كان تفعيل مجلس الامن الدولي، ولا يزال، يندرج في اطار النظام العالمي الجديد ومقتضياته السياسية. وتمثّل هذا التفعيل بمناح ثلاثة: تمرير القرارات الدولية من دون ان تصطدم مشاريعها بحق النقض الفيتو، وتوسيع نطاق التدخل الذي يمارسه مجلس الامن، واللجوء الى الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة. واذا كان يحق لمجلس الامن اتخاذ اجراءاته الزاجرة، بموجب الفصل السابع عندما تثار اي خطورة تتعلق بتهديد السلام العالمي، او بانتهاكه، او بأي عمل عدواني" فانه، مع ذلك، لم يلجأ الى هذا الفصل الا في حالتين اثنتين منذ نشوئه في الاربعينات لغاية اوائل التسعينات. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ملامح النظام العالمي الجديد بدأ مجلس الامن يمارس دوراً متجدداً ذا شقين متكاملين: - توسيع مفهوم الحالات التي يمكن ان تشكّل تهديداً للسلام الدولي او انتهاكاً له. فأدخل مخالفات حقوق الانسان مثلاً أو ضرورة تعزيز الديموقراطية أو نزع السلاح النووي او معوقات المصالحة الوطنية... الخ. ضمن هذه الحالات التي تستدعي تدخّل المجلس في شؤون الدول الداخلية. - توقيع العقوبات غير العسكرية الملحوظة في المادة 41 من ميثاق الاممالمتحدة بحق بعض الدول العسكرية بحق فئة من الدول الاخرى استناداً للمادة 42 منه. والملاحظ ان وتيرة هذه العقوبات تتزايد بشكل مطرد خلال التسعينات وقد شملت بعض الدول ومن بينها ثلاث دول عربية: ليبيا والعراق والسودان. والواقع ان هذه الاجراءات - العقوبات التي اتخذها مجلس الامن ولا يزال يجددها كل فترة تثير عدداً من الاسئلة الملحة: اولها: ما هو الهدف الحقيقي من هذه العقوبات الدولية؟: ردع الدولة المعتدية وحملها على تغيير سياستها، هذا هو الجواب المنطقي. الا ان هذا الجواب يصح اذا كان النظام السياسي في الدولة المعتدية منبثقاً فعلاً من الارادة الشعبية، واذا كان الشعب ذاته قادراً، فعلاً، على تغيير نظامه او تغيير سياسة هذا النظام بالوسائل الديموقراطية المتاحة. اما اذا كان الامر غير ذلك فهل يجوز لصانعي القرار الدولي ان يعلنوا: ان استمرار العقوبات يهدف الى دفع الشعب الى تغيير قيادته؟ وهل يجوز للعقوبات نفسها، التي يُفترض ان تنسجم مع مبادىء القانون الدولي، بما في ذلك حقوق الانسان، ان تصبح أداة يستخدمها صانعو القرار الدولي لتغيير الانظمة السياسية التي لا تتماشى مع مصالحهم؟ وثانيها: اما اذا كان الهدف معاقبة اشخاص النظام السياسي والذين يصرون على ارتكاب "جرائم ضد الانسانية" فهل يجوز لمجلس الامن ان يتخذ اجراءات عقابية تطاول كل افراد الشعب من دون استثناء لكي يُحرِج هؤلاء الاشخاص - القادة امام شعوبهم؟ واذا كان القانون الدولي قد لحظ، ابتداء من محاكمات نورنبرغ المعروفة في منتصف الاربعينات، إمكانية معاقبة هؤلاء الاشخاص مباشرة وبصرف النظر عن قوانينهم الداخلية ومراكزهم القيادية، فلماذا يصرّ المجلس على اغفال هذه الانواع من المحاكمات المباشرة وقد لحظ فعلاً نماذج عنها في يوغوسلافيا السابقة ورواندا ويفرض عقوبة جماعية على دولة ما بكل شيوخها واطفالها وابريائها جميعاً؟ وثالث الاسئلة هو: اذا كان المقصود من العقوبة دولة معينة فهل يجوز ان تعاقب معها دول اخرى مجاورة، اقتصادياً على الاقل، وما هو ذنب هذه الدول؟ وهل لحظ المجلس او سيلحظ اي امكانية للتعويض عنها؟ واذا راجعنا الاطار القانوني لهذه المسألة نلاحظ: أ ان معاقبة الشعب بكامله نتيجة حصار اقتصادي مثلاً أو عزل أمر مخالف للمبادىء المستقرة في القانون الدولي ولاسيما في كل ما يعود الى الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وغيرها. كذلك فان هذه العقوبات الجماعية تسيء الى كرامة الشعوب وانسانيتها. وقد حرصت المادة الخامسة من الاعلان لحقوق الانسان على انه "لا يجوز اخضاع احد للتعذيب ولا للمعاملة او العقوبة القاسية او اللاانسانية او الحاطّة بالكرامة". كما ان لكل انسان الحق في ما يأمن به الغوائل في كل الظروف الخارجة عن ارادته والتي تفقده اسباب عيشه". ومن المعروف ان بعض بل معظم القرارات السياسية التي تتخذها الانظمة السياسية في بعض الدول ولاسيما الدول التي تعرضت للعقوبات الدولية لا يستشار فيها الشعب ولا يكون له اي دور حتى في التعرّف عليها. فاذا اصرّ مجلس الامن على معاقبة هذا الشعب بسبب "ظروف خارجة عن ارادته" فعلاً فهل تتحقق الحكمة من العقوبة؟ ولا سيما اذا أثبتت الاحداث ان هذه القيادات الجائرة استفادت من العقوبة لتعزيز مواقعها ولدفع الشعب الى حمايتها حتى عن طريق استخدامه دروعاً بشرية في قصوره الباذخة. هذا مع العلم ان المادة 28 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تفترض ان "لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن ان تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الاعلان تحققاً تاماً". وبذلك فإن "النظام الدولي" مسؤول ايضاً عن توفير حقوق الانسان وحمايتها وليس عن نقضها ولا إغفالها. ب- وتوكيداً لهذه الحقوق جميعاً أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارها الرقم 39/11 بتاريخ 12/11/1984 وأعلنت بموجبه ان للشعوب حقاً مقدساً في السلم كما ان على الدول جميعاً واجباً مقدّساً في ضمان حياة هادئة للشعوب. وكذلك ناشدت الجمعية "جميع الدول والمنظمات الدولية ان تبذل كل ما في وسعها للمساعدة في ضمان تنفيذ حق الشعوب في السلم عن طريق اتخاذ التدابير الملائمة على المستويين الوطني والدولي". فهل تشكّل العقوبات الجماعية "تدبيراً ملائماً" اذا دفعت الشعوب الى معاناة مزدوجة من ظلم قادتها المحليين ومن ظلم العقوبات الدولية في آن؟!.. ج - تنص المادة الخمسون من ميثاق الاممالمتحدة على انه "اذا اتخذ مجلس الامن ضد أي دولة تدابير منع أو قمع فان لكل دولة اخرى... تواجه مشاكل اقتصادية خاصة تنشأ عن تنفيذ هذه التدابير، الحي في ان تتذاكر مع مجلس الامن بصدد حل هذه المشاكل". وبالفعل فان الجمعية العامة للامم المتحدة أصدرت قرارها الرقم 51/208 في 17/12/1996 وقضت بضرورة تفعيل المادة 50 من الميثاق و"دعوة مجلس الأمن الى لحظ آليات جديدة تستطيع ان تستجيب لهذه الاستشارات ]التي لحظتها المادة[ وتحلّها". كما دعت الجمعية كافة المنظمات والوكالات الدولية الاخرى للمساهمة في مواجهة مشاكل الدول الثالثة الناتجة عن العقوبات التي يمكن ان يفرضها المجلس او التي فرضها فعلاً على بعض الدول. الا ان هذه التمنيات والتوصيات التي صدرت عن الجمعية العