} تحدث الكاتب الروسي إيغور تيموفييف حلقة الاثنين 30/10/2000 عن هزيمة 5 حزيران يونيو 1967 وانعكاساتها السياسية على التحالفات الاقليمية في لبنان الذي شهد بداية صعود المقاومة الفلسطينية. وهنا الحلقة الرابعة. نشأت في البلاد أزمة حكومية مستديمة. وفي مطلع أيار مايو 1969 تقدم كمال جنبلاط بمذكرة من 17 فقرة عرض فيها موقفه من جميع القضايا الملحة في السياسة اللبنانية. وطالب بمنح الفلسطينيين حق خوض الكفاح المسلح من الأراضي اللبنانية، ودعا إلى إقرار قانون التجنيد الإلزامي وطالب بتشكيل مجلس استشاري فلسطيني يتعاون مع السلطات اللبنانية في كل ما يتعلق بوجود الفلسطينيين في لبنان. وفي تعليقه على مذكرة جنبلاط تملص رشيد كرامي عن الإجابة الصريحة عن المسائل المفصلية، واكتفى بتبريرات عمومية فضحت ارتباكه وحيرته بعدما بات عرضة للتهجمات من اليمين واليسار. لم تسفر الاستشارات التي بدأت في نهاية نيسان ابريل لتأليف الوزارة الجديدة عن نتيجة. فالأطراف الرئيسيون في اللعبة السياسية اللبنانية فشلوا في الإجماع على قواسم مشتركة في شأن سبل الخروج من المأزق. حتى زعماء الحلف الثلاثي لم يتمكنوا من اتخاذ موقف منسق فجاءت تصريحاتهم يناقض بعضها البعض الآخر. واستنكر الرئيس كميل شمعون بطش قوات الأمن بالمتظاهرين، ووافق من حيث المبدأ على اقتراح كتلة الوسط صائب سلام وكامل الأسعد وسليمان فرنجية في شأن تنسيق العمل مع الفلسطينيين بشرط ألا يلحق ضرراً بسيادة لبنان وحرمة أراضيه، فيما جاهر بيار الجميل بموقفه السلبي من الوجود الفلسطيني المسلح، وقال إن العمليات الفدائية وما تثيره من بلبلة قد أدت إلى انسحاب رأس المال الأجنبي ولا تزال تلحق الضرر بالسياحة التي هي قطاع مهم من قطاعات الاقتصاد اللبناني. وكان موقف العميد ريمون اده أكثر تشدداً، فقد ظل مصراً على مرابطة قوات دولية على امتداد الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. في 8 أيار 1969 وصل رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات على رأس وفد رسمي إلى بيروت بعدما تلمس بما يتحلى به من حدس وحس رهيف المزايا التي توفرها له حراجة الموقف السياسي في لبنان. أجرى عرفات محادثات مع الرئيس شارل حلو وقائد الجيش العماد أميل البستاني بحضور السيد حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر. ورداً على اقتراح الجانب اللبناني في شأن الاعتراف بالوجود الفلسطيني المسلح من دون الاعتراف بحق شن عمليات فدائية عبر الحدود اللبنانية، طالب ياسر عرفات بإطلاق حرية العمل الفدائي من الأراضي اللبنانية، ورفع الحصار عن المخيمات والإفراج عن الفلسطينيين الموقوفين. ورفض مبدأ التنسيق مع الجيش اللبناني وأعلن بكل حدّة أن وجود الفدائيين على الحدود الفلسطينية في أي جزء من الوطن العربي لا يمكن أن يكون موضع مساومة، وأن المرجع الوحيد الذي يقرر شن العمليات الفدائية هو القيادة الفلسطينية للكفاح المسلح. انتهت المحادثات من دون نتيجة. وكل ما تم الاتفاق عليه هو وقف الهجمات الفلسطينية عبر الحدود موقتاً والتعاون مع الجيش في الحيلولة دون وقوع احداث مأسوية. ووفر ذلك للسلطات اللبنانية فرصة لالتقاط النفس هي بأمس الحاجة إليها لتجاوز الأزمة السياسية الداخلية. إلى ذلك، كانت الاستشارات في شأن تأليف الحكومة تواجه مأزقاً بعد مأزق. وبات الموقف ميؤوساً منه في نهاية أيار عندما وجه الرئيس شارل حلو رسالة إلى الشعب. ولم يخف كمال جنبلاط استياءه الشديد من موقف رئيس الجمهورية. كانت رسالة رئيس الجمهورية ورد كمال جنبلاط المنشوران في العدد نفسه من صحيفة "النهار" يمثلان وجهتي نظر على طرفي نقيض في شأن قضية السيادة اللبنانية. فجنبلاط يستهجن موقف السياسيين المحافظين الداعي إلى الامتناع عن أي تحرك يمكن أن تتخذه إسرائيل ذريعة لشن عمليات انتقامية ضد لبنان. وهو يعتقد أن خطط اسرائيل لضم الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني ظهرت قبل قيام حركة المقاومة الفلسطينية بكثير نتيجة نيات إسرائيل حل مشكلة مواردها المائية على حساب جيرانها العرب. ولم تكن خافية على أحد فكرة تجزئة لبنان التي ظهرت من أواخر الأربعينات. ولذا فالضمان الوحيد الكفيل بصون أمن لبنان هو، في رأي جنبلاط، انشاء جيش قادر على القتال، وتعبئة جميع السكان لحماية الحدود الجنوبية، ومساندة الحركة الفدائية للشعب الفلسطيني، والتعاون مع الأنظمة العربية التقدمية. وأي طريق آخر إنما ينطوي على خطر الانقسام الوطني وإضعاف الدولة، مما يوفر الظروف الملائمة لتنفيذ المخططات الإسرائيلية البعيدة المدى. في صيف 1969 بات واضحاً لكمال جنبلاط ان البلاد تواجه أزمة اكبر من الأزمة الحكومية. فالتناقضات العميقة في السياسة الداخلية تفاقمت مع تدهور الأحوال المعيشية للسكان وازدياد التوتر الاجتماعي. ولم يبق من عهد الرئيس شهاب ومبادراته الجريئة وخططه المدهشة سوى المكتب الثاني الذي كان لا يزال قوياً، إلا أن الفساد الفتاك استشرى في صفوفه. وكان آخر ما رافق موكب توديع الشهابية الفضيحة التي أثيرت في نهاية الصيف عندما كتبت الصحف عن محاولة قامت بها الدوائر الأمنية السوفياتية، وكشفها، المكتب الثاني، لسرقة طائرة حربية من طراز "ميراج" فرنسية تابعة للقوة الجوية اللبنانية. وأثارت الحملة التي شنتها وسائل الإعلام على السوفيات سخط الرئيس عبدالناصر. وكانت موسكو آنذاك تقدم الى مصر مساعدات كبيرة في اطار استعادة القدرة القتالية لجيشها. وكانت العلاقات المصرية - السوفياتية في أوج ازدهارها. وبتكليف من الرئيس عبدالناصر اتصل السفير المصري بالمكتب الثاني مطالباً بوضع حد فوري للحملة الصحافية التي تسيء إلى سمعة الاتحاد السوفياتي في العالم العربي. وكان كمال جنبلاط من هذا الرأي أيضاً. فبعد لقاء والسفير السوفياتي شكك صراحة في الرواية الرسمية وأكد أن الضجة المثارة إنما هي نتيجة لمؤامرة الأثر الأميركي فيها واضح للعيان. كان موقف كمال جنبلاط من الاتحاد السوفياتي، حتى بداية الستينات، متحفظاً حذراً. ففي كتاباته الكثيرة التي تتعرض للماركسية بالانتقاد، أعرب عن استهجانه للنظام الاستبدادي السوفياتي بما يلازمه من تقسيم للمجتمع طبقات، وتفضيل المادي على الروحي. وفي الخمسينات عندما غدت "الحرب الباردة" بين المعسكرين عاملاً حاسماً في السياسة العالمية لم يكن جنبلاط يفرّق بعد بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، حتى أنه وضع علامة المساواة بينهما معتبراً تنافسهما على الزعامة العالمية خطراً على شعوب الأقطار المتحررة والنامية. وفي مطلع الستينات خامرت جنبلاط أولى الشكوك في صحة هذا الموقف. فالتقارب بين القاهرةودمشقوموسكو التي صارت تعتبر صديقاً وحليفاً لحركة التحرر الوطني العربية جعله يعيد النظر في مواقفه السابقة، فيما أقنعته أحداث 1967، والمساعدات العسكرية والاقتصادية السوفياتية التي كانت الضمان لإنقاذ الأنظمة العربية التقدمية من الهلاك، بصواب وجهة نظر جمال عبدالناصر الذي وضع تطوير العلاقات مع الاتحاد السوفياتي في مرتبة الصدارة من حيث الأهمية بالنسبة إلى العرب. وكانت أول زيارة قام بها كمال جنبلاط إلى موسكو تمت عام 1965، إلا أنه أطلع على وقائع المجتمع السوفياتي بشكل أعمق في خريف 1967 حين دعي لحضور احتفالات الذكرى الخمسينية للثورة الاشتراكية وأمضى في الاتحاد السوفياتي نحو ثلاثة أسابيع متابعاً حياة الناس اليومية متفهماً حقيقة الإصلاحات الاقتصادية الجارية هناك. إلا أن التحول في الموقف من موسكو ما كان ليعني القبول بالنموذج السوفياتي للاشتراكية من دون قيد أو شرط. وعلى رغم أن التعاون الاستراتيجي مع الاتحاد السوفياتي بات موقفاً مبدئياً لجنبلاط حتى النهاية، إلا أنه لم يخف مطلقاً خلافاته مع الماركسية، بل كان يتحدث صراحة عما هو غير مقبول بالنسبة إليه. توافقت فضيحة "الميراج" زمنياً مع تأزم الموقف الداخلي مجدداً. ففي نهاية آب أغسطس حدث اشتباك بين الفلسطينيين ورجال الدرك في مخيم نهر البارد قرب طرابلس. فطوقت وحدات من الجيش المخيم، ثم حدثت قلاقل في مخيمات الفلسطينيين في الجنوب. وأدى تدخل الجيش إلى حوادث مسلحة عدة. أما محاولة قائد الجيش العماد اميل البستاني في تشرين الأول اكتوبر 1969 قطع "درب عرفات" الذي تأتي من خلاله المؤن من سورية إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، أسفرت عن اشتباكات دموية بين الجيش والفلسطينيين في الكثير من المناطق الجنوبية على مقربة من الحدود السورية. وسرعان ما اتسع نطاق الصدامات الدموية حتى شمل المناطق اللبنانية الأخرى. وسيطرت الفصائل الفلسطينية المسلحة بالكامل على العديد من المخيمات. وفي سياق المعارك الضارية تمكن الفلسطينيون والفصائل المسلمة المؤيدة لهم من تثبيت مواقعهم في بعض قطاعات المنطقة الواقعة بين راشيا وعكار. في هذا الموقف الحرج تعرّض المسؤولون في بيروت لضغوط قوية من جانب العالم العربي. فأعلنت سورية غلق حدودها مع لبنان. واستنكر العراق والجزائر واليمن الجنوبي والسودان وليبيا تصرفات الحكومة اللبنانية بمنتهى الحدة. وبناءً على نصيحة الرئيس شهاب، طلب الرئيس حلو من الرئيس المصري التوسط في الأمر. وفي 27 تشرين الأول استقل الوفدان اللبناني والفلسطيني الطائرة إلى القاهرة وجلسا فوراً إلى طاولة مفاوضات. وكانت لدى الوفد اللبناني برئاسة العماد اميل البستاني تعليمات مشددة في شأن عدم توقيع أية وثيقة رسمية تضفي شرعية على الوجود المسلح الفلسطيني. ومع ذلك، ونزولاً عند ضغوط الوسطاء المصريين، ذيّل العماد البستاني بإمضائه في 3 تشرين الثاني نوفمبر 1969 اتفاقاً حدد مكانة حركة المقاومة الفلسطينية وحقوقها في لبنان وطبيعة علاقاتها مع السلطات اللبنانية. نص اتفاق القاهرة على الاعتراف بحق الفدائيين الفلسطينيين بالوجود المسلح في لبنان و"المشاركة في الثورة الفلسطينية" بشكل "كفاح مسلح" من الأراضي اللبنانية على أن يجري "ضمن مبادئ سيادة لبنان وسلامته وعدم التدخل في شؤونه الداخلية" وبالتنسيق مع الجيش اللبناني. وخول