في 21 كانون الثاني يناير 1976 استولى الملازم الاول أحمد الخطيب مع مجموعة من الجنود الذين انضموا إليه على ثكنة أبلح وأعلن عن تشكيل ما سمي "جيش لبنان العربي". وفي اليوم نفسه بلغ النبأ بيروت فقال كمال جنبلاط في تصريح إلى الصحافة: "حركة أحمد الخطيب ظاهرة ايجابية صحيحة تستحق الدرس". لم يعد جنبلاط يعوّل على المليشيات الإسلامية واليسارية الضعيفة التسليح والقليلة التعداد وتجاوزت تصرفات الكثير منها في ميدان النهب والسلب كل مناقبها في ميدان القتال حيث كانت عاجزة عن القيام حتى بخطوة واحدة من دون مشاركة مباشرة من الفلسطينيين. واكتشف جنبلاط كل تلك الجوانب بوضوح أثناء معارك الشوارع في خريف 1975، وخصوصا في كانون الثاني 1976 حين استعان الطرف المقابل بالجيش صراحة ولم يقف في وجه الكارثة الحربية إلا تدخل دمشق في الوقت المناسب. وإلى ذلك، لم يعد جنبلاط يطيق اعتماده المتزايد شخصيا على الفلسطينيين الذين هيمنوا على صنع القرار في جميع المسائل العسكرية ابتداء من تزويد الحركة الوطنية السلاح والذخيرة وانتهاء بإدارة العمليات الحربية.... وإدراكا منها لواقع كون التمرد في الجيش يقوي مواقع المقاومة الفلسطينية في لبنان ويوفر لها مزيدا من التأثير على قرارات الحركة الوطنية، قدمت قيادة فتح، وخصوصاً أبو جهاد، إلى الملازم أحمد الخطيب منذ الأيام الأولى معونة فاعلة ووجهت حركته من وراء الكواليس ومنحته دعما مالياً ولوجستياً. وبإعلان "الوثيقة الدستورية" سارت عملية تفكك الجيش على قدم وساق. ففي 27 شباط فبراير عاد الوفد السوري برئاسة عبدالحليم خدام إلى دمشق من دون أن يفلح في تشكيل الحكومة. وتأزم الموقف الداخلي في لبنان رأساً بعد مغادرة الوفد. ففي 4 آذار مارس طوقت وحدات جيش لبنان العربي، بقيادة الرائد أحمد المعماري، قرية القبيات المسيحية في عكار. وأثار ذلك اضطراباً بين النازحين المسيحيين في كسروان وعصياناً بين العسكريين في ثكنة صربا التي يخدم فيها كثير من أبناء عكار. وردا على ذلك انضوت تحت لواء "جيش لبنان العربي" حاميات عديدة في جنوب البلاد وشمالها. وبعدما استولت وحدات "جيش لبنان العربي" من دون قتال على بطاريات المدفعية البعيدة المدى في أرنون على مقربة من الحدود الإسرائيلية، وصل إلى بيروت على جناح السرعة وفد عسكري سوري برئاسة رئيس الاركان اللواء حكمت الشهابي. وكان واضحاً أن دمشق قلقة أشد القلق من حركة أحمد الخطيب. وفي اجتماع شارك فيه زعماء الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، تحدث رئيس الأركان السوري بلهجة بالغة الحدة موجها كلامه بالأساس إلى جنبلاط. وقال بانفعال إن مغامرا مثل أحمد الخطيب بمدفعيته الثقيلة يشكل خطراً عظيماً في منطقة الحدود مع إسرائيل. وطالب باتخاذ تدابير فورية لنزع سلاح الضابط المتمرد.... ومنذ صباح 11 آذار سرت في بيروت شائعات عن انقلاب عسكري تجري الاستعدادات له. وغذّى تلك الشائعات الخلاف الذي بلغ ذروته بين الرئيس سليمان فرنجية وكبار ضباط الجيش وفي مقدمهم قائده العماد حنا سعيد. ولم يجد قائد الجيش سبيلاً لإنقاذ المؤسسة، من التفكك النهائي سوى التعهد بالعفو التام عن كل من يعود إلى الثكن طوعا. إلا أن رئيس الجمهورية رفض قطعا توقيع مرسوم العفو وهدد بإقالة قائد الجيش. ولم تساعد مهمة الوساطة التي وصل خدام من أجلها إلى بيروت على رأس وفد سوري في التخفيف من حدة الموقف، فعاد إلى دمشق قبيل المساء تاركا الأحداث تتطور بشكل طبيعي. آنذاك لم يعد سر الانقلاب العسكري المرتقب خافيا على أحد، فراحت المصادر المطلعة تدلي بالمعلومات السخية عنه إلى كل من يطلبها. وفي الثامنة والنصف مساء وكالعادة بدأت من قنوات تلفزيونية عدة نشرة الأخبار التي يقبل عليها اللبنانيون أوسع إقبال. وتلا المذيع آخر أنباء حرب الحاميات المستمرة، والجولة الختامية من محادثات عبدالحليم خدام مع الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي، ومأدبة الغداء بالقصر الجمهوري في بعبدا تكريما للضيوف السوريين المغادرين. إلا أن النبأ المثير الذي كانت بيروت تنتظره منذ الصباح الباكر جاء في آخر النشرة حين ظهر فجأة خلف طاولة المذيع قائد منطقة بيروت العسكرية العميد الركن عزيز الأحدب الذي قرأ، بحسب أصول فن الخطابة، نص ما سمي البلاغ رقم واحد. وأعلن عن تحركه لإنقاذ وحدة الجيش والسيطرة على الموقف الداخلي المتدهور سريعاً، وطالب باستقالة رئيسي الجمهورية والحكومة وفرض حظر التجول في بيروت وحال الطوارئ في جميع أرجاء البلاد. وناشد العميد الأحدب الذي سمى نفسه الحاكم العسكري الموقت للبنان، النواب أن ينتخبوا في غضون سبعة أيام رئيساً جديداً للجمهورية يباشر تأليف حكومة جديدة حالما يتولى مهمات الرئاسة. وعلى رغم هزليته، أربك الانقلاب التلفزيوني الأوساط السياسية وأثار الكثير من التساؤلات. ولم يكن خافيا أن كل ما يمتلكه العميد المتمرد مساء 11 آذار يقتصر على الاستوديو التلفزيوني في تلة الخياط وثلاث مدرعات تقف عند مدخل مبنى قيادة منطقة بيروت العسكرية. أما الوحدات المرابطة في العاصمة التي فر منها نصف جنودها، فيما تأهب النصف الثاني للفرار في أول فرصة سانحة، فمن المستبعد أن تعتبر قوة قادرة على دعم الديكتاتور. وسرت شائعات أن الفلسطينيين يسندون الانقلاب، وتحديداً منظمة فتح التي يحرس رجالها مبنى الاستوديو التلفزيوني. وبدت على مقدار كبير من الإقناع الرواية القائلة أن الانقلاب تزعمته قيادة الجيش لكنها لم تظهر في دائرة الضوء لأسباب معروفة. وإضافة إلى الفلسطينيين أشار البعض إلى أصابع مصرية، وإلى نشاط تخريبي نسب إلى الملحق العسكري الاميركي الذي كان يتردد بانتظام على مبنى الأركان العامة، وإلى مشاركة سفارات أجنبية أخرى في المؤامرة. ويشكك كثيرون في عدم دراية السوريين بالانقلاب، فلهم مصادر إعلامية أمينة في الأوساط العسكرية اللبنانية. ولم يسلم من شبهة الاشتراك في الانقلاب حتى جنبلاط الذي ادعت الشائعات انه شوهد قبل ساعتين من الحدث برفقة ضباط في الجيش في بناية قريبة من أركان المنطقة العسكرية. وقرابة منتصف ليل 11 آذار 1976 أخذ أبرز السياسيين اللبنانيين يدلون الواحد تلو الآخر بتصريحات حددوا فيها موقفهم من "تظاهرة" العميد الأحدب التلفزيونية. فقد رفضها كميل شمعون وبيار الجميل قطعا بصفتها محاولة لاشرعية منافية للدستور، فيما أيدها بالكامل الكثير من الأحزاب والمنظمات الإسلامية والمسيحية. والاهم أنها حظيت بالتعاطف من أوساط عسكرية تحمست لها. وجاء موقف جنبلاط متميزاً تماماً. ففي أول رد فعل له على الحادث، أذيع في ساعة متقدمة من الليل، أعلن رفضه المبدئي للانقلابات العسكرية التي تهدد الحقوق والحريات الديموقراطية. واستنكر الشكل اللادستوري الذي لجأ إليه العميد الركن عزيز الأحدب لإيصال مطالبه إلى الشعب، لكنه أيد تلك المطالب تماماً في جزئها المتعلق باستقالة رئيس الجمهورية.... ظلت بيروت يوم 12 آذار في انتظار استقالة رئيس الجمهورية. وتواردت على العميد الأحدب بلا انقطاع برقيات التأييد من أرجاء لبنان. فأعربت عن تأييدها له أحزاب وحركات كثيرة ومؤسسات حكومية ومنظمات اجتماعية وشخصيات سياسية ورجال دين وبعض وحدات الجيش والدرك. وفي ثكن العاصمة التي كانت حتى الأمس يسودها الخمول والعزوف عن أداء الخدمة، تعالت الخطب الحماسية وراح الجنود يناقشون بانفعال آخر بيانات القيادة التي طالبت بالعفو العام وتأليف حكومة فورا. ومنذ الصباح الباكر تزاحم الناس في دار جنبلاط: زعماء الأحزاب اليسارية والنواب والسياسيون ومسؤولو الحزب التقدمي الاشتراكي والعامة من أعضائه. وبعد مكالمة هاتفية مع قائد الجيش أبلغ جنبلاط الحاضرين بآخر أخبار الوضع في البلاد. وبدأ اجتماع الحركة الوطنية في الحادية عشرة بمداولات حماسية صاخبة استمرت أكثر من ساعتين ونصف ساعة وأسفرت عن بيان اجماعي أهم مطالبه استقالة فرنجية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وإصدار مرسوم العفو العام وإصلاح الجيش طبقا ل "البرنامج المرحلي"، وكذلك إلغاء حال الطوارئ ورفع حظر التجول فورا. وجاء رفض سمان فرنجية الاستقالة قطعا ليؤكد مخاوف جنبلاط من أن حل الموقف بالطرق السلمية غير ممكن. وفي 12 آذار طرح في المداولات مع أقرب أنصاره بإصرار الفكرة القائلة أن الصيغة اللبنانية للثورة الفرنسية الكبرى قد تتطلب حملة على فرساي واقتحام التويلري.... ولم يلتفت جنبلاط إلى النصيحة بالتريث وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، فتوجه ليلة 12-13 إلى شتورا والتقى هناك الملازم أول الخطيب وبحث معه طوال ساعات عدة إمكان القيام بعملية عسكرية ضد قصر الرئاسة. وإلى ذلك كانت الأوساط السياسية تخوض مناقشات في شأن المرشحين المحتملين لتولي مهمات رئيس الجمهورية. ومع أن تلك المناقشات تطرقت إلى أسماء بيار اده وجان عزيز وميشال الخوري وبيار الحلو والياس سركيس ومنوال يونس، إلا أن المرشح الوحيد الذي يمكن أن يحظى بتأييد المؤسسة السياسية الإسلامية والأحزاب الوطنية والتقدمية وحركة المقاومة الفلسطينية وأوساط واسعة من الرأي العام المسيحي هو دون ريب العميد ريمون اده. وفي 13 آذار وقّع 67 نائبا عريضة تناشد الرئيس فرنجية الاستقالة. وكان بين الموقعين جنبلاط وجميع أفراد كتلته النيابية. وكان هؤلاء قاطعوا جميعا مجلس النواب وحالوا دون اكتمال النصاب فيه، إلا أنهم هذه المرة حضروا الى المجلس واوفدوا مجموعة منهم على رأسهم عادل عسيران، إلى بعبدا ليقابلوا الرئىس فرنجية ويطالبوه بأن يتنازل طواعية قبل أن يتسلم العريضة رسمياً. إلا أنه رفض طلبهم قطعاً.... وفي اليوم التالي أعلن العميد