يدخل القطار المحطة في زوبعة دخان اسودت منه فروع الاشجار. تتأهب بدرية لصعود العربة الزرقاء، تشير لها نسوة في عمرها من النوافذ ان تسرع. تضحك وتتكئ على عصاها. تقول لمن أخذ بيدها. - القطار جاء رحمة لنا. العربة مكدسة بهن. مكانها شاغر ينتظرها وفي ما مضى عندما بدأ القطار الفرنساوي يجري في الناحية كان عددهن خمسا وثلاثين، يشغلن الربع الأول من العربة، يجلسن في رهبة على مقاعد متجاورة، لا يتبادلن غير كلمات قليلة، يحدقن خلال النوافذ المفتوحة. تلك الايام، وكان عمر أكبرهن لا يزيد على السابعة والعشرين، يلبسن الاسود، وعيونهن خالية من الكحل، اثنتان او ثلاث منهن، اصغرهن سنا، يقبضن ايديهن في حجورهن، يخفين ما بها من آثار حناء قديمة، ويكون الوقت باكرا والركاب القليلون في العربة يتحاشون النظر اليهن. هن في مقاعدهن، اعتدن ان يستقبلن نظرات القادمين من كل محطة يقف بها القطار. عيونهم وكأنما فوجئوا بهذا الكم من الملابس السوداء، تنظر من واحدة لأخرى، تتحسس وجوههن ويبتعدون يتهامسون مع الجالسين، ثم لا ينظرون اليهن بعد ذلك. هن مشدودات في مقاعدهن مستسلمات لتحديقهم عندما يصعدون، يخشين ما يفلت منهم من كلام اثناء دخولهم العربة، وكثيرا ما كان يحدث، يتراجع البعض منهم الى العربة المجاورة متمتما: استرها يارب. ساعة صبح. وتجري الشهور، ولا يعدن يبالين بالنظرات، وصوتهن أخذ يعلو بين جنبات العربة، وعندما يغلب الضحك واحدة منهن تكتم ضحكتها وتنحني مخفية وجهها بين كفيها. ويأتي القطار السريع بدلا من الفرنساوي، كن سمعن عنه قبل ان يرينه، جاء يتهادى على القضبان دون ضجة. ينفث دخانه القليل أرضا، فتصير اوراق الشجر المكوّمة على جانبي القضبان، وكانت سنوات لا يعرف عددها قد مضت، وقامت حرب اخرى، وزاد عددهن، اصبحن يشغلن ثلثي العربة، والثلث الاخر يظل شاغرا، لا يقربه غير الاطفال. كان الركاب حين يصعدون الى العربة يمسكون عن الكلام، ويستمرون في سيرهم الى العربة التالية. كن - القديمات مثلها - يأخذن اربعة صفوف متقابلة في اول العربة ويجلسن على راحتهن. يحسبن الزيادة في المعاش وقد بلغت ستة جنيهات عقب الحرب، وتذكر الواحدة الاخرى بما سيشترينه في عودتهن: واللبان الدكر؟ والنشوق يابدرية والهريسة. والمستكة. ربع كفاية. الحاجة سعرها زاد. يختلسن النظرات للوجوه الجديدة، وكانت لا تزال في دهشتها الاولى تحمل ملامح الصبا واثار بكاء طويل، يجلسن على طرف المقاعد وسيقانهن مضمومة في شدة وعيونهن تروح وتأتي يفزعهن صوت الكمساري عندما يدق بمؤخرة قلمه على جانب باب العربة. يمددن اليه التذاكر دون ان يطلبها يقلن لهن حين جرى الكلام بينهن: انتن لم ترين ما رأيناه. ولا ركبتن الكارو ولا مشيتن المشوار في الفجر وفي عز المطر واسمها إيه الف رحمة عليها كانت من البرد تلبس لباسين فوق بعض وماذا رأيتن حتى تشكين؟ لا أحد يشكو ياخالة. وتقوم حرب اخرى واخرى وتزدحم بهن العربة الزرقاء وينساب الزحام الى العربة المجاورة وتمتلئ بهن. لم يعجبها لونها البني، فضلت مع القديمات البقاء في عربتهن. محطات لم تكن تصعد منها واحدة من قبل ولا تعنى حتى بالنظر اليها حين يتوقف بها القطار، اصبح يصعد منها بالاثنين والثلاثة. هن القديمات كن شغوفات بالنظر اليهن من النافذة يرينهن والقطار يدخل المحطة يغادرن جذع نخلة ملقى في ظل مبنى المحطة يهرولن متعثرات اثر زوبعة الغبار التي يثيرها القطار بدخوله. وتكتشف واحدة منهن وهي تصعد سلم العربة انها نسيت صرة طعامها عند جذع النخلة، وتفلت الصرخة منها، وتشمر جلبابها الى ركبتيها وتأخذها جرياً وتعود بها. العربتان الزرقاء والبنية لم يعد يمر بهما أحد من الركاب، حتى الكمساري اكتفى بمرة واحدة. عندما يقترب القطار من المركز يقف بباب العربة وتقوم واحدة منهن بجمع التذاكر له من الاخريات. كن يغلقن ابواب العربتين ويجلسن على راحتهن بعيدا عن العيون التي تتلصص عليهن احيانا ويكون الجو حارا ويفككن الطّرح يتركنها تتهدل على أكتافهن وترفرف اطرافها ويفتحن ياقة الجلباب ويعرضن رقابهن وصدورهن التي بللها العرق للهواء، والقطار يمر سريعا وسط ساحات عريضة من الزرع تترامى من محطة لأخرى، والاشجار تكر على الجانبين وبعض فروعها المائلة يحف بسطح القطار. وكن ينتظرن الزيادة في المعاش عقب الحرب الاخيرة كما في المرات السابقة غير انها لم تأت. وتمر اعوام لا يعرف عددها وجاءت من تقول لهن في القطار إن الزيادة وصلت. التففن حولها، وتسرب الخبر الى العربة البنية، وكانت الصغيرات منهن يتجمعن بها. جئن يهرولن. تزاحمن في عربتهن الزرقاء. وتحكي من جاءت بالخبر أنهن امس وامس الأول صرفن المعاش بالزيادة وبلغ اربعة عشر جنيها ونصف الجنيه، الكثيرات لا يصدقن ما تقول، والبعض يصحن ان الزيادة قليلة والاسعار نار، وأنهن تعبن والمصائب لا تعرف غيرهن. أحست وسط الهرج بمن يشد كُم جلبابها. التفتت. كانت واحدة من العربة البنية، رأتها من قبل مرتين أو ثلاثا، ولفت نظرها وجهها الصبوح وشعر رأسها فاحم السواد. - خالة بدرية. ابتسمت لها، وأفسحت مكاناً بجوارها - هو صحيح يا خالة؟ لها رائحة العيش الطازج، ولون داكن حول عينيها. سألتها بدرية: - حرب 73؟ - آه. في الثغرة. وأنت يا خالة؟ - قبل ذلك. - 48؟ ولا يبان عليك يا خالة. ابتسمت بدرية: وعم تسألين؟ خفضت من صوتها: هو صحيح يا خالة أنه طلع قانون جديد يسمح للواحدة تتزوج وتأخذ المعاش؟ - سمعت عنه يا بنتي. لا أعرف إن كان طلع ولا لأ. - ومن يقول لي؟ - اسألي في الادارة. هزت كتفيها خفيفا، وسكنت يداها في حجرها همست: - بكرة يبان لوحده. - اسأل لك؟ - لا يا خالة، بصّتهم لك وأنت تسألين. تركتها بعد قليل. خاضت في الزحام مبتعدة عن الضجة. القديمات اشتعل غضبهن، لففن الطرح حول رقابهن، وبدا شعر رؤوسهن منفوشاً علقت به نتف من القش. يذهبن ويأتين في الممر. هدأت الضجة في العربتين والقطار يشرف على المركز. كل واحدة تعيد ربط صرتها وتسوي جلبابها وطرحتها، وخيم صمت عليهن، كن ينصتن لإيقاع العجلات المنتظم، ويحدقن ساهمات من النوافذ.