في نهاية مأدبة العشاء التي اقامها الرئيس الياس الهراوي تكريماً للأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز اثناء زيارته لبيروت، تطرق الحديث بينهما الى اسماء المرشحين الأكثر حظوظاً في معركة الخلافة. ونقّل رئيس الجمهورية بصره بين العماد اميل لحود وصهره الوزير فارس بويز، ثم أشار بسبابته نحو العماد لحود، مؤكداً انه سيكون وحده وريثه في الحكم. احتفظ الأمير خالد بتوقعات الرئيس مدة تزيد على الثلاث سنوات، الى ان أفرج عن سرها الأسبوع الماضي خلال مناسبة اجتماعية ضمت بعض السفراء العرب في لندن. وكان النقاش قد تمحور حول موضوع رئاسة الجمهورية في لبنان... وحول احتمال ظهور مفاجأة اقليمية قد تبرر ظروف التمديد للمرة الثانية، خصوصاً ان الاشارات السورية المبهمة ظلت تتعامل مع انتخابات الرئاسة بأسلوب الغموض "والهيتشكوكية"، تماماً كالاسلوب المزدوج المعاني الذي تعاملت به قبل حسم المعركة السابقة لمصلحة التمديد. في ضوء هذه الاعتبارات بقي موضوع الرئاسة يتأرجح طوال شهرين كاملين قدم خلالهما جميع المرشحين اسمى ما عرف اللبنانيون من برامج اقتصادية طموحة وبيانات سياسية مغرية. وفي زحمة هذا التنافس الاعلامي المتنامي كان حلفاء سورية في لبنان من امثال الرئيس رفيق الحريري والوزراء محسن دلول وسليمان فرنجية وطلال ارسلان وميشال المرّ يطلقون مؤشرات هادفة تتعلق بمزايا قائد الجيش وصفاته الملائمة لمرحلة التغيير المنتظرة. أي المرحلة التي وصفها عبدالحليم خدام بأنها ستشهد تغييراً جذرياً في نمط الأداء السياسي لجهة تفعيل المؤسسات، واستكمال تطبيق اتفاق الطائف، واصدار قانون انتخابات جديد يتساوى فيه كل المرشحين بدون استثناء. بعض السياسيين يتحدث عن العماد اميل لحود كرئيس سابق عائد الى كنف رئاسة 1995... لا كمرشح جديد يطمح في الرئاسة عام 1998. والسبب ان دمشق مددت للهراوي ثلاث سنوات اضافية كان من المفترض ان تمثل النصف الأول من ولاية لحود. وهنا ينقسم النواب حول التفسيرات التي أعطيت لتبرير التمديد، وجعل الهراوي ثاني رئيس جمهورية بعد شارل دباس يقضي تسع سنوات في الحكم. فريق يقول ان رغبة الهراوي في التمديد كانت نابعة من قناعة سورية بأن قبول اسحق رابين المفاجئ بشروط الانسحاب من الجولان، سيعبد الطريق لسلام سريع وكامل في المنطقة. وعليه تردد في حينه ان الهراوي طلب من الأسد مكافأته بأن يوقع مشروع السلام الى جانبه، فيكون بذلك اول رئيس لبناني ينهي حال الاحتراب الداخلي، ويحقق حلم تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. ويبدو ان الاسد استجاب لهذه الرغبة، بدليل ان كل المؤتَمنين على كلمة السر فوجئوا بالانعطاف الذي رافق عملية التحول. وهذا يعني ان الرئيسين نبيه بري وعمر كرامي، والوزيرين سليمان فرنجة وطلال ارسلان، لم يؤيدوا اميل لحود من فراغ، وانما استشاروا وتبلّغوا. ومع التبدل الطارئ الذي اعلنه اسحق رابين، بدّل الاسد موقفه من موضوع ترئيس العماد لحود، وراح يثني عليه كقائد مميز وانما في موقعه العسكري. الفريق الآخر من السياسيين يقدم تفسيراً مختلفاً لموضوع التمديد، ويقول ان التكتيك السوري يعتمد دائماً الاسلوب المزدوج الأداء في الشأن اللبناني. ومثل هذا الاسلوب يؤمن لدمشق هامشاً وسيعاً من الحركة فوق مسارين متعارضين، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن هناك تناقضاً في السياسة الواحدة. فهي من جهة تؤيد رفيق الحريري، ولكنها من جهة اخرى تسكت عن انتقادات حلفائها له. ولقد وفّر لها هذا التكتيك القدرة على استيعاب المتناقضات واستمالة كل الاطراف. من هنا يرى الفريق الثاني ان التمديد