في وقت شكلت فيه محاكم خاصة بجرائم الحرب لملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم ابادة وجرائم مختلفة بحق الانسانية في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، تستحق حال العراق بعض التنويه. ففي واحد من تصريحاتها العلنية النادرة عن قضية العراق والعقوبات دعت منظمة "هيومان رايتس ووتش" مراقبة حقوق الانسان الى انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مسؤولين عراقيين عن انتهاكات من ضمنها جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب. وفي استخدام ماكر قد يكون من بين الاكثر غرابة من نوعه لاحدى مجادلات القانون الدولي اتهمت هذه المنظمة المدافعة عن حقوق الانسان، التي يوجد مقرها في الولاياتالمتحدة، العراق ايضاً بانه لم يف بالتزاماته وفقاً للميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم يكن نشر مثل هذا التقرير الذي اُعد من دون استحياء بعد عقد من السنين على فرض العقوبات محض مصادفة. إذ بدأت الولاياتالمتحدة، تدرك ان الرأي العام يبدي في الوقت الحاضر انزعاجاً بالغاً من سياستها تجاه العراق، فأخذت تلجأ على نحو متزايد الى ذرائع يتعذر الدفاع عنها لابقاء العقوبات. وفي الوقت الذي يؤكد فيه معظم الباحثين ذوي الفكر القويم في مجال المواثيق الدولية لحقوق الانسان ان الاممالمتحدة ذاتها تخضع لالتزامات بموجب القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق حقوق الانسان، يبدو ان واحدة من ابرز المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان في العالم بدأت تتبع موقفاً يتبناه الكونغرس الاميركي ولا أساس له في القانون. فالمادة 24 2 من ميثاق الاممالمتحدة واضحة تماماً وتخلو من اي غموض اذ تؤكد على ان قرارات مجلس الامن باتخاذ خطوات مثل فرض العقوبات يجب ان تكون منسجمة مع القانون الدولي. جرى تعريف الابادة في القانون الدولي بوضوح باعتبارها واحداً من اعمال عدة من ضمنها القتل او التسبب بأذى جسدي او عقلي خطير بقصد تدمير جماعة قومية او اتنية او عرقية او دينية، بشكل كامل او جزئي. ولم يعد امراً مثيراً للجدل ان يشار الى ان سياسة العقوبات استهدفت "جماعة قومية" وادت الى موت مئات آلاف الأشخاص ناهيك عن اعداد لا تُحصى من الناس الذين لحق بهم اذى جسدي و/او عقلي خطير. وهو ما تؤكده حالياً من دون تردد كل منظمات الاغاثة الانسانية، بما فيها "صندوق رعاية الطفولة" التابع للأمم المتحدة يونيسيف. تبقى هناك مسألة "القصد". لا يمكن تصور ان النتائج المترتبة على الجمع بين تدمير عسكري واسع النطاق للبنى التحتية المدنية وبين سياسة عقوبات لا مثيل لشموليتها لم تكن متوقعة. وحتى اذا امكن المحاججة بانه لم يكن هناك قصد في البداية، يمكن القول بان القصد نشأ حالما بدأت اثار العقوبات تتضح. وبصرف النظر عن العدد الوافر من التقارير والتقويمات الجديدة لنتائج العقوبات، كان من بين الوثائق التي نبّهت الى الكارثة الوشيكة التي ستحل بالعراق تقرير آغا خان في 1991 الذي تضمن نتائج بعثة تقصي الحقائق التي زارت العراق وترأسها بالنيابة عن الاممالمتحدة. وقال في هذا التقرير ان البلد يحتاج، حتى مع الأخذ في الاعتبار "مستوى خدمات منخفض بشكل كبير"، الى 8.6 بلايين دولار خلال فترة سنة واحدة في 1991. ويشمل هذا المبلغ 180 مليون دولار لتوفير المياه وحفظ الصحة العامة، و 500 مليون دولار للخدمات الصحية، و53 مليون دولار للتغذية الاضافية و 62،1 بليون دولار للغذاء عموماً. وقدرت حاجات الاستيراد للاغراض الزراعية ب 300 مليون دولار، ومتطلبات اصلاح قطاعي النفط والطاقة ب 2 بليون دولار و 2،2 بليون دولار على التوالي. اُعدت هذه الارقام لتقرير قدم الى الاممالمتحدة، وكان هذا قبل تسع سنوات. وواضح ان القيود المفروضة على الصادرات العراقية بموجب اتفاق "النفط مقابل الغذاء" لم تسمح ابداً بمعالجة هذه المشاكل حتى ولو بشكل سطحي. وكانت الاممالمتحدة دائماً هي الطرف الموقع على دفتر شيكات ما يسمى بعائدات "النفط مقابل الغذاء"، ما يعني ان القيود لم تكن ابداً سوى اداة للضغط السياسي. واظهر فريق الابحاث التابع لجامعة هارفرد ومركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في 1991 و 1996 على التوالي الترابط بين سوء التغذية وفقدان البنية التحتية المدنية خصوصاً منشآت المياه وحفظ الصحة العامة وتزايد عدد الوفيات بين الاطفال. اخذاً في الاعتبار كل هذه المعلومات، كيف يمكن القول انه لم يكن هناك اي قصد؟ في حكم صدر عام 1993 يتعلق بصربيا، اكد القاضي لوترباشت القاضي البريطاني في محكمة العدل الدولية آنذاك انه ينبغي لمجلس الامن الاّ يسىء استخدام السلطات التي ينص عليها الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة. وقال في سياق مناقشة بطلان الافتراض بان سلطات مجلس الامن ينبغي الاّ تكون مقيدة: "لا يحتاج المرء الاّ الى طرح الافتراض - بأن قراراً لمجلس الأمن قد يقتضي حتى المشاركة في ابادة - كي تتضح عدم مقبوليته". لكن يبدو واضحاً ان الافتراض غير المقبول لم يعد افتراضاً بل حقيقة. ومع ذلك، وفي مؤتمر عقد اخيراً عن العقوبات، تحدث المساعد السابق للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس "برنامج النفط مقابل الغذاء" دنيس هاليداي عن "تجاوز خط المقبولية الخفي" عندما يستخدم المرء مصطلح "ابادة" لوصف اثار العقوبات على العراق. هكذا، في الوقت الذي تكون فيه المطالبة بمحاكمة مسؤولين عراقيين امراً مقبولاً، تُعد فكرة غير مقبولة اطلاقاً ان يخضع ولو لمجرد المحاسبة مسؤولون تابعون للامم المتحدةوالولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة واخرون يستحقون اللوم. لكن "الخط الخفي" الذي يتحدث عنه هاليداي يمثل السطو على خطاب حقوق الانسان وإفساده. فالفكرة تميز بين اولئك الذين يمكن ان يُتهموا واولئك الذين يمكن ان يوجهوا الاتهام. وبابتداع مثل هذا التمييز من دون استحياء يجري تدمير المبدأ الاساسي في كل لغة حقوق الانسان العالمية عن المساواة امام القانون. لا يحتاج المرء الاّ لأن يتفحص تاريخ حقوق الانسان وفصل الحقوق المدنية والسياسية عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ليدرك ذلك. فعندما تم تبني الاعلان العالمي لحقوق الانسان من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة في 1948، سادت آنذاك فكرة طوباوية مفادها ان كل هذه الحقوق متداخلة ومترابطة ولا تتجزأ. وتوجد هاتان المجموعتان من الحقوق بالفعل في الاعلان العالمي وتستمران ظاهرياً في الوجود معاً في مقدمتي ميثاقين مفصلين هما "الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية" و"الميثاق العالمي للحقوق الاقتصادية والثقافية"، واُنجز كلاهما وتم التوقيع عليهما في 1966، بعد 18 سنة على صدور الاعلان العالمي. لكن وهم الوجود معاً يستحق التدقيق، خصوصاً لانه جرى الفصل بشكل واضح بين مجموعتي الحقوق في الميثاقين. ويبدو ان احد الاسباب الرئيسية وراء هذا الفصل يكمن في ان الحقوق المدنية والسياسية اُعتبرت صالحة لأن يُنظر فيها وفقاً لمبادىء قانونية بينما يُفترض ان تكون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية خاضعة ل "تحقيق تدريجي". وهذا تمييز زائف، وثبت في الممارسة ان هاتين العقيدتين قابلتان للتبادل. وغالباً ما تجري المجادلة بان ضمان الحقوق المدنية والسياسية هو الاساس لبيئة سليمة للتطور الاقتصادي. ويقوم الاساس المنطقي لهذه المجادلة على ان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ستطبق عند حدوث تطور اقتصادي. وواضح ان هذا الرأي يميل لصالح الطرف القوي منذ البداية. ولا يحتاج المرء الاّ ان يعاين الفقر والفشل في حماية الفئات الاكثر عرضة للمخاطر في المجتمعات المتطورة كي يدرك بطلان هذه المجادلة. في الواقع يمكن ان نرى بوضوح تام ان بامكان الحقوق المدنية والسياسية ان توجد بشكل طبيعي داخل نظام السوق الحرة التي تدفعنا كل يوم لأن نقترب اكثر من شمولية هيمنة الشركات. وادى الفصل بين مجموعتي الحقوق في الاطار القانوني لحقوق الانسان العالمية الى تهميش الحقوق الاقتصادية والاجتماعية - حتى وسط الباحثين - لتكون في مصاف حقوق ثانوية في احسن الاحوال ولا حقوق في اسوأ الاحوال. هكذا، لا يجد الناس في العالم الصناعي والمتعولم صعوبة في الاقتناع بانهم المنتفعين من الحقوق المدنية والسياسية كحقوق انسان، فيما يستفيدون في الوقت نفسه من اوضاع اقتصادية واجتماعية جيدة من دون الحاجة الى خطاب خاص بالحقوق يتضمن المطالبة بهذه الاوضاع. وبالطريقة ذاتها التي اُبتدع فيها وهم، او حتى ميثولوجيا، الديموقراطية وحق الاقتراع لتلفيق وادامة قبول المجتمعات الصناعية او المتطورة، تم فعلاً ابتداع عقيدة تقوم على حقوق انتقائية لاحتواء امكان نشوء وعي اجتماعي وسط الفئات الوسطى الضخمة في العالم الصناعي. جرى الترويج لسياسة العقوبات المفروضة على العراق بما تعنيه من ابادة، بتواطؤ من وسائل الاعلام العامة، باستخدام عبارات طنانة على نمط الاعلانات مثل "اسلحة الدمار الشامل" و"تهديد جيرانه" و "انتهاكات حقوق الانسان" و"الاضطهاد" وهلم جرا. ويجري تعريف النموذج الغربي لحقوق الانسان ويُملى من قبل منظمات مثل "العفو الدولية" و "هيومان رايتس ووتش" منذ وقت طويل الى درجة انه اصبح يمثل خطاب حقوق الانسان بأكمله. حرية الكلام ومحاكمات عادلة والحرية الدينية، وهلم جراً. اخذاً في الاعتبار ان العالم الغربي يؤيد هذه المثل المقدسة الى ابعد حد في الواقع فان التأكد من صحة الفكرة القائلة بان الديموقراطية تسوده بشكل سرمدي يتم هناك. فحقيقة ان الشركات وتأثيرها الطاغي على السياسة لا يكاد يظهر كعامل مؤثر في خطاب "الديموقراطية" الحديث هو مجرد شىء ثانوي. وبدلاً من ذلك، لا تزال عقيدة مونتيسكيو القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث، الى جانب حق الاقتراع العام، حجر الزاوية في ديموقراطية صادقة حديثة. والحقيقة المتمثلة بان هذا الفصل بين السلطات ليس سوى خرافة في الاطر الدستورية لأقوى الدول الغربية هو ايضاً مجرد شىء ثانوي. عندما تتحدث الاوساط المدافعة عن حقوق الانسان في الغرب عن "حقوق الانسان" في الوقت الحاضر، فانها تظهر في الواقع مدى الافساد الذي لحق بخطابها. فالفكرة القائلة بانه يمكن الدفاع عن حقوق انتقائية في الوقت الذي يمكن فيه اهمال حقوق اخرى لا تمثل سوى الحط من شأن الخطاب. وستستمر منظمات مثل "هيومان رايتس ووتش" في تشويه الحقائق القانونية لانها تحتل موقعاً منيعاً ذا امتياز وتخدم مصالح محددة سواءً كانت تقصد ذلك او لا. لذلك يتعين على الجهات المدافعة عن حقوق الانسان في الغرب، كي تعيد اكتشاف نزاهتها، اما ان تتخلى عن لغة حقوق الانسان الحديثة او ان تستعيدها بالطريقة ذاتها التي يجب ان تستعاد بها لغة الديموقراطية كي تكون ذات معنى بالنسبة الى كل الناس بدلاً من النخب. أُنشئ باسم حقوق الانسان نظام للتمييز يجعل حقوق الانسان تخلو من اي معنى. وما نشهده، ليس في حال العراق فحسب بل في حالات كل الدول التي تهدد مصالح ما يسمى ب"المجتمع الدولي"، هو استخدام لغة حقوق الانسان كسلاح ضد هذه الانظمة بينما يتم التعتيم على التعامل مع شعوبها كشئ يمكن الاستغناء عنه بالارباك الذي يخلقه الخطاب الذي جرى الحط من شأنه. * مدير البرامج في "مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".