الضباب يجثم كثيفاً. البنات يجلسن متلاصقات على رأس الكوبري ينتظرن الجرار الذي يحملهن إلى التفتيش الزراعي. كل منهن تلف رأسها وكتفيها بجلباب قديم وتلبس شراباً من دون قدمين يصل إلى الركبة، يحمي سيقانها من وخز شتلات الرز المدببة الأطراف، وأمامها لفة غذائها والشرشرة. الفجر يوشك أن يمضي، والهواء البارد يأتي من النهر الذي أعطينه ظهورهن مستندات إلى سياج من قضبان حديد، والضباب يحجب معالم الأشياء، لا يرين لأبعد من خطوات. عادة ما ينكمشن ويتلاصقن في شدة حين تصعب الرؤية، وعيونهن الدامعة من البرد المفتوحة على سعتها لا تنظر إلى شيء، ينصتن لما يأتي من أصوات قليلة، لن يبصرن الجرار قادماً، لكنهن سيسمعن صوته يهدر عن بعد. التماعات ضوء الصباح تنبثق فجأة حين يرق الضباب، غير أنه سرعان ما يتكتل ليحجبها، هثيث الماء يجري في النهر، ينتبهن إليه عندما يلطم الشط في تدفق مباغت. الصوت جاء من بعيد. لا يميزنه. جاء واختفى. رنينه المألوف في آذانهن. ينظرن هنا وهناك، يرهفن السمع منتظرات، ثم يعدن إلى انكماشهن، ينفخن في قبضاتهن ليدفئنها. البيوت على بعد ما زالت مستغرقة في نعاسها، يخفيها الضباب، وبهيمة تخور في مكان ما، وسعال رجال يأتي من جهة الجامع عائدين على ما يبدو إلى البيوت. يفاجئهن الصوت مرة أخرى آتياً من النهر، ينتفضن، ويتلاشى قبل أن يتحركن، يحدقن خلال قضبان السياج ولا يرين شيئاً، المياه على مرمى بصرهن داكنة تتماوج فوقها سحابة رقيقة أشبه بالدخان. يعود الصوت. هن متحفزات. يحاولن اختراق الضباب بعيونهن. تتضح نبرة الصوت لحظة قبل أن يبعثره الهواء. يتبادلن النظرات في جزع: - معقول؟ - طفل؟ يقفن منحنيات على السياج. صوت المناغاة لا يخطئنه أبداً. يسكت ويعود، ينتهي بضحكة مبتورة يتردد صداها حولهن: - آه طفل. - طفل! يتبعثرن بامتداد السياج. يصحن ملهوفات، والضباب ثقيل لا يفصح، ويرتفع هدير الجرار مبدداً السكون، يصرخن في فزع متقهقرات نحو أشيائهن عند رأس الكوبري، ما إن يصلن إليها حتى يتراجعن إلى السياج، وينحنين مرة أخرى محدقات في النهر، يلتقطن الصوت على رغم ضجة الجرار. الصوت يقترب، والجرار يطلق صفارته ينبههن إلى مجيئه، لا يلتفتن إلى الجهة التي سيأتي منها. عيونهن على النهر، ثمة ظل داكن يتحرك في عمق الضباب على سطج الماء. يتأوهن. تتحدد ملامحه لحظة بعد أخرى مقترباً من مرمى بصرهن. - صندوق؟ - آه صندوق. صوت المناغاة، وكركرة الضحكة. يكتمن أنفاسهن. يخرج الصندوق من كتلة الضباب الكثيفة مسربلاً بسحابة رقيقة. الطفل يقعد داخله، يلبس جلباباً مشموراً إلى وسطه ويلعب بقدميه متلفتاً حوله، القشعريرة التي سرت في أجسادهن، يصحن وينهنهن. الطفل يرفع وجهه. وهل رآهن؟ يصفق بيديه مناغياً: - رآنا؟ - آه رآنا. يضحكن. يمسحن دموعهن ويعلو صياحهن. يختفي الصندوق تحت الكوبري، ينطلقن إلى الجانب الآخر، يهللن لدى ظهوره. الطفل يلتفت، يحاول أن يستدير إليهن منقلباً على جنبه. يتأرجح الصندوق. يصرخن في فزع ويجرين إلى الشط. يسرن في محاذاة الصندوق، وكان يتهادى مستقراً مع التيار والطفل داخله منحنياً يلعب بقدميه، ينظر إليهن عندما يتردد تصفيقهن وغناؤهن ويضحك. يخضن في المياه حتى تصل إلى ركبهن. كن قريبات منه، ولو سبحن قليلاً لأمسكن به، وقفن مشدودات وأقدامهن متشبثة بالقاع، يخشين أن يتحركن. الطفل يرنو إليهن مائلاً وإحدى قدميه مرفوعة يمسكها بيده، يهتز الصندوق خفيفاً ويغيب في الضباب الكثيف. عدن إلى الشاطئ. وقفن والماء يسيل من سيقانهن ينصتن لصوت المناغاة يبتعد. هن مأخوذات، يتبادلن النظرات وقد انتابهن على ما يبدو بعض الشك، تتساءل عيونهن إن كان حقاً ما رأينه؟ وتقول واحدة في صوت يغلب عليه البكاء: - آه رأيناه. انتبهن لصفارة الجرار الصاخبة، وكان يقف بجانب أشيائهن، والسائق على مقعده يلوح لهن. * كاتب مصري.