للهراوي او انتخاب اميل لحود كانا خيارين جديين في دورة 1995 اراد الاسد من وراء طرحهما جذب اهتمام الادارة الاميركية لعلها تشترك في اللعبة كما فعل ريتشارد مورفي صاحب مقولة: "اما مخايل الضاهر... او الفوضى". وعندما رفضت واشنطن المشاركة مشت دمشق بخيار التمديد لقناعتها بأن العماد لحود يحتاج الى فترة اضافية لاستكمال بناء مؤسسة الجيش. بعد مرور مرحلة التمديد زار الهراوي دمشق ليخرج من القصر الجمهوري معلناً ظهور الدخان الابيض وترجيح كفة العماد اميل لحود. ولقد أيّد مجلس المطارنة الموارنة هذا الخيار، ولكنه اعترض على طريقة اعلان النتيجة قبل جلسة الانتخاب كأن الرئيس الجديد سيجيء بالتعيين لا بالاقتراع السري. وانتقد وليد جنبلاط هذا الاسلوب بقوله: "لم تحترم اصول المنافسة في البلاد، وكان من المفترض ان تجري الامور في شكل اكثر ديموقراطية". وعلق وزير الدفاع محسن دلول على انتقادات جنبلاط بالتأكيد ان الاجماع الشعبي كان وراء قرار انتقاء العماد. وهو بهذا الكلام اراد التذكير بأن سورية اخذت في الاعتبار نتائج استطلاعات الرأي التي نفذتها شركات ذات اختصاص. وجاءت النتيجة الأولى لمصلحة العماد بنسبة 36 في المئة، بينما وصلت النتيجة في الاستطلاع الثاني الى نسبة 49 في المئة. ولقد دعمت هذه الأرقام تعليقات المواطنين الذين وصفوا العماد بالنزاهة ونظافة الكف، والوطنية، والنجاح في بناء مؤسسة الجيش على مبادئ الكفاءة لا المحسوبية. والملاحظ ان القطاع الاقتصادي - المصرفي قد تأثر باحتمال تغيير المناخ السياسي العام فاذا بأسعار شهادات الايداع اللبنانية في الخارج ترتفع فور ترجيح فوز العماد لحود في انتخابات الرئاسة. يوم الخميس الماضي اقرّ مجلس الوزراء تعديل المادة 49 من الدستور بهدف اجازة انتخاب رئيس من موظفي الفئة الأولى لمرة واحدة وبصورة استثنائية. وكان واضحاً ان هذا التعديل قد أقرّ لفتح ابواب قصر بعبدا امام الرئيس الثالث للجمهورية الثانية. علماً بأن العميد اده يصرّ على تسميتها بالجمهورية الثالثة. وكان من الطبيعي ان يفتح هذا التغيير افق التساؤل حول مرحلة بناء دولة المؤسسات... وما اذا كان باستطاعة الرئيس المقبل تطبيق القواعد المطبقة في الجيش على السياسيين. وهي قواعد مثالية رفعت من سقف المطالب والتوقعات بحيث بات الكل ينتظر نهوض دولة لبنانية جديدة سوف تنشأ فجأة مع وصول قائد الجيش الى قصر بعبدا. ومثل هذه التوقعات انعكست على اجواء الشعب الذي ينتظر من رئيس الجمهورية انقلاباً تاماً في مفاهيم الحكم وفي علاقة المواطن بالادارة على أمل محاربة اهل الرشوة والفساد والمحسوبية والفوضى، واخراج الاسرائيلي المحتل من الجنوب، وتحرير القرار السياسي اللبناني من التبعية. حتى عبدالحليم خدام وصف عهد الرئيس الهراوي بأنه مرحلة انتقالية، وان عهد لحود سيكون عهد بناء دولة السلم الاهلي والوفاق الوطني. تعليقات الصحف الاجنبية استغربت انتقال لبنان من مرحلة بالغة الخطورة حكمها سياسي... الى مرحلة هادئة مستقرة سوف يحكمها عسكري. وقدمت الانتخابات البلدية كحجة على وجود مناخ ديموقراطي لا يستدعي الاستنجاد بقائد الجيش للحفاظ على النظام، كما يحدث في تركيا مثلاً. وفي تقدير المحللين ان حكم العسكر يمثل الحال الانتقالية المعنية بضبط الامور واستعادة العافية الامنية، خصوصاً بعد الحروب الاهلية المدمرة. لذلك توقعت العواصم الكبرى ان يقوم الجيش اللبناني بتسيير شؤون الدولة، ثم تسليمها الى المدنيين، كما فعل فرانكو بعد الثورة الاسبانية. والجواب على هذا ان الجيش اللبناني كان مشرذماً وموزع الولاءات بعد 16 سنة من حكم الميليشيات وتحكم الزعماء... وان قائده صرف عدة سنوات في عملية التجنيد واستعادة الثقة بالمؤسسة العسكرية التي نخرتها سوسةالطائفية. ولقد اوجد لهذه المؤسسة عقيدة جديدة تتناسب مع المبدأ الثاني في دستور الطائف الذي وصف لبنان بأنه "وطن عربي الهوية والانتماء". وكان من نتيجة تطبيق هذه العقيدة ان توقفت دورات تدريب الضباط في فرنسا والولايات المتحدة، واستعيض عن ذلك بتأهيلهم في الكلية العسكرية السورية. وعندما تحدث العميد ريمون اده في بيانه الاخير عن وجود 132 جنرالاً في جيش لا يزيد عدد افراده على 63 الف جندي، انما كان ينتقد دوره في الابتعاد عن الحدود الجنوبية، ويعترض على كادر الجنرالات فيه الموازي تقريباً لكادر جنرالات الجيش الفرنسي 190 جنرالاً. يقول احد المشرفين على الاستقصاء الاخير ان تسعين في المئة من المستجوبين كانوا يؤيدون ترئيس اميل لحود... وان عشرة في المئة فقط ايدوا مجيء العماد اميل لحود. ومثل هذا التباين يعبر عن مخاوف اللبنانيين من حكم العسكر، ومن تكرار التجارب التي قضت على الديموقراطية في بعض البلدان العربية. ومع ان رئيس مجلس النواب نبيه بري امتدح العهد الشهابي لجهة المؤسسات الادارية التي أنشأها والمشاريع الانمائية التي حققها، ولكن هذا كله لا يلغي من ذاكرة اللبنانيين حكايات مراقبة الهواتف، ونشوء طبقة جديدة من الضباط كانت تهيمن على زعماء السلطة السياسية. ويستبعد الرئيس بري تكرار التجربة العسكرية الشهابية لأن الدستور الجديد لا يسمح بذلك. ورداً على مخاوف وليد جنبلاط من "الشهابية الجديدة"، قال بري: "ان وصول العماد لحود الى سدة الرئاسة لا يعني حكماً للعسكر باعتباره سيكون حريصاً على الديموقراطية كما كان حريصاً على المؤسسة العسكرية". ولقد ايده في هذا الوصف وزير الدفاع دلول الذي قال ان اميل لحود سوف يمنع العسكر من التدخل في السياسة، كما منع السياسيين من التدخل في شؤون العسكر. ذلك انه اخضع عمليات الانتقاء والترقية الى سجلات الكفاءة فقط، ولم يسمح لأي وزير او نائب باستخدام نفوذ المحسوبية او الطائفية. السؤال الكبير الذي يرتفع من أفواه اللبنانيين خلال مرحلة التحضير لانتخاب رئيس جديد، يتعلق بمدى قدرة العماد لحود على فرض ارادة التغيير على السياسيين الذين سيتعامل معهم. بكلام آخر: هل تجذب البيروقراطية المتجذرة في الدولة والادارات العماد لحود الى مدارها بحيث يعتريه اليأس كما اعترى اليأس اللواء فؤاد شهاب من قبله... ام انه سينجح في تجيير ارادة الأغلبية البرلمانية والشعبية - اضافة الى دعم سورية - في فتح صفحة جديدة من الحكم النزيه؟ خلال مأدبة غداء أُقيمت في منزل الرئيس رشيد الصلح هذا الاسبوع، قال رئيس المجلس ان المعركة الحقيقية ليست معركة رئاسة الجمهورية بقدر ما هي معركة حكومة أيضاً، كما هي معركة اختيار القائد الجديد للجيش، وما اذا كان باستطاعة الخلف المحافظة على النمط والمنهج والمؤسسة التي بناها العماد لحود. ولقد أوحى بري بهذا الكلام ان رئيس الحكومة مقبل على مرحلة علاقات صعبة تختلف عن المرحلة الوردية التي قضاها مع الرئيس الهراوي. وربما تطال هذه العلاقات نفوذ رئيس المجلس، خصوصاً اذا اصرّ العماد لحود على فصل الوزارة عن النيابة بحجة ان المشرّع لا يجوز له ان ينفذ. وهذا ما دعا بري الى انتقاد فكرة حكومة التكنوقراط لأسباب تؤدي الى تقليص حصص الترويكا، وتمنع النواب والوزراء من وضع تشريعات تخدم مصالحهم. ويشاع في هذا السياق ان الأداء السياسي المطلوب يلتقي مع الأداء الذي يطالب به الدكتور بشار الأسد في سورية... وان وصول العماد لحود الى قصر بعبدا يسهل للدكتور بشار قراءة الملف اللبناني بصورة اوضح... * كاتب وصحافي لبناني.