كان أبي وزميلان له، يقيمان ناحيتنا، يقرأون جريدة "المصري"، يتبادلون شراءها والاحتفاظ بها بعد القراءة. كنت في اليوم المقرر لأبي أُبكر بالذهاب الى المحطة، وآتى بها من عند البائع، وأمر بزميل أبي، الأقرب من المحطة "الاستاذ حسان" واتركها له. كان بعد قراءتها يرسلها مع ابنه الى الزميل الآخر "الاستاذ بلال"، ولأنه بلا أولاد - كانوا يموتون قبل أن يكتمل عامهم الأول - كنت أذهب إليه عصراً وأعود بالجريدة لأبي، وفي الأيام التي يحتفظ فيها الاستاذ بلال بالجريدة، كنت أحملها إليه بعد أن يقرأها أبي، ويكافئني الاستاذ بلال على ذلك بحبة "كراملَّة" بطعم النعناع لا يخلو منها جيب جلبابه، ويعطي منها أحياناً الأولاد الذين يشاكسهم حين يمرون به. في الجانب الآخر من البلدة كان أربعة من زملاء أبي يفضلون جريدة "الأهرام"، يقرأونها أيضاً بالتبادل، التقي في الصباح الباكر بابن واحد منهم يأتي لشرائها، نقف في عودتنا بظل شجرة قبل أن نفترق، وكل منا يطوي الجريدة تحت ابطه، نتبادل قليلاً من الكلام ونمضي. كان بينهم ولد هزيل شاحب الوجه، تتزامن أحياناً أيام مجيئه مع أيامي، كان يشكو أباه الذي يمنعه من اللعب مع الأولاد في الحارة، في كل مرة نلتقي يسألني عن ألعابنا، وينصت شارداً، ثم يقول إن الأولاد في الحارة يتحرشون به للعراك كلما لمحوه خارجا، ويتبعونه عندما يأتي لشراء الجريدة، وأنهم لا يخيفونه، فهو يعرف كيف يزوغ منهم، غير أنه يخشى أن يأتي يوم ويمزقوا له الجريدة. أسير في الشوارع والجريدة تحت ابطي، أقفز أحياناً إلى سطح عربة كارو أقطع بها مسافة من الطرق، وأحياناً آخذها جرياً وقد تأخر بي الوقت، ألمح في طريقي "لمة" أولاد في زقاق جانبي يلعبون "البلي"، أدس الجريدة خلف قضبان نافذة مغلقة وأشاركهم. أتعارك، أمزق لخصمي جلبابه، وقد يسيل الدم من أنفه، يحاول وأصحابه أن ينالوا من جلبابي، أقفز مبتعداً، يتدخل أولاد آخرون، ونهدأ، أقترب وأسحب الجريدة من مكانها، وأجدها كما تركتها لم يمسها أحد، حتى بعد أن عجزوا عن الإمساك بي، وكأن للجريدة رهبتها. أكون منطلقاً في شارع السوق مقلداً القطار في طريقي بالجريدة للاستاذ "حسان" حين أسمع من يناديني. ومن غيره؟ الحاج "عتمان" تاجر الحبوب، متربعاً على دكته فوق مصطبة الدكان، ودائماً ما يكون على جانبي الدكة ثلاثة أو أربعة من فلاحي العزب، يقعدون ومقاطف فارغة من الخوص مطوية بين أقدامهم فلا تشغل مكانا على المصطبة. كان يقرضهم على المحصول، ورغم ما يعود عليه من فوائد - أسمع أبي وزملاءه يتحدثون عنها - إلا أنه كان لا يعطيهم ما يطلبون قبل أن "يستفتح". كان على ما يبدو يتشاءم من ذلك، ويتجاهل وجودهم بجواره. يظلون في جلستهم دون حركة، وربما تكاثر عددهم بمرور الوقت، وعيونهم على وجوه المارة في انتظار زبون يدخل الدكان. كان الحاج عتمان واثنان آخران في شارع السوق - تاجر القماش وتاجر الاسمنت - الوحيدين الذين يفكون الخط في الشارع. يعرفون كيف تكتب الكمبيالة وإيصالات السداد. أبطىء من سرعتي متلفتاً نحوه، وأراه يشير بيده أن أذهب إليه، ويهم بالنهوض مرحباً بي، ولا ينهض، وأراهم بجواره ينظرون اليّ، وتنفرج وجوههم قليلاً، في كل مرة تراودني نفسي بالفرار منه حتى لا أتأخر، وأجدني منجذباً لترحيبه، يلتقف الجريدة مفسحاً لي مكاناً بجواره على الدكة مغمغماً بأنه سيرى شيئاً صغيراً فيها. - "المصري".. آه وجرنال الاستاذ ابراهيم.. وابن الاستاذ ابراهيم. يأتي أصحاب الدكاكين المجاورة على صيحته، يتقهقر الفلاحون بمقاطفهم مفسحين لهم، يفرد الحاج عتمان الجريدة ويقرأ المانشيت بصوت مرتفع: - النحاس باشا يحذر. ويقرأ جملة أخرى بصوت أقل ارتفاعاً ثم يثأثئ. كان الواقفون على جانبيه يعرفون أنه لا يجيد القراءة إجادته كتابة الكمبيالات، وينقذونه سريعاً مشيرين الى الصور: - آه صورته. - ومن معه؟ - امرأته. - صبية يا جدع. - إلا صبية!. ويقلب صفحات الجريدة متوقفاً أمام الكتابة بالخط العريض محاولاً قراءتها بعينيه وشفتيه، ثم يرفع صوته بها، واصحابه من فوق ذراعيه يطلون على الصور، وفي النهاية يطوي الجريدة متلفتاً إليهم: - بيحذرهم. ويسألونه عمن يحذرهم؟ ويقول: ومن غيرهم؟ الانكليز طبعاً. ويقول "سيد" الحلاق وظهره لنا عائداً إلى دكانه: - آه.. يحذرهم، بعد أن جاء الألمان. - امسك لسانك يا سيد. ويدفع بالجريدة الى ابطي من دون أن يراني: - شرفتنا يا أبو ابراهيم. ويلتفت مكفهر الوجه الى دكانة الحلاق، ولا أتوقف لسماع ما يتبادلانه من كلام. *** أذهب عصراً إلى بيت الاستاذ "بلال" لآتي بالجريدة. لا يحلو له قراءتها إلا في الشارع. يضع مقعد خيزران جنب العتبة مائلاً بظهره إلى الجدار، ويكون الظل غطى الشارع وزحف على البيت المواجه، يرش مساحة واسعة أمام المقعد بالماء، ويضع كوب الشاي بجواره على حافة العتبة، ثم يجلس ويفرد الجريدة. يلمحني قادماً. يقول مبتسماً قبل أن أصل إليه: - باقي صفحة الوفيات. ويشير الى العتبة فأجلس. لاحظت بعد مرات من ذهابي إليه، أنه يأتي وقت يفرد الجريدة على اتساعها، ويكلمني فجأة بصوت مرتفع يصل الى نهاية الشارع: - ألم يقل لك أبوك أن رومل منا وعلينا! ولا ينتظر ردي. - آه.. جده عاش طوال حياته في الاسكندرية وتزوج منها. وكان اسمها زينب، وطبعاً لم يخبرك باسم هتلر الحقيقي.. ماذا يعلمك أبوك؟ ولا يلتفت نحوي. - اسمه الحاج محمد هتلر. انتبه الى أنه لا يقرأ الجريدة. تتلصص عيناه من فوق حافتها، وأراها على سطح البيت المقابل، كانت وقتها عروساً لم يمض على زواجها غير اسبوع، وصبغة الحناء لا تزال بيديها وقدميها، بيتها واطئ من الطين، بابه يفتح على الشارع الآخر، سطحه ممتلئ بالكراكيب وأكوام القش والحطب، نشرت جلباباً على حبل الغسيل لونه أصفر وبه نقوش داكنة، ولباساً من التيل بلون وردي، الطرحة غير محبوكة حول رأسها، انزلقت، لمعة شعرها الاسود المبتل، انحنت تلتقط مشبك غسيل نط من فوق اللباس، يدها تمسك الحبل واللباس الذي انزلق طرفه وكاد يقع. تستند على قدم وتمد الأخرى مستقيمة مع جسدها المائل، بدت ربلة ساقها وقد انحسر عنها الجلباب، بيضاء ممتلئة، تترجرج خفيفاً مع اهتزاز جسدها. اسمعه بجواري يغمغم بشيء ما. نسي حذره وراح يحدق بعينين والهتين ويده مرتخية بالجريدة. ...، اعتدلت اخيراً، شبكت اللباس بالحبل، ومدت ذراعيها فوقه، نظرت الى السطوح أمامها. عيناها مكحولتان، وخداها موردان، وخصلة شعر لا تخفيها الطرحة مثبتة في ميل على جانب جبهتها، تبدو وكأنها لا تنظر إليها، غير أنه إلى جواري كان يلتقط نظراتها، تملأ الابتسامة وجهه، ويمد عنقه قليلاً وبهجة تسري في كل جسده، فيتمايل خفيفاً، وألمح ابتسامة صغيرة بجانب فمها قبل أن تدير وجهها إلى الناحية الأخرى. وتختفي من السطح، وأراه ساكناً على المقعد، عيناه مشدودتان الى هناك، ويكون جلبابها ولباسها قد جفا قليلاً وراحا يهتزان مع الهواء، ويطوي الجريدة ويمدها إليّ، فأمضي.ويوماً كانت فوق السطح ومعها زوجها يجمع الكراكيب جانباً مفسحا مكاناً لربطات "الدريس"، وكان قد استأذن الاستاذ قبل أن يبدأ العمل خشية أن يناله الغبار، وسمح له الاستاذ موضحاً أن الهواء سيدفع الغبار الى الناحية الأخرى، غير أن الغبار أتى إلينا رأساً، ولم يشك الاستاذ منه، وكان الزوج على السطح ينظر إلينا قلقاً. وكعادته كا يحدثني عن هتلر وعيناه تختلسان النظر الى السطح، فوجئت بها تسأل وكانت تربعت قرب الحافة تستريح: - ألا صحيح يا أستاذ. هتلر اسمه الحاج محمد هتلر؟ - آه صحيح. يشب جسده على المقعد وهو يرد عليها، وعيناه تحتويانها وتدللانها. - وزار الكعبة الشريفة؟ - بيقولوا إنه زارها. سحبت حجراً من تحت فخذها ورمته جانباً.. آه.. بيقولوا. التفت زوجها وكان غير بعيد وسألها عما تقصد؟ بدا من نبرة الغضب في صوته أن ردها على الاستاذ لم يعجبه. قالت: إنها تسمعهم يقولون للواحد يا حاج ولا يكون زارها في حياته. جلجلت ضحكة الاستاذ كأنما أراد أن يخفف من التوتر الذي بدا على وجه زوجها. وقال: - يقطعك يا فاطمة.. آه والله صحيح. جاءت زوجته من الداخل على صوت الكلام، وقفت على العتبة والرضيع - الذي قدر له أن يعيش - لا يستقر على ذراعها، يرفس ويتلوى ويخربش وجهها. نقلت الولد في ضيق إلى الذراع الأخرى. سددت يدها الخالية في اتجاه زوجها كالطلقة قائلة: - هتلر! آخ. تخشب الاستاذ لحظة في مقعده، التفت إليها مستعيداً هدوءه ووقاره، غير أنها كانت اختفت داخل البيت. لم يستمر الوله طويلاً، سرعان ما انتهت أيام العرس القليلة ولم تعد العروس تظهر على السطح، كانت تمضي النهار مع زوجها في الغيط. أراها بعد العصر قادمة الى بيت الاستاذ، تسأل زوجته قليلاً من الملح أو نقطتين من زيت، فالرز على النار، لم تجد الوقت لتشطف وجهها وقدميها من الطين والغبار، أو حتى تغير جلباب الشغل المرقع، تقف هامدة مستندة بذراعها إلى حلق الباب وقد اختفى التورد من خديها، وحل فيهما شجوب وبقع صغيرة بيضاء. ينتبه الاستاذ من استغراقه في قراءة الجريدة، يحييها بكلمتين ويسأل عن زوجها، تقول: - بخير. تناولها زوجة الاستاذ ما طلبته وتمضي. يتثاءب الاستاذ طاوياً الجريدة، ويميل قليلاً باتجاه الباب المفتوح، ويطلب كوب شاي آخر. *** انطلق والجريدة تحت ابطي، متفادياً السائرين بمهارة، شغوفاً بما ألمحه من ذعر على وجوههم خشية أن اصطدم بهم في سرعتي، متظاهراً مرات بأنني لا أراهم، وأنني منطلقا كالقذيفة حتما إليهم، ويتأهب بعضهم ليلطمني، وفي اللحظة الأخيرة، وحين أراه توقف شارعاً يده أمرق بجسدي بعيداً عن يده التي تسعى للنيل مني. وأحف أحياناً بواحد منهم يكون مستغرقاً مع نفسه، ينتفض مذعوراً، تلاحقني شتائمه، وأضحك صائحاً: - أنا السريع. اتمهل لدى اقترابي من بيت الحاج "عطوة" صاحب محل المصاغ الوحيد في البلدة، وأكون في طريقي مررت بالمحل ورأيته في الداخل يدخن الشيشة، ودعاء البخور غير بعيد عنه ينفث دخاناً رقيقاً، كانت تمر أيام لا أرى زبوناً في المحل، ثم يأتي يوم وأفاجأ بكثيرين داخله. كانوا لا يشترون الذهب إلا في أيام العرس، ثم يبيعونه بعد شهور، وأحياناً يتجمع "قرشين" في يد الواحدة فتشتري غويشة أو عقداً لتحفظه للزمن. وكنت أراه - حين يتأخر بي الوقت أنا وأصحابي - في مقهى يطل على النهر مع رجال لا نعرفهم، والجوزة تدور عليهم، ونشم رائحة المخدر حين نقترب متلصصين من النافذة. يقولون إن امرأته ماتت وهو في الخمسين ولم ينجب منها، وحين ضاق بأخواته - وكن يتبادلن المرور على بيته ليرعين شؤونه وعادة ما تسحب الواحدة منهن وراءها ولدين أو ثلاثة - تزوج بنتا من بلدة مجاورة، ومر على زواجه منها أربع سنوات ولم ينجب منها أيضاً، كانت قد جاءت مع خطيبها وأهليهما لشراء "الشبكة" وبعد شهر جاء أهل العريس ليعيدوها. قالوا: - نصيب.. عايزة سرير بعمدان نحاس أصفر. ما له الحديد الزهر الأسود، كلنا أتجوزنا به. كانوا يحكون عن جمالها وصباها، ولا أصدق أن واحداً في البلدة رآها غيري، ربما لمحوها خطفاً حين تذهب ملتفة بملاءتها لزيارة أهلها. كنت أقف يوماً أمام باب بيتها المغلق أراقب الأولاد في "الوسعاية" يلعبون لعبة الحرب بين الألمان والإنكليز. كانت اللعبة جديدة، وأردت أن استوعبها وانقلها الى حارتنا، ولأنهم في أي حارة لا يرحبون بالأولاد الغرباء يرون ألعابهم، ويطاردونهم حتى يخرجونهم من حارتهم، استندت بظهري إلى حلق الباب، وفردت الجريدة متظاهراً بقراءتها. خلع عدد من الأولاد جلابيبهم وقالوا: "إنهم الألمان"، وظل الباقي بالجلابيب وقالوا: "إنهم الإنكليز". كل منهم يلوح بفرع شجرة، وسرعان ما التحموا ممسكين برقاب بعضهم، وكل يحاول أن يوقع الآخر أرضاً، وكان بينهم ولد يصيح من لحظة لأخرى: "أنا رومل". كنت أفكر في وقفتي أنه من الأفضل لو استخدموا الفروع كسيوف من دون التحام، وتخيلت كيف تبدو المعركة ساعتها، حين أحسست بمن يجذبني، كانت يدا بيضاء نحيلة امتدت من فتحة الباب الموارب، انحسر الكم عن معصمها، وبانت غوايش الذهب بلمعتها المتوهجة، وجدت نفسي في المدخل والباب يغلق ورائي. اصبعها على شفتيها تحذرني، تبتسم وقد احتوت حجر جلبابها في قبضتها، وحين اكتشفتُ أن لا أحد في البيت عرفت أنها كانت تداعبني. أجلستني على كنبة في الحوش بجوارها شيشة يلتف "اللي" حول عنقها، ووعاء فيه قوالح مطفأة. دخلت حجرة كان بابها مفتوحاً، تبعتها عيناي، السرير يحتل جانباً في مواجهتي، عمدانه من النحاس الأصفر تضوي بأشعة ذهبية مع ضوء النهار الآتي من فتحات الشيش المغلق، عادت بطبق فيه كعكتان وضعته بجانبي، وسحبت الجريدة من تحت ابطي. سألتني عن اسمي. وقلت لها. وسألتني عن اسم أبي. وقلت لها. ضحكت. أمسكت ذقني وتفحصت وجهي. وقالت: إنني لا أشبهه. وقالت: إنه كان مدرسها، وسألتني عن عمري. وقلت: تسعة. قالت: كنت وقتها في عمرك. أكبر بعشر سنين. وقالت: إن أبي كان مدرساً في المدرسة الإلزامية ببلدتها قبل أن ينتقل إلى هنا، وأن أهلها أخرجوها من المدرسة بعد الفصل الثالث. دفعت بالطبق نحوي. لم أتناول منه شيئاً، فردت الجريدة على ركبتيها، تقرأ واصبعها يجري على السطور، تتبعه عيناي، ينتهي من سطر ويعود ليبدأ آخر. قالت: إنها رأتني أكثر من مرة والجريدة معي، وكانت تريد أن تناديني. تقلب الصفحات. تختار فقرات يجري أصبعها بين سطورها، تلتفت وتراني أحدق في وجهها، مالت وقبلتني في خدي. طوت الجريدة، ولفت الكعكتين في ورقة دستها في سيالتي. قالت: إنها ستنتظرني عندما آتي بالجريدة. وأكون قادماً، وأرى يدها من فتحة الباب تشير إليّ، أحياناً أجده مغلقاً، فأطلق أصواتاً بجوار الشباك منبهاً إلى وجودي، ويفتح الباب. تقبلني بعد أن تغلقه، ومرات تنسى أن تقبلني، وتكون متجهمة قليلاً، وشعرها منكوشاً وعيناها منتفختين، وياقة جلبابها مفتوحة، يبدو نهداها فالتين من دون حمالة، وتنسى أيضاً أن تضع طبق الكعك بجواري. تتصفح الجريدة من دون كلمة، ومن دون أن يجري اصبعها على السطور، وأنكمش صامتاً حتى تنتهي، ومرات أخرى تلقاني مهللة، تأخذ وجهي بين يديها، تقبله مرة وأخرى - كان ذلك بعد شهور من معرفتي بها - وتركع، تضمني الى صدرها، وأجد خدي يلامس أذنها وأنفي بين خصلات شعرها. تسألتي: إن كنت أحبها؟ وأقول: إننى أحبها. وتسألني: إن كنت جائعاً؟ وأقول: إنني شبعان. وتقول ويداها تجريان على ظهري: طيب.. ثلاث كعكات؟ وأقول: إنني شبعان. وتقول: وعشان خاطر حبيبتك؟ أزيح بيدي الشعر عن أذنها. تضحك وتسألني: إن كانت أذنها تعجبني؟ وأقول: آه. تسألني عما يعجبني أيضاً؟ وأشير الى أنفها. تضحك: وغيره؟ وأشير الى عينيها. - وغيرهما؟ وأشير الى فهمها. تقبلني وتأخذني الى الكنبة، تستغرق في قراءة الجريدة، وأصمت بجوارها. تتسلل عيناي داخل الحجرة، أرى الحصيرة الملونة أمام السرير، واللحاف بكسوته الستان الوردية، "والداير" حول العمدان بزخارف كثيرة ملونة على أطرافه، وقبقاب بجانب قائم السرير، لا بد أنه لزوجها، كان في قدميها شبشب من القطيفة بلون أخضر، تهزه حين تضع ساقاً على الأخرى. تطوي الجريدة وتسألني: إن كانت أخرتني؟ وأكون تأخرت، وأقول: إنها لم تؤخرني. بيتها دون البيوت في البلدة لا ألمح فيه أحداً من جيرانها، ربما كن يزرنها في أوقات أخرى حتى لا يزعجها أحد اثناء قراءة الجريدة، وربما كان زوجها لا يحب أن يزورهما أحد. قلت لها مرة وهي تضع طبق الكعك بجواري: إنني لا أرى فرناً عندها. قالت: إن أهلها عندهم الفرن ويخبزن لها كل حاجة. وقالت: إنه كان نفسها في فرن و"الحاج" لا يحب الفرن في البيت. قلت: وأبي أيضاً. ويوم الخبيز يترك البيت. تلقاني مرات أيام الغسيل. تنفض رغوة الصابون عن يديها، اتبعها الى الكنبة، ألمح طشت الغسيل في نهاية الحوش قرب مسقط النور ومقعداً واطئاً بجواره، تقف أمامي تقول شيئا، ويكون جلباب البيت الخفيف مبتلاً عند بطنها، لاصقاً به، يشف عن تجاعيده الرقيقة، ...، وأسمع حفيف الجريدة عندما تفردها في وقفتها، ثم أحس بأصابعها تغوص في شعر رأسي، وأرفع عيني إليها، ترمقني مبتسمة، وتتربع بجواري والجريدة على حجرها. وجاء زوجها يوماً، وكانت في وقفتها أمامي تتمتم بما تقرأه من عناوين في الصفحة الأولى عن تقدم رومل في الصحراء، ودق الباب. لمحت الرجفة تسري في بطنها، رفعت نظري إليها، كانت ملتفتة الى الباب وعنقها مشدوداً، وضعت الجريدة على الكنبة ومشت الى هناك. اندفع داخلاً، سار خطوتين وتوقف، زفر عميقاً محدقاً في الأرض، ثم شد عوده وتقدم متمهلاً، بدا لي - من كثرة ما رأيتهم عندما يغادرون المقهى بعد السهر - أنه مخدر. وجهه شديد الشحوب، وشفتاه ممدودتان، ينفخ في وهن. رمقني خطفاً مستديراً الى الحجرة، ثم عاد ينظر إليّ وإلى الجريدة بجواري. بدا كأنما يحاول أن يتذكر شيئا، كان يلهث مستنداً بيده إلى حلق الباب، التفت الى امرأته وراءه، نظر إليها قليلاً ودخل الحجرة. رأيتهما في الداخل. كانت منحنية تساعده في خلع جلبابه، تحسس المكان بقدمه عند قائم السرير، مرة وأخرى ثم زمجر، اختفت عن عيني وعادت بالقبقاب، وضعته عند قدميه خرج يلبس سروالا طويلاً من الصوف يلتص بساقيه، وفانلة بكمين طويلين، بدا بعد خلع الجلباب شديد النحول وعظام صدره بارزة. سار في اتجاه المرحاض. زمجر حين رأى طشت الغسيل يسد الطريق، كانت تتبعه، انحنت ودفعت الطشت جانبا، اختفى في المرحاض. وقفت هناك مستندة بكتفها إلى الحائط وظهرها إليّ. استدارت فجأة كأنما تذكرتني، وكانت قادمة تسوي شعرها بيدها حين ناداها. عادت إليه. مد يده بإبريق من الفخار، تناولته وملأته من زير في الركن، أعادته الى يده الممدودة من داخل المرحاض، وظلت هناك حتى عادت معه الى الحجرة. خرجت بعد لحظة وواربت الباب، جلست بجواري وأمسكت الجريدة. كان شخيره يتدفق من الحجرة، أرخت رأسها إلى الوراء وذراعها يلتف حول بطنها. قالت: إنها أخرتني. اعطتني الجريدة، سارت معي حتى الباب، تحسست يدها رأسي، وخرجت. أتمهل - كما اعتدت - عندما اقترب من بيتها، ولا أرى يدها، ولا الباب موارباً، أطلق أصواتا جنب النافذة والجريدة تحت ابطي، ولا يفتح الباب، أمشي هنا وهناك، وأحجل بامتداد "الوسعاية"، وأعود، ويتأخر بي الوقت فأواصل طريقي الى بيتنا. ظل الباب مغلقاً، وكنت أقف في عناد بجواره، لا أجرؤ أن أدق عليه، ثم أمضي. ويجتاحني الشوق، ولا تكون الجريدة معي، أنطلق الى بيتها، أحوم حوله، وأقترب من الباب والشباك علني أسمع صوت حركتها، وأمشي متمهلاً في "الوسعاية" متلقطاً حصى أطوحه بعيداً، ثم أعود. ويوما كنت أتسكع مع ولد من الحارة على الكوبري خارج البلدة، كان قد مضى ما يقرب من الشهر على إغلاق بابها، ورأيت امرأتين ملتفتين بالملاءة في طريقهما إلى المحطة، احداهما قصيرة سمينة، الأخرى نحيلة، تمهلت حتى سبقتها صحبتها، واستدارت نحوي، كانت على بعد خطوتين، عيناها تطلان من فتحة صغيرة بالملاءة، توقفتُ - وقد عرفتها - بادلتها النظرات. أسبلت عينيها لحظة ثم استدارت ومضت. ولم ارها بعدها. *** يضع أبي الجريدة بعد قراءتها فوق الجرائد الأخرى التي يرصها في خانة بالدولاب، وعندما تمتلئ يلفها في فرخ ورق كبير ويحزمها بدوبارة ويرفعها الى سطح الدولاب. كان وزملاؤه يعودون إليها من وقت إلى آخر. * روائي مصري