اتفاق القاهرة الفلسطينيين حق الإشراف على مخيمات اللاجئين، على أن تستمر الدولة اللبنانية "في ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها كاملة في جميع المناطق وفي كل الظروف". وما إن بلغ كمال جنبلاط نبأ توقيع اتفاق القاهرة حتى عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه تأييده لما تم توقيعه من اتفاقات غدت، على حد تعبيره، نصراً مهماً في الكفاح من أجل حرية العمل الفدائي وإشراف الفلسطينيين على مخيمات اللاجئين. وقد أيد اتفاق القاهرة أيضاً، وإن بفتور، زعيما الحلف الثلاثي الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، وكانا عشية الانتخابات النيابية المرتقبة يخشيان أن تسوء علاقاتهما مع المسلمين. وظل العميد ريمون اده السياسي اللبناني الوحيد الذي رفض اتفاق القاهرة رفضاً باتاً واعتبره تطاولاً خطيراً على السيادة الوطنية، كما كان الشخص الوحيد الذي صوّت ضد الاتفاق أثناء عرضه على مجلس النواب. في 25 تشرين الثاني 1969، وبعد 215 يوماً على أشد أزمة سياسية، ألف رشيد كرامي حكومة حصل الحزب التقدمي الاشتراكي فيها على حقيبتين وزاريتين. فكانت لكمال جنبلاط وزارة الداخلية، ولأنور الخطيب وزارة الموارد المائية والكهربائية.... يقول الناس في العالم العربي: القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد تقرأ. ولعل الأمر كان كذلك في زمن ما، في الخمسينات مثلاً. إلا أن بيروت الستينات المكهربة سياسياً صارت تعتبر العاصمة الفكرية والثقافية للعالم العربي، وباتت تكتب وتقرأ ما تحلم به القاهرة وبغداد. وعلى رغم كل قيود الرقابة في ما يخص منع التعرض لرؤساء الدول الصديقة أو المسؤولين الكبار في البلاد، فقد وفّر الانفتاح الليبرالي اللبناني فرصاً لم يوفرها أي بلد عربي آخر للمثقفين الساعين إلى مواكبة الأيديولوجيات اليسارية والراديكالية الجديدة. في نهاية الستينات كانت لجنبلاط منزلة رفيعة جداً في أوساط السياسيين الراديكاليين والمثقفين اللبنانيين التقدميين. وكان إعجاب الشباب من المسلمين والمسيحيين بشخصيته واهتمامهم البالغ بأفكاره، يبرر القول بأنه زعيم لبناني على أوسع نطاق. وأكد كريم بقرادوني الكتائبي البارز أن كمال جنبلاط كان محبوب الطلبة في أواخر الستينات. وحتى الشباب الكتائبيون يعترفون بغناه الفكري وبدعواته إلى إعادة بناء المجتمع جذرياً. واتسعت قاعدة جنبلاط وازداد تأثيره الشخصي، وهو في منصب وزير الداخلية، بفضل العلاقات الوثيقة التي اقامها مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي رأت فيه حليفاً وسنداً رئيسيا لها في لبنان. وعندما تولى مهمات الوزارة وضع نصب عينيه ثلاث مهمات أساسية وهي: تنفيذ اتفاق القاهرة، والنضال في سبيل الحريات الديموقراطية، وتحسين العلاقات مع الأقطار العربية. وكانت المهمة الأولى الأكثر إلحاحاً. وفي نهاية تشرين الثاني 1969 أفلح جنبلاط في تحقيق انسحاب الفلسطينيين المسلحين من المواقع التي احتلوها أثناء أزمة الخريف في المناطق الشمالية والشرقية من لبنان. وبالتعاون الوثيق مع اللجنة السياسية العليا التي ألفتها منظمة التحرير الفلسطينية للتنسيق مع السلطات اللبنانية فرض جنبلاط في كانون الأول ديسمبر بعض القيود على مواكب تشييع الشهداء كيلا يرافقها إخلال بالنظام العام. وفي كانون الثاني يناير 1970 منع حمل السلاح والظهور بالبزة العسكرية الفلسطينية في الأماكن العامة، كما منع إطلاق الرصاص في الهواء تعبيراً عن المشاعر. وعلى أثر ذلك فرض حظر مشدد على إطلاق النار عبر الحدود. وصدرت التعليمات إلى الفدائيين في الجنوب بالابتعاد مسافة لا تقل عن كيلومتر عن المراكز السكنية. وفي نهاية كانون الثاني أمكن الاتفاق على مبادئ التعاون بين الفلسطينيين والسلطات اللبنانية أثناء شن العمليات الفدائية من أراضي لبنان. واعتباراً من بداية شباط فبراير ظهرت مخافر الشرطة مجدداً في مخيمات اللاجئين. وعلى رغم تقلص الحوادث المسلحة في المنطقة الحدودية اعتباراً من تشرين الثاني 1969، تشكى جنبلاط من التلكؤ في تنفيذ اتفاق القاهرة مشدداً على أن تنفيذه كاملاً يتطلب وقتاً طويلاً. وكان من أسباب ذلك غياب وحدة الرأي داخل القيادة الفلسطينية، وعجز قيادة الكفاح المسلح عن السيطرة على تصرفات الفدائيين الذين كانوا من حين الى آخر يقصفون الاراضي المحتلة بالمدفعية والصواريخ، عبر الحدود، ويظهرون بلباسهم العسكري وإسلحتهم في الأماكن التي يريدون خلافاً للمنع المفروض. ورداً على هجمات الفدائيين، شنت إسرائيل عمليات انتقامية في الجنوب استخدمت فيها المدفعية الثقيلة وسلاح الجو، مما أسفر عن فرار للسكان على نطاق واسع إلى الشمال. وراوح عدد الأهالي الذين تركوا ديارهم في أيار 1970، بحسب شتى التقديرات، بين 15 و30 ألفاً. كان الشعور المعادي للفلسطينيين يتصاعد بسرعة في الأوساط المسيحية بصرف النظر عن حجج جنبلاط وتوضيحاته القائلة إن منظمة التحرير الفلسطينية بحاجة إلى وقت لكي تتكيف والظروف الجديدة، وتحل النظام في صفوفها. وأخذ زعماء الحلف الثلاثي يتكلمون عن فشل اتفاق القاهرة وعن اخطار الوجود الفلسطيني المسلح على النظام السياسي في لبنان. واعتبر زعيم حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل اتفاق القاهرة غلطة واقترح نقل الفدائيين الفلسطينيين إلى أقطار عربية أخرى. وزادت من درجة العداء للفلسطينيين المزاعم التي تقول إن وجودهم يؤدي إلى الإخلال بالتوازن السكاني في البلاد لمصلحة المسلمين.... وحدث أول صدام خطير في 25 آذار مارس 1970 عندما نصب كتائبيون مسلحون بإمرة بشير الجميل مكمناً في بلدة الكحالة المسيحية لفلسطينيين رافقوا جثمان شهيد لهم من بيروت إلى دمشق. وخلال تبادل إطلاق النار قتل وجرح اكثر من عشرين شخصاً. وعلى أثر ذلك اندلعت صدامات متفرقة بين الكتائبيين والفلسطينيين، كما جرت في منطقة المطار معركة بين الجيش وفصائل المقاومة الفلسطينية. وفي اليوم ذاته أسر الفلسطينيون في مخفر قرب معسكر تل الزعتر بشير الجميل. وتطلبت خطورة الموقف تدخل جنبلاط شخصياً، فاتصل على الفور بياسر عرفات. وبعد ثماني ساعات من الاتصالات والمفاوضات المكثفة أمكن الإفراج عن الجميل. وبهدف توسيع الدعم الجماهيري للفلسطينيين في لبنان، دعا المجلس الوطني الفلسطيني في ربيع 1970 إلى تعزيز الاتصالات مع القوى الوطنية واليسارية التي صارت لهم حتى ذلك الحين علاقات ودية معها. وإلى ذلك كان ياسر عرفات القلق من تصاعد الميول المناوئة للفلسطينيين بين أنصار الحلف الثلاثي، يفكر جاداً في التفاهم مع أبرز السياسيين المحافظين، وفي مقدمهم الجميل وشمعون. وساقت أولى الاتصالات الدليل على صحة توقعات الزعيم الفلسطيني الذي أدرك أن السياسيين الموارنة بحاجة إلى تأييد المسلمين في عام الانتخابات الرئاسية، ولذا سيمتنعون عن تأزيم العلاقات مع حركة المقاومة الفلسطينية، بل سيحاولون خلق انطباع كأنهم يؤيدون نضال الفلسطينيين من حيث المبدأ. وهذا صحيح في ما يخص بيار الجميل الذي بدأ حملته الرئاسية في نيسان 1970، ففي خطبه وكتاباته آنذاك لم يعد يهاجم الفلسطينيين، بل اتهم بكل الخطايا والشرور اليسار اللبناني والشيوعية الدولية اللذين قال انهما استغلا قضية الشعب الفلسطيني النبيلة لمصالحهما الأنانية. ومع بداية الحملة الانتخابية وجّه الحزب التقدمي الاشتراكي انتقاداً شديداً الى الممارسات اللاديمقراطية للمكتب الثاني الذي صار في الواقع دولة داخل الدولة. وأعلن الحزب تنصله من كتل "النهج" النيابية، وكانت القطيعة النهائية مع الشهابية بالشكل الذي آلت إليه في نهاية عهد الرئيس حلو، قد صيغت في الدورة الطارئة التي عقدتها الجمعية العمومية للحزب التقدمي الاشتراكي في 12 تموز يوليو 1970. وجاء في القرار الذي صوت عليه 180 مندوباً، أن الحزب لن يؤيد بأية حال المرشحين المعروفين بعدائهم للقوى الوطنية التقدمية ولحركة المقاومة الفلسطينية. وفي نهاية الشهر المذكور رشّح الحزب رسمياً العماد جميل لحود لرئاسة الجمهورية، رداً على ترشيح الحلف الثلاثي الشيخ بيار الجميل وترشيح النهجيين الرئيس فؤاد شهاب. كان ترشيح العماد لحود الذي لم يكن يمتلك في الواقع أي فرصة للفوز، نقلة تكتيكية بالطبع من جانب جنبلاط. وأخذ مهلة وراح يتابع بمنتهى الاهتمام مناورات أطراف اللعبة الانتخابية. آنذاك لمح الرئيس شهاب أنه لن يشارك في الانتخابات إلا إذا صوّت لمصلحته ما لا يقل عن ثلثي النواب. وفي الحال أعلن الرئيس شمعون والعميد اده أنهما مستعدان للتصويت في مصلحة فرنجية. وفي 4 آب انسحب الرئيس شهاب وأعلن عشية الانتخابات عن ترشيح الياس سركيس الذي كان مديراً لمكتب الرئيس حلو معظم فترة ولايته، ثم عين حاكماً للمصرف المركزي. وفي 16 آب، قبل الانتخابات بيوم واحد، أعلنت كتلة الوسط رهانها الأخير ورشحت رسمياً فرنجية. وبقي على جنبلاط أن يحدد خياره. ولم تكن نتيجة الانتخابات الرئاسية، في أي وقت مضى، ذات أهمية حاسمة بالنسبة اليه كما هي هذه المرة. فالنفوذ الهائل الذي كسبه في عالم السياسة اللبنانية يخوله أن يأمل في توافر أفضل الظروف لمحاولة الانتقال من إصلاح نظام الحكم الحالي إلى بناء نظام سياسي جديد مبدئياً يقوم على أصول الديموقراطية والعلمانية. وقبيل تركه منصب وزير الداخلية، فاجأ جنبلاط الجميع في 15 آب بالترخيص للحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي الموالي للعراق، ومنظمة حزب البعث العربي الاشتراكي الموالية لسورية وحتى الحزب السوري القومي الاجتماعي كونه التزم جانب حركة المقاومة الفلسطينية اعتباراً من عام 1967، وفي الوقت ذاته، وعلى رغم اعتراضات الجميل، رخص جنبلاط لتنظيم سياسي جديد هو "حركة 24 تشرين" برئاسة فاروق المقدم منافس رشيد كرامي في طرابلس. وفي اليوم عينه اتصل جنبلاط هاتفياً بالعميد اده في محاولة لإقناعه بالترشح لرئاسة الجمهورية، ورفض العميد الاقتراح. وقبيل انتخاب رئيس الجمهورية زار سركيس المختارة. ولم يكن جنبلاط يميل إلى انتخاب رئيس شهابي يعتمد على قدرات الجيش والمكتب الثاني، مع أنه على علم بتأييد عبدالناصر لترشيح سركيس. تم لقاء المختارة في جو ودي هادئ. فكانت الأحكام الأساسية في البرنامج الذي عرضه سركيس تتجاوب مع مطالب الحزب التقدمي الاشتراكي الى درجة لم يجد فيها جنبلاط سبيلاً إلى الاعتراض.... بدا كأن الطرفين اتفقا تماماً. إلا أن جنبلاط لم يستعجل في قراره النهائي. فهو يريد هذه المرة أن يستوضح رأي سركيس في شأن التدابير التي اتخذها في منصب وزير الداخلية لتنفيذ اتفاق القاهرة والترخيص للأحزاب السياسية اليسارية. فهذا بالنسبة إلى جنبلاط وحلفائه اليساريين والفلسطينيين هو المعيار الرئيسي الذي يحدد موقفهم من المرشح لرئاسة الجمهورية، ولاسيما ان مسألة حرية الحزب أثارت جدلاً عاصفاً في الأوساط السياسية، ذلك بأن اليمينيين، وعلى رأسهم الجميل، يشككون في حق وزير الداخلية في اتخاذ مثل هذا القرار بنفسه، وأصروا أن ذلك من صلاحيات مجلس الوزراء وحده. وقبل اللقاء والياس سركيس زار مسؤولان بارزان في الحزب الشيوعي جورج حاوي وكريم مروة، بعد حصول الحزب على الرخصة الرسمية، سفارة الاتحاد السوفياتي في بيروت وبحثا مع السفير سرفار عظيموف في مسألة ترشيح سركيس. وخلافاً للقاهرة المؤيدة للشهابية تقليدياً، كانت لموسكو تحفظات عن الشهابيين، وهي مستاءة من تعاون المكتب الثاني مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وتفضل بالتالي فرنجية لصلته بمعارضي الرئيس شمعون عام 1958، وعلاقاته الودية الوثيقة مع السوريين. وكان زعماء الحزب الشيوعي مترددين في شأن حضور اللقاء وسركيس، يفكرون في البقاء في الظل بعض الوقت وتكليف أحد حلفائهم استيضاح موقفه من حرية العمل الحزبي. إلا أن السفير السوفياتي أصر على ضرورة مشاركة الشيوعيين بفاعلية في عملية انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. كانت "الزيارة الشكلية" التي وعد بها جنبلاط سركيس أشبه بالامتحان الذي يتعين علىه أن يجيب فيه عن أسئلة أعدها مسبقاً نائبا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي عباس خلف ومحسن دلول، أمام "هيئة تحكيمية" متحيزة ضده سلفاً ومكونة من 20 الى 25 شخصاً يمثلون جميع تلاوين اليسار اللبناني. وبعث جورج حاوي بمذكرة إلى عباس خلف طلب منه فيها أن يسأل سركيس عن موقفه من نشاط جنبلاط في تنفيذ اتفاق القاهرة وان يستوضحه رأيه في شأن صدقية قرار جنبلاط إطلاق حرية الأحزاب السياسية. ارتبك سركيس وحاول أن يتملص من الرد الصريح. وقال ما معناه إن الرئيس اللبناني لا يحكم لوحده، وثمة مسائل يعتبر حلها من صلاحيات مجلس الوزراء ومجلس النواب. فلم يقنع هذا الجواب الحاضرين، فطلب جورج حاوي الكلمة وكرر السؤال بمزيد من الوضوح والتحديد. وعاد سركيس يخوض من جديد في تعميمات كان واضحاً منها انه لن يقول ما يريده منه الحاضرون. وفي ختام الجلسة أكد كمال جنبلاط لزملائه بالفرنسية: "هذا مساعد جيد والمساعد الجيد لا يمكن أن يصبح الرجل الأول. فهو يحضّر القرار وينفذه بشكل جيد لكنه لا يتخذ قراراً". وصباح اليوم التالي نشرت جميع الصحف اللبنانية أن سركيس سقط في الامتحان. وجاء دور فرنجية، المرشح الثاني لرئاسة الجمهورية، كي يؤدي هذا الامتحان. ولم يخف السفير السوفياتي عظيموف ارتياحه عندما حدثه جورج حاوي بتفاصيل اللقاء في دار جنبلاط. وأثنى من جديد على فرنجية وتذكّر زيارة الأخير إلى الاتحاد السوفياتي، الامر الذي جعل حاوي يفكر في لقاء فرنجية ليبلغه شخصياً التأييد السوفياتي قبل أن يمثل ذاك أمام حلفاء جنبلاط في مقر الحزب التقدمي الاشتراكي. وهذا بالطبع أمر يرفع من منزلة الحزب الشيوعي في نظر رئيس الجمهورية المرتقب. وتوسط لترتيب اللقاء غير الرسمي بين حاوي وفرنجية أحد معارفهما وهو محمود طبو الذي وضع سيارته الخصوصية في تصرفهما. جلس طبو وراء مقود السيارة وجنبه كريم مروة، وفي الخلف حاوي مع فرنجية الذي ارتدى لهذه المناسبة بزة بيضاء. وعلى مدار ساعة جابت سيارة محمود طبو شوارع بيروت ببطء، وحدث حاوي فرنجية عما دار أمس في اللقاء مع سركيس، وعن الحوار مع السفير السوفياتي. ثم حذّره قائلاً: "سيسألونك الاسئلة نفسها، ويجب ان تكون مستعداً". فشكره فرنجية باسماً: "شكراً على هذه المعلومات، ولا تشغل بالك". أما اللقاء وفرنجية في مكتب الحزب التقدمي الاشتراكي بالخندق الغميق فقد تم في الاولى بعد الظهر وحضره نواب جبهة النضال الوطني وممثلو الأحزاب والحركات اليسارية وعدد من السياسيين المستقلين والصحافيين. وأدار جنبلاط الجلسة هذه المرة. فتحدث بإيجاز عن لقاء الأمس وسركيس، ووصفه بالإنسان الرشيد المتزن، والنزيه للغاية. وأعرب عن أسفه أن الرجل لم يتمكن من الرد بوضوح على السؤالين المطروحين في شأن اتفاق القاهرة وحرية العمل الحزبي. ثم خاطب فرنجية قائلاً: "ما رأيك يا سليمان بك في هذين السؤالين؟". وجاء رده في الحال: "يا كمال بك لو سألتني عن أمور ستجد في المستقبل يمكن ان أرد، أما أنت تسألني عن تجربة أثبتت نجاحها وأمّنت الاستقرار النسبي للبنان وهي تعد بخروج من الأزمة، فهذا السؤال هو تحصيل حاصل. أنا ليس فقط متمسك بهذا النهج في تطبيق اتفاق القاهرة وأصر على حرية الأحزاب، بل سأطلب منك أن تعطيني تعهداً أن تكون أكثر في وزارة الداخلية لمتابعة هذه السياسة كضمان لنجاحها، يا كمال بك هل أنت تضمن لنا هذه التدابير؟ من مصلحتنا التعاون معك، وإذا لم نتعاون ستكون هذه التدابير كالدبّور". ودوّت القاعة بالتصفيق. عندما غادر فرنجية مقر الحزب التقدمي الاشتراكي صرح للصحافيين الذين أحاطوا به من كل جانب أنه عزم على الترشح لمنصب رئيس الجمهورية نهائياً ومن دون رجعة. لم يفز أحد في الجولة الأولى من الانتخاب. وحصل العماد جميل لحود على خمسة أصوات فقط. وكانت فرصة الياس سركيس هي الأفضل 45 صوتاً، أما سليمان فرنجية فشغل المرتبة الثانية 38 صوتا. وصوّت عشرة نواب لمصلحة بيار الجميل، كما صوت نائب واحد لمصلحة زعيم حزب النجادة عدنان الحكيم الذي لم يكن يأمل في منصب رئاسة الجمهورية كونه مسلماً، إلا أن ترشيحه جاء لمجرد التحدي. وفي الجولة الثانية اتضح أن في صندوق الاقتراع مئة استمارة بدلاً من 99، فاعتبرت نتائج التصويت لاغية. وفي الجولة الثالثة كان المنطق يقتضي أن يعطي النواب المؤازرون لبيار الجميل وعدنان الحكيم أصواتهم إلى سليمان فرنجية. وفي هذه الحال يحصل على 49 صوتاً بدلاً من الخمسين المطلوبة حداً أدنى. وبالتالي يتعين على جنبلاط أن يضع في كفة سليمان فرنجية صوتاً واحداً من أنصاره، هو القول الفصل في مصير الرئاسة. السبت: حوادث الأردن ورحيل عبدالناصر. * يصدر الكتاب قريباً عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار".