تقول أمي: انني ولدت في ليلة عاصفة يتلاحق فيها البرق والرعد والمطر الغزير. بحثوا عن رجل من الجيران ليأتي بالداية. كان ابي مدرساً في المرحلة الابتدائية، خجل من الذهاب اليها، كانت مكانته تمنعه من القيام بهذه الاعمال. في ذلك الوقت كان عدد المتعلمين في البلدة لا يتجاوز اصابع اليدين. زلقت قدم الداية في الوحل وهوت على ظهرها. كان الرجل يسبقها بخطوات مستسلماً لهسيس المطر الطاغي. لم يسمع صوت سقوطها ولا آهتها الموجعة. حين وصل الى بيتنا تلفت ولم يجدها وراءه، عاد يبحث عنها، عثر عليها ممددة جنب جدار. كانت عجوزا هشة العظام، لم تتحمل السقطة. حملها على كتفه. رجته ان يعود بها الى بيتها، غير انه اصم اذنيه وجاء بها الى بيتنا، مددها والوحل يقطر منها على كومة قش اعدت على وجه السرعة بركن الحوش. ضاع انينها المرتعش وسط صرخات امي في الحجرة. كنت لا أزال في رحمها أتأهب للخروج. كان المجيء بطبيب من البندر مستحيلاً في هذا الجو، كذلك البحث عن داية اخرى في قرية مجاورة، شطفت النسوة الداية في طشت بالحوش بعد ان اخرجن منه الرجال، كانت تترنح بين ايديهن وتنزلق وتبرطم في وهن: "ان لها خمسين عاما تفرغ بطون النسوة في البلد ولم يحدث لها ما حدث الليلة". واخذت تهذي بحكاوي عن امها وابيها، وعفريت يظهر ليلاً بمنور السلم في بيتها، يناديها للعب معه ولا ترد عليه، تغلق على نفسها باب الحجرة وتترسه بماجور عجين ممتلىء لحافته بالكراكيب، وفي ليلة ممطرة ايقظتها حبسة البول. انصتت، لم تسمع له صوتا، ولم تستطع ان تمسك نفسها اكثر من ذلك، خرجت تقصد الكنيف. فوجئت به لابداً في انتظارها، ظهر لها في صورة رجل ملامحه غير غريبة عليها، لا تذكر اين رأته من قبل. قال: انه يريدها. رجته ان يرحم شيبتها. رفض. قالت له: طيب، ادخل الكنيف افك حبستي. قال: ادخل معك. كانت متربعة في الطشت، تمسكها اثنتان، وواحدة تصب عليها الماء بالكوز، سألتها: ودخل معك؟ عيب. قلت له عيب. وانتظرك؟ آه. انتظرني. ونال ما يريده؟ ناله. وكن يجففنها ويلبسنها جلباباً نظيفاً لأمي حين احسسن بجسدها يتراخى بين ايديهن، كانت روحها تفارقها، لم يكن الوقت مناسباً، زجرنها في عنف وصفعنها، ودعكن انفها بالبصل حتى افاقت، كان عليها ان تؤجل موتها قليلاً، حملنها الى حجرة امي وذراعاها وساقاها مدلاة لا حياة فيها. اسندت ظهرها الى صدر واحدة منهن، وراحت والبصلة على انفها تشير عليهن بما يفعلن. مع طلعة الفجر انطلقت صرخاتي الاولى. كانت في الحجرة نار موقدة، وضعوني بجوارها. رمقتني الداية في صحوة مفاجئة، وهمت بالافلات من حضن المرأة، اختلج جسدها مرة اخرى، ثم ماتت. كان ذلك بداية عصر جديد تعيشه البلدة لأربعين عاماً مقبلة مع داية اخرى شرسة الطباع، نزحت الى البلدة مع زوجها، وكان يركب حمارة عجفاء يتدلى على جانبيها خُرج ممتلىء الفتحتين، ويسحب وراءه خمسة أولاد في أعمار متقاربة. وكانت نذر خافتة للحرب العالمية الثانية تلوح وتختفي، والدول الكبرى تتأهب في تكتم، والصغرى وقد حاق بها الاستعمار وجثم طويلاً على أنفاسها تطل من جحورها مترقبة. أحبو مخترقاً الحوش في اتجاه الباب، حين أجده مفتوحاً أتربع على العتبة مصفقاً، وان تصادف وكان مغلقاً لبدت بجواره حتى يفتحه أحدهم. تبحث أمي في الحوش ولا تجدني. أكون خرجت، زاحفاً في الحارة، ويكون شيء ما، رائحة، صوت شدني الى أحد البيوت، وأتسلق عتبته، غالبا ما أجد أصحابه حول الطبلية يتناولون طعاماً، يفسحون لي مكاناً بينهم، ولأنني ابن الاستاذ كانوا يتركوني امزق رغيف العيش الطري مناغياً دون ان ينهرني احد، ويسمحون لي بالعبث في طبق الغُموس الوحيد على الطبلية والذي يكون عادة باذنجاناً مقلياً او ملوخية او جبن قريش مهروس بالطماطم، واحيانا تشطف امرأة البيت مؤخرتي العارية مما يكون علق بها اثناء زحفي. تنتزعني أمي وأنا في حالة من الاندماج لا تسمح بالابتعاد. تعلو صرخاتي، ويبدي أهل البيت تمسكهم بي، وسعادتهم بوجودي بينهم، ولا تستمع لهم امي. ويوماً كان الباب مفتوحاً وخرجت. لم يكن هناك ما جذبني او لفت انتباهي في الحارة، لذلك أخذت احبو من حارة الى اخرى، واعترضتني بقعة موحلة، توقفت امامها، وحين لم اسمع صوتا يحذرني او ينهرني خضت فيها، كان الوحل مغريًا، طيّعا في يدي، يتناثر في يسر هنا وهناك، وكان مذاقه ايضا لا بأس به، حبوت بعدها وقد اختفت معالمي، وجذبتني اصوات غريبة بحوش احد البيوت فتسلقت عتبته. خرجت امي تبحث في الحارة، ولا حس ولا خبر، وانطلقت نسوة من الجيران ينادين، ولا احد يرد عليهن، ثم جاءتهن صرخاتي، وجرين نحوها. كان الجدي صغيراً، تركه أصحابه طليقاً في الحوش، وكان فرحاً بنفسه، يقفز ويمأمىء في مرح، حين رآني مبهورا به نطحني، تدحرجت، وحاولت ان استعيد وضعي دون صراخ حين نطحني مرة اخرى. كانت معركة غير متكافئة، خرجت منها بخدوش في وجهي وجرح في رأسي يسيل منه الدم، رغم ذلك كنت ارفس صارخا بين ذراعي امي محاولاً الافلات والعودة الى الجدي، وكان يقف في ركن الحوش متأهباً.رأوا بعدها منعي من الخروج. ربطوا احدى قدمي بحبل الى وتد في الطرف البعيد من الحوش كان مخصصاً من قبل لخروف ذبحوه يوم ولادتي، كان الحبل طويلاً مما سمح لي بالتجول في الحوش على العتبة مصفقاً.