الأحدب بصيغة الانذار انه سيضطر إلى حسم مسألة الرئاسة بقوة السلاح إذا لم يبت موضوع استقالة الرئىس بالطرق السياسية في القريب العاجل. وكانت الأوساط العسكرية تعتقد أن تلك مجرد مراوغة، فليس لدى الأحدب القوة والوسائل اللازمة لتنفيذ انذاره. إلا أن جنبلاط رتب ليلة 13-14 آذار لقاءً بين الأحدب والخطيب في كتمان شديد. وفي 15 آذار أعلن رسمياً أن نتيجة المفاوضات هي قرار السعي معا الى اقالة رئيس الجمهورية وتوحيد الجهود لترميم الجيش. كان الاتفاق على التعاون بين حركة الأحدب الإصلاحية و"جيش لبنان العربي" نصراً مهماً لجنبلاط. فقد صار بوسع الحركة الوطنية أن تأمل فعلا بتأييد قوة عسكرية كبيرة تقدر بآلاف عدة من الرجال المسلحين بالدروع والمدفعية وحتى الدبابات. وكان جنبلاط واثقاً من أن جميع وسائل الضغط السياسي استنفدت، وان استقالة رئيس الجمهورية لن تتم إلا بالحرب. وهو يرى أن الوضع الثوري في البلاد نضج ووفر للحركة الوطنية فرصة نادرة للحسم العسكري بوثبة سريعة واحدة، فتتمكن من تحقيق الإصلاحات الديموقراطية بالاعتماد على دعم الغالبية الساحقة من اللبنانيين. وفي 14 آذار تحركت وحدات "جيش لبنان العربي" من وادي البقاع واحتشدت في منطقتي صوفر وعاليه على مقربة من القصر الجمهوري. وفي اليوم التالي باتت عاليه حيث اجتمع زعماء أحزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، أشبه بمقر لجيش مقاتل يتأهب للمعركة الحاسمة. ولعل الملازم الاول الخطيب، وهو يصدر أوامره الأخيرة بحماسة، كان يتصور نفسه كنابوليون قبيل معركة طولون. خيّم السكون والقلق على قصر الرئاسة في انتظار الهجوم. ومنذ الصباح كان فرنجية، وأصابعه تعبث بالمسبحة في انفعال، يجوب غرفة الاستقبال في جناحه في الطبقة الثانية ويطالب مرة كل عشر دقائق بتقرير عن تحركات المتمردين. وفي تلك الأثناء عقد الرئيس حافظ الأسد اجتماعاً طارئاً في دمشق حضره عبدالحليم خدام وناجي جميل وحكمت الشهابي. وتم في الحال تنفيذ قرارهم باستخدام القوة لمنع إطاحة الرئيس فرنجية. وما إن تلقت وحدات جيش التحرير الفلسطيني و"الصاعقة" أمراً من دمشق حتى تحركت معترضة قوات "جيش لبنان العربي" وقطعت الطريق عليها عند المفترق غرب الكحالة وعلى مشارف خلدة وأرغمتها على التوقف. تلقى جنبلاط نبأ تدخل السوريين المفاجئ الذي حال دون الهجوم على بعبدا وهو في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية في عاليه وأخرجه عن طوره لبعض الوقت.... وفي اليوم ذاته قرر السوريون إجراء مفاوضات عاجلة في دمشق يشارك فيها رشيد كرامي والأحدب والخطيب وياسر عرفات وزهير محسن ونايف حواتمة بالإضافة إلى وفد عن الكتائب ضم جورج سعادة وكريم بقرادوني. وبالطبع دعا السوريون جنبلاط أيضا إلا انه رفض المشاركة في المفاوضات متحديا دمشق للمرة الاولى على المكشوف.... واضطر الرئيس حافظ الأسد الى إرجاء زيارته لفرنسا بسبب تفاقم الموقف في لبنان. وطرح في مفاوضات دمشق شعار "لا للعنف" وأكد لجميع المشاركين في اللقاء بمنتهى الحدة أن سورية لن تسمح بالحسم العسكري للنزاع اللبناني بأي حال. وبنتيجة مفاوضات دمشق والاتصالات الهاتفية الكثيفة مع ممثلي شتى القوى السياسية في لبنان، تمكن السوريون من وضع صيغة للخروج من المأزق ترضي، في اعتقادهم، جميع أطراف النزاع وتساعد على إحياء مبادرتهم السلمية في لبنان. ونزل الرئيس فرنجية عند ضغوطهم فوافق على إجراء تعديل على الدستور يتيح إمكان إجراء الانتخابات الرئاسية في غضون ستة اشهر قبل انتهاء ولايته ووعد باتخاذ الخطوات اللازمة للاستقالة الدستورية فور انتخاب خليفة له. إلا أن جنبلاط لم يقبل بأية مساومات لا تعني سوى العودة إلى التسوية على أساس "الوثيقة الدستورية"، فظل يطالب باستقالة فرنجية من دون قيد أو شرط. وصار يعلن صراحة أن الحسم العسكري وحده يهيئ الظروف للحل السياسي. وفي 20 آذار، قبل يوم واحد من بدء الهجوم الواسع على مواقع المليشيات المسيحية اليمينية، أعلن جنبلاط عن تأسيس "جيش فخرالدين" الذي كانت جميع القوى الوطنية "من زغرتا حتى جزين" ستنضوي تحت لوائه كما يأمل.... ولم يكن ثمة إجماع بين زعماء المقاومة على جدوى مشاركة التشكيلات المسلحة الفلسطينية في العملية الهجومية في الجبل. إلا أن إصرار جنبلاط الذي أعلن أنه لن يتراجع عن قراره مهما تكن الظروف حمل قيادة منظمة التحرير في النهاية على تأييد المبادرة العسكرية. وادعت رواية افتراضية طرحها بعض زعماء الحركة الوطنية السابقون أن الفلسطينيين هم الذين "ورطوه" في حرب الجبل التي كان يرفضها بشدة على حد زعمهم. إلا أن تصريحات جنبلاط نفسه تفنّد تلك الادعاءات.... كان قرار جنبلاط في شأن نقل الحرب إلى الجبل نابعا من رغبته في الإسراع بحل النزاع الذي اتخذ في بيروت صفة حرب موضعية ومواقعية مدمرة لم يتمكن أي جانب من تحقيق تفوّق حاسم فيها. وكان من العوامل التي دفعته إلى ذلك القرار التقولات التي انتشرت حتى في الحركة الوطنية وزعمت أن جنبلاط يفضل القتال بأيدي الغير في العاصمة كي يبعد شرور الحرب عن الدروز. في 21 آذار 1976 شنت تشكيلات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية بالاشتراك مع وحدات "جيش لبنان العربي" هجوما في بيروت والجبل في وقت واحد. ففي ليلة 21-22 آذار تمكنت القوات المشتركة لفتح والجبهة الشعبية القيادة العامة بزعامة احمد جبريل والمرابطون والاتحاد الاشتراكي العربي، بدعم آليات "جيش لبنان العربي" ومدرعاته، من إخلاء الكتائب من مواقعهم المحصنة في فندق "هوليداي إن" واحتلال مبناه. وبعد سقوط ال"هوليداي إن" نشبت معارك ضارية على جبهات المواجهة في الشياح - عين الرمانة، الحدث - الليلكي، بدارو - ثكنة المصالح، الناصرة - السوديكو. وأسفر تبادل نيران المدفعية الثقيلة والبعيدة المدى بين شطري بيروتالشرقية والغربية عن احداث تدمير كبير ووقوع ضحايا بين المدنيين العزل. ومنذ اليوم الأول التهمت النيران مبنى السرايا الكبيرة المشيدة في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وكانت منذ عام 1943 مقراً للحكومة اللبنانية. ومساء 22 آذار بدأت مدفعية القوات المشتركة قصف قصر الرئاسة في بعبدا من منطقة المطار الدولي في خلدة. وفي الجبل شملت العمليات الحربية منطقة شاسعة من عاليه والكحالة حتى ضهور الشوير وبكفيا. وتعرضت لقصف المدفعية بيت مري وبرمانا وبعبدات. وفي ايام عدة من المعارك الطاحنة تمكنت القوات المشتركة من احتلال المتين وعينطورة واتخذت لها مواقع راسخة على خط يبعد بضعة كيلومترات عن بكفيا معقل الكتائب. ورافق احتلال المناطق السكنية بطش ونهب وسلب أسفر عن نزوح الكثير من الأهالي. وفي نهاية الأسبوع الأول من الحملة بات موقف مليشيات "الجبهة اللبنانية" عصيبا في معظم قطاعات المواجهة. وأصاب الذعر السكان الموارنة، وخصوصاً بعد الأنباء التي قالت إن الرئيس سليمان فرنجية غادر قصره في بعبدا وانتقل إلى زوق مكايل صباح 25 آذار 1976.... شددت سورية ضغوطها على جنبلاط منذ الأيام الأولى لحرب الجبل في محاولة لإقناعه بالموافقة على وقف إطلاق النار. وحالت العمليات الحربية دون عقد جلسة لمجلس النواب بهدف تعديل الدستور على نحو يتيح انتخاب رئيس الجمهورية قبل الأوان، مما هدد مخطط التسوية السوري بل وحط من سمعة سورية في لبنان. وإلى ذلك فإن مهمة العقيدين محمد الخولي وعلي المدني مبعوثي الرئيس حافظ الأسد المكلفين تحقيق وقف لإطلاق النار تعثرت نظراً الى تصميم جنبلاط على مواصلة الحملة. وفي تلك الأيام واجه جنبلاط كل الضغوط الممكنة، من تهديد قيادة "الصاعقة" باحتلال عاليه، إلى المحاولات الملحة التي بذلها ياسر عرفات للتخفيف من حدة التوتر المتصاعد بين جنبلاط ودمشق. ووجد عرفات نفسه بين مطرقة دمشق وسندان جنبلاط فاضطر إلى تولي دور الوساطة المحرج. وبفضل تلك الوساطة وجهت القيادة السورية في 26 آذار دعوة رسمية إلى جنبلاط لزيارة دمشق وعقد لقاء شخصي والرئيس حافظ الأسد. إلا أن خلافات نشأت في الحركة الوطنية حول الموضوع. فقد سعى زعماء بعض الأحزاب إلى إقناع جنبلاط بمواصلة الحرب حتى الانتصار التام لوضع دمشق أمام الأمر الواقع. وأكدوا أن سورية لن تجرؤ على مهاجمة الفلسطينيين والمسلمين، فالشعب السوري والأقطار العربية لن يسمحوا لها بذلك. وكان مغايرا لهذا الموقف رأي الحلقة الأقرب إلى جنبلاط مثل محسن إبراهيم وجورج حاوي ومحسن دلول وتوفيق سلطان الذين يدركون مغبة القطيعة التامة مع السوريين وأخطارها. ولعلمهم بأن جنبلاط لن يوافق في الظروف الحالية أبدا على وقف إطلاق النار، فقد توقعوا أن المحادثات يمكن أن تسفر عن خلاف جدي خطير، ولذلك أجمعوا على إقناعه بإرجاء السفر إلى دمشق حتى حصول أوقات أفضل. إلا أنه قرر السفر بعدما استمع إلى كل الحجج والاعتراضات. وكان واثقا في قرارة نفسه من أنه سيتمكن خلال التفاهم الشخصي من إقناع الأسد بصواب موقفه، بل كان يأمل حتى في الحصول من السوريين على المدفعية الثقيلة التي هو بأحوج ما يكون إليها لبلوغ النصر في حرب الجبل. وفي ساعة مبكرة من صباح 27 آذار توجه جنبلاط إلى سورية ومعه عباس خلف ومحسن دلول. في الجبال برد غير معتاد في مثل هذا الوقت. وعلى رغم التدفئة في السيارة غطى جنبلاط ذقنه منكمشاً في طيات الكوفية الفلسطينية البيضاء الحمراء الملفوفة على رقبته، فهو لم يشف بعد من الاستبراد الشديد الذي ألم به قبل حين. كان مرهقاً بالمرض وبتوتر الأعصاب في الأيام الأخيرة، فبدا نحيلاً مكفهر الوجه بعينين محتقنتين من السهاد المتواصل. بدأ اللقاء بين جنبلاط والأسد ظهراً. وفي ما بعد قال عباس خلف ومحسن دلول اللذان حضراه، إن الرئيس السوري استقبل وفد الحزب التقدمي الاشتراكي بمنتهى الحفاوة، وان الجو الودي الذي بدأت فيه المحادثات كان يعطي مبرراً كبيراً للأمل في نجاحها. عرض جنبلاط أمام الرئيس الأسد على مهل وبالتفصيل رؤيته للموقف في لبنان، وتوقف خصوصا عند الأسباب التي جعلت الحسم العسكري، في اعتقاده، أمراً لا مفر منه. استمع إليه الرئيس السوري بمنتهى الانتباه، وكان يومئ برأسه موافقا على كل فكرة تحظى بالقبول، ويعترض بالحجة والبرهان على كل ما يبدو غير مقبول أو موضع جدل وخلاف. وبدا كأن اللقاء سيختتم بالروحية الهادئة. ولكن ما إن تطرق الطرفان إلى الموضوع الأكثر حدة وإيلاماً بالنسبة لهما، ونعني حرب الجبل، حتى توتر الحوار وأصر كل من الجانبين على وجهة نظره، وتحول الكلام تدريجاً إلى جدل حاد للغاية. أخذ الجو يتأزم. فترك جنبلاط مقعده منفعلاً مرات عدة، إلا أنه كان يعود ويجلس ثانية. ومرت ساعة ونصف ساعة أو ساعتان في هذا الجو المكهرب. وأخيراً نهض بعدما أدرك، على ما يبدو، عدم جدوى مواصلة التراشق بالألفاظ، وهمّ بالانصراف إلا أن الرئيس الأسد قطع عليه الطريق وقال باسما بلهجة مصالحة: "كلا، يا كمال بك، لن أتركك تنصرف دون ان نتفق". وبعد ذلك طلب من عباس خلف ومحسن دلول ووزير الداخلية السوري علي ظاظا الذي حضر اللقاء، أن يتركوه لوحده مع جنبلاط. وفي غالب الظن تميزت المقابلة التي استمرت خمس ساعات وجها لوجه بالحدة والتوتر نفسيهما، لكنها هي أيضا انتهت من دون نتيجة، كما هو معروف. كان السبب الأول للخلاف الذي أدى إلى فشل المحادثات بين الأسد وجنبلاط مسألة الحسم العسكري للأزمة اللبنانية. فقد التزما في هذا الخصوص وجهتي نظرهما على طرفي نقيض.... وصل جنبلاط الى قصر الروضة الذي استضاف وفد الحزب التقدمي الاشتراكي قرابة التاسعة مساء. وكان ينتظره على العشاء في صالة الحفلات كل من السيد عبدالحليم خدام واللواء حكمت الشهابي. وفي الأروقة احتشد مراسلو الصحف المحلية والأجنبية. جلس جنبلاط على الأريكة جنب عباس خلف وهمس في اذنه بالإنكليزية متلفتا ذات اليمين وذات الشمال: "لم تكن جيدة". كان دوماً يتكلم بالإنكليزية عندما يريد أن يخفي شيئا عن الحاضرين. إلا أن حيطته هذه المرة لا معنى لها. فمظهره غني عن البيان. وعقب اللقاء اتصل الرئيس الأسد هاتفيا بخدام وحكمت الشهابي وكلفهما أن يقنعا جنبلاط بالبقاء في دمشق يوما آخر، إلا أنه اعتذر بأدب قائلا إن أمورا لا تقبل التأجيل تنتظره في لبنان. ولم تجد نفعا محاولات عباس خلف ومحسن دلول لاقناعه بالعدول عن السفر ليلا، ولا سيما أن زوابع آذار تعصف بالجبال. عاد جنبلاط إلى لبنان مكتئبا للغاية، تنهشه فكرة حرمانه النصر في اللحظة التي طرق فيها أبوابه. فما هو إلا أسبوع أو أسبوعان، وما هي إلا ضربة حاسمة واحدة حتى يتغيّر كل شيء في لبنان، باعتقاده. بيد أن إرادة من حديد غريبة اعترضت طريقه، إرادة لا تشاطره القضية التي نذر لها نفسه وحياته. ولم يبق أمامه سوى خيار واحد، فإما الاعتراف بالهزيمة والرضوخ لها وإما تحديها والسير حتى النهاية. *الاثنين: الربيع الدامي والتدخل السوري. * * يصدر قريباً عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار".