين والإسرائيليين. واتفق جنبلاط وعرفات على توجيه رسالة أخرى إلى الملوك والرؤساء العرب فورا لتوضيح الموقف ومناشدتهم أن يكونوا في هذه اللحظة المتوترة على مستوى مسؤولياتهم التاريخية الجسام. وما ان وصل جنبلاط إلى مصر حتى لمس تبدل الموقف إزاءه. فقد ظل المصريون يعاملونه بلطف وبكرم الضيافة ويلبون كل رغباته، إلا أن طلباته لمقابلة السادات باتت تواجه بأعذار حول انشغال الرئيس المصري في هذا الوقت، حتى مل جنبلاط من تلك الاعتذارات المتكررة التي تعني ببساطة أن السادات لا يريد استقباله. فأعلن نيته المغادرة إلى لبنان فورا. إلا أن مماطلات ظهرت فجأة في هذا الخصوص أيضا وسببها، كما أوضحوا له، حرصهم على سلامته. ولم تسفر عن نتيجة، الاتصالات مع السفارة السوفياتية في القاهرة. فرداً على طلب تأمين عودته إلى لبنان بواسطة السفن الحربية السوفياتية التي كانت آنذاك في البحر الأبيض المتوسط، تلقى جنبلاط رفضا رافقه كلام معسول حول التضامن المتواصل مع نضال القوى الوطنية اللبنانية.... وفي 16 تشرين الأول توجّه الرئيس السادات لحضور قمة عربية في الرياض من دون أن يلتقي جنبلاط. وفي آخر لحظة حاول عباس خلف وتوفيق سلطان دون جدوى أن يقنعا المصريين بلزوم حضور جنبلاط قمة الرياض. وردا على قولهما إن مشاكل لبنان لن تحل من دون "الحركة الوطنية"، أعرب وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي عن أسفه كونه لا يستطيع أن يفعل شيئا، ونصح لهما بالاستعانة بالفلسطينيين.... كذلك لم تسفر عن نتيجة المشاورات مع الفلسطينيين. فقد رفض ياسر عرفات اقتراحا بأن يبدي إرادة سياسية قوية ويشترط لحضور القمة العربية دعوة جنبلاط إليها. ويستنتج من ذلك أن التعاون مع الحركة الوطنية بات عبئا ثقيلا على عرفات. نشأ فراغ مطبق حول جنبلاط. وازداد إحساسه بالوحدة الخانقة عندما تكاثرت عليه النصائح بالعدول عن العودة إلى لبنان حيث يهدد الخطر حياته. وعندما عرض عليه الجميع اللجوء موقتاً، ألح عليه المصريون أن يبقى في القاهرة ووعدوه بفيلا مجانية تليق بمكانته. ونقل إليه السفير الجزائري عرضا مماثلا من الرئيس هواري بومدين. وبمغادرة السادات إلى الرياض انتهى أمد "الأسر المصري". إلا أن الوداع كان متواضعا جدا بالمقارنة مع الاستقبال. فعصر 16 تشرين الأول جاء ضابط أمن إلى الفندق وطلب من الضيوف اللبنانيين أن يحزموا أمتعتهم ويتركوها في الغرف ويلتقوا في البهو. نقل جنبلاط ورفاقه من الفندق إلى وزارة الخارجية حيث جرت لهم مراسم التوديع الرسمية في ربع ساعة. وأبلغهم الديبلوماسي الكبير الذي رافقهم أنهم سيبحرون إلى لبنان، لكن الإذاعة ستعلن، بقصد التغطية، أن الوفد اللبناني غادر بالطائرة من القاهرة إلى الرباط تلبية لدعوة العاهل المغربي الحسن الثاني. في ساعة متقدمة من الليل نقل جنبلاط ورفاقه إلى أحد أرصفة ميناء الإسكندرية. قبطان سفينة الشحن التركية غير المكيّفة لنقل الركاب تنازل عن كابينته الضيقة لجنبلاط، فيما آوى الآخرون "محشورين" في الكابينتين المتبقيتين. وبعد ثلاثة أيام من الترجح الخفيف على أمواج تشرين الواطئة، خففت السفينة سيرها ولاح الشاطئ في الأفق المنظور. "الجيّة"، قال القبطان عندما دخلت السفينة الغور واضاف: "يوصلكم القارب إلى الرصيف، في أمان الله". لقاء القمة حدث في الرياض في 18 تشرين الأول 1976ما توقعه الرئيس هواري بومدين، فتمت المصالحة بين القاهرةودمشق. وأجمع الزعماء العرب على تأييد الصيغة السورية للسلام. ونصت القرارات التي أعلنتها القمة العربية المصغرة على وقف إطلاق النار الساعة السادسة من صباح 21 تشرين الأول وتشكيل "قوات الردع العربية المشتركة"، على قاعدة قوات الأمن العربية المرابطة في لبنان، ليصل تعدادها الإجمالي إلى 30 ألفا وتخضع مباشرة للرئيس الياس سركيس. وتكلف قوات الردع العربية، وكذلك اللجنة الرباعية المكونة من ممثلي المملكة العربية السعودية والكويت ومصر وسورية، متابعة انسحاب تشكيلات الأطراف المتحاربين إلى المواقع التي كانوا يشغلونها قبل 13 نيسان ابريل 1975، وتنفيذ الفلسطينيين شروط اتفاق القاهرة لعام 1969 في غضون 90 يوما من لحظة وقف إطلاق النار. وفي 20 تشرين الأول وافق جميع أطراف النزاع - "الجبهة اللبنانية" والحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية - على وقف إطلاق النار. إلا أن جنبلاط لم يفقد الأمل نهائيا برغم اضطراره الى قبول النتائج. فالقمة المصغرة عندما حددت العدد الإجمالي لقوات الردع لم تتخذ أي قرار في شأن تركيبة تلك القوات. ذلك بأن هذه المسألة الجوهرية بالنسبة الى لبنان كان يجب أن تبحث في قمة جامعة الدول العربية في القاهرة يوم 25 تشرين الأول. وعلى أمل أن تسفر قمة القاهرة عن تقليص الدور العسكري السوري في لبنان الى درجة كبيرة أو إلغائه نهائيا بعث جنبلاط رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب قبيل افتتاح القمة دعا فيها إلى مشاركة عربية أوسع في تشكيلات قوة الردع ومرابطتها لاحقا في جميع مناطق لبنان من دون استثناء. وأعاد إلى الأذهان أن الحركة الوطنية لا تزال مصرة على انسحاب القوات السورية من البلاد. إلا أن هذه الآمال خابت نهائيا. فقمة القاهرة التي عقدت في ظل المصالحة بين الرئيسين أنور السادات وحافظ الأسد، لم تكتف بإبرام قرارات الرياض بل أعطت الضوء الأخضر للسوريين في تسوية النزاع اللبناني وأمنت صدقية لوجودهم العسكري في لبنان من خلال موافقة السلطة الشرعية المتمثلة في الرئيس سركيس عليه. وعلى رغم اعتراضات عرفات اليائسة تم تحديد حصة السوريين من قوات الردع العربية ب 25 ألف جندي .... عقب قمة القاهرة شرع الفلسطينيون في نقل تشكيلاتهم المسلحة من الجبل إلى الجنوباللبناني، وعلى أثرهم أخذت ميليشيات الحركة الوطنية تترك مواقعها. ومن 9 تشرين الثاني نوفمبر شغلت قوات الردع العربية، أو قل وحدات الجيش السوري في خُوذ الجامعة العربية الخضراء، مواقعها في عاليه وضهور الشوير وشاطئ المتن الشمالي والجنوبي، وبعد يومين أعيد فتح طريق دمشق-بيروت أمام حركة السير. وفي 14 منه دخلت قوات الردع الشوف واحتلت دير القمر وبيت الدين. وفي اليوم التالي تحركت في وقت واحد من خلده جنوبا وانطلياس شمالا وسيطرت على كل المواقع الحيوية في بيروت الغربية والشرقية. ومن منتصف تشرين الثاني دخل الفلسطينيون في اتصالات مكثفة مع القيادة السورية انتهت بالمصالحة التامة بين منظمة التحرير ودمشق، بل ودشنت مرحلة جديدة في "التعاون الاستراتيجي" في ما بينهما.... وعلى رغم مأسوية الموقف، لم يفقد جنبلاط معنوياته وظل أمام الناس كالسابق هادئا واثقا من نفسه. وليس إلا أقرب معارفه الذين خبروه سنين طوالا، يدركون مدى الطاقات النفسانية الهائلة والإرادة الصلبة التي يتطلبها ستر الألم الفظيع عن أنظار الآخرين، ألم الفشل في تحقيق الهدف الذي نذر له نفسه وكافح من أجله طوال اكثر من ثلاثين عاماً .... وإلى ذلك فإن الكثير مما حذّر منه جنبلاط في الأشهر الأخيرة بات من الوقائع اليومية. فقبل حين كان اللبنانيون يتشكون من الفدائيين الذين يفتشونهم على نحو فظ مهين على حواجز التفتيش. أما الآن فقد باتت الحواجز الكثيرة التي رفعت عليها الأعلام السورية. والأكثر إزعاجاً وإيلاماً أن وصول الوحدات العسكرية السورية ضمن القوات العربية إلى مناطق تمركزها الدائم اقترن بظهور مدنيين من الجماعات الموالية لسورية يوزعون على الأهالي المطبوعات الدعائية الصادرة عن "الصاعقة" ويتسببون في إثارة الاشتباكات والنزاعات مع أعضاء أحزاب الحركة الوطنية ومنظماتها.... وكانت تثير قلق جنبلاط واستياءه بخاصة الاستفزازات التي تكررت أواخر عام 1976 ضد عدد من الصحف والمجلات البارزة، إذ اعتبرها محاولة للقضاء على حرية الرأي التي تشكل أساس الحريات المدنية التقليدية في لبنان. ففي 15 كانون الأول ديسمبر اقتحمت فصائل سورية في قوات الردع العربية مباني جريدتي "المحرر" و"بيروت" ومجلة "الدستور"، وخلال الأيام القليلة التالية تعرضت لهجمات مماثلة جرائد بيروتية متنفذة مثل "السفير" و"النهار" و"الاوريان-لوجور" وتمركز الجنود السوريون في مكاتب "النهار" و"الاوريان" الموجودة في مبنى واحد، واخرجوا المحررين والعاملين منها ومنعوا الدخول الى المبنى والمباني المجاورة التابعة ل"النهار"، ونقلوا بعض محتويات ارشيف "النهار" الى دمشق.... وتأكيداً لأسوأ توقعات جنبلاط تصاعدت الميول المعادية للديموقراطية باطراد حتى أن رئيس الوزراء سليم الحص أعلن الرقابة على الصحف في البلاد تحت ضغط السوريين.... وكانت سرت في لبنان خريف 1976 شائعات حول خطط لتصفية كمال جنبلاط وعدد من أبرز السياسيين اللبنانيين جسدياً. وأثارت تلك الأقاويل القلق والتوتر في الاوساط السياسية، ذلك بأن اللبنانيين تعودوا من زمان أن يثقوا بالشائعات المتكررة أكثر من وثوقهم بالأخبار الموثوقة. وكان كمال جنبلاط في الصيف تلقى أولى المعلومات عن الاغتيالات السياسية التي يجري التخطيط لها، فحذّر الرأي العام من ذلك علنا في تصريح أدلى به في الأول من أيلول. وتأكد واقع تلك التحذيرات الرهيبة في انفجار سيارة "رينو" مفخخة بالديناميت ظهر 4 تشرين الثاني في حي فرن الحطب، بالمصيطبة، على مقربة من منزل جنبلاط.... إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد. فبعد شهر واحد تعرض اده لمحاولة اعتداء أخرى في باب داره منتصف ليل 11 كانون الأول 1976. ورأف به المصير هذه المرة أيضا، إلا انه أصيب بجرح طفيف في ساقه. وطفحت كأس صبر الرجل لمحاولة الاغتيال الثامنة. وعندما سلمه السفير المصري دعوة من الرئيس أنور السادات أواسط كانون الأول قبلها وسافر إلى القاهرة من دون أن يمتحن الأقدار مرة أخرى. ومن هناك هاجر إلى باريس ليقيم فيها دائماً وتقول رواية أن العميد اده قبل الدعوة المصرية اثر زيارة قام بها لمنزله مسؤول امني كبير وابلغه انه بات عاجزاً عن حمايته وينصح له بالسفر، وخصوصاً بعد تمركز وحدة سورية تابعة لقوات الردع العربية في مبنى قيد الانشاء قبالة منزل العميد في شارع اميل اده. بعد هجرة العميد ريمون اده احتل جنبلاط الخانة الأولى في "القائمة السوداء". وعلى رغم عدم ارتياحه بالطبع الى هاجس الخطر المميت الذي يتربص به فإن موقفه منه كان هادئاً نسبيا، كونه قدرياً أصلا. وكان يرد بابتسامة حزينة على إلحاح القريبين منه بأن يلتزم الحذر والحيطة، فيذّكرهم بأن الرجال من آل جنبلاط نادرا ما يموتون في الفراش. وكان سبب التوتر النفساني المتزايد يوما بعد يوم ليس التهديد بالقتل الذي لم يكن مصدره خافيا عليه، بل الوحدة المرهقة لإنسان واجه جدار سوء الفهم، واتضح له، بعد فوات الأوان، انه لم يكن في الحقيقة يمتلك حلفاء حقيقيين وأصدقاء مخلصين حتى النهاية في طريقه الطويل إلى تجسيد المبادئ العزيزة على فؤاده.... كانت الغيوم تتلبد في سمائه يوما بعد يوم. وكان هاجس النهاية الفاجعة يلاحق القريبين منه، فأخذوا يلحون عليه بمغادرة لبنان وانتظار أوقات أفضل في مكان آمن. وكان الكثير من السياسيين المعروفين هاجروا إلى أوروبا. واتصل العميد اده من باريس هاتفياً بجنبلاط وعرض عليه الانتقال إلى فرنسا حيث بالإمكان تشكيل حكومة منفى لبنانية. إلا أن الفرار من لبنان كان أمرا مرفوضا في المطلق من جانبه. وفي تكراره القول إن الرجال من آل جنبلاط نادرا ما يموتون على الفراش شيء أكثر مما يستطيع القريبون منه فهمه. كان هؤلاء في السياسة يعملون بمعايير المنفعة والجدوى والمصالح، وفي اعتقادهم أن التراجع الوقتي أو المناورة التكتيكية وسيلة صالحة لتقريب الهدف المنشود. أما جنبلاط فهو أمام خيار آخر. كان واثقا من أن الرسالة التي جاء بها ومعها إلى هذا العالم أثمن وأهم من حياته شخصياً. ولذلك ما كان بوسعه أن يتراجع أو يناور. وليس من حجة دامغة على أحقيته سوى الصمود والوقوف في وجه المصير.... في 16 آذار مارس 1977 استقل جنبلاط "المرسيدس" بصحبة مرافقيه حافظ الغصيني وفوزي شديد إلى عاليه حيث كان مدعوا الى المشاركة في اجتماع لاحدى الجمعيات. وفي الصباح، كالعادة، فرغ من كتابة افتتاحية "الأنباء" وحرر بضعة اسطر إلى صديقه الطبيب الهندي من بومباي داعيا إياه إلى لبنان لدراسة الطب الشعبي العربي. وفي الخامسة مساء كان له موعد عند طبيب الأسنان في الحمراء، فاتصل بمعاونه في بيروت جوزف أبو خليل وطلب منه أرجاء الموعد عند طبيب الأسنان إلى يوم آخر. خلال الآونة الأخيرة باتت لعبة جنبلاط المتوترة الصامتة مع الموت أمراً معتاداً تقريباً بالنسبة اليه. وكلما خيّل إليه أن الأنفاس الجليدية تقترب، وها هو يتلمسها بكل جوارحه، تراه يبتسم ساخرا، لعلمه أن الأجل لا يزال بعيداً. لكن كل شيء تبدّل في ذلك اليوم. فعندما وصلت "المرسيدس" الى مستديرة بعقلين لحقت بها سيارة "بونتياك" سبور ثم تجاوزتها من الشمال حالما خرجت من بعقلين. فأدرك كمال جنبلاط بمنتهى الوضوح أنه هذه المرة على موعد مع القدر. وعلى مقربة من دير دوريت خففت "البونتياك" سرعتها ومالت لتقطع الطريق على سيارة جنبلاط. ولم تجد نفعاً كل محاولات حافظ الغصيني للافلات منها. فلا زعيق الزمور الذي أفزع طيور غابة الزيتون ولا صرير الفرامل ولا حتى طقطقة زناد رشاش فوزي شديد الذي أدرك مصدر الخطر وتأهب للرد عليه - كل ذلك ما عاد يجدي. فسرعة المرسيدس تنخفض ببطء مهوّل. والدرب الضيق لا يتسع للاستدارة والفرار. فراحت السيارة الزيتية اللون اللماعة تنفض قطرات المطر من المقدم وتنزلق منحدرة متمايلة ذات اليمين وذات الشمال وهي تزحف صوب "البونتياك" التي اعترضت الطريق. وقفز من هذه رجال في بزات كاكية، لا ترى وجوههم من بعيد ولا الشارات على طاقياتهم. قتل كمال جنبلاط في 16 آذار قبل أن يكمل عامه الستين ب265 يوماً. وهزّت الجريمة البشعة البلاد بأسرها، حتى أن أشدّ خصومه من السياسيين لم يخفوا استياءهم حيال هذه الجريمة. صدر عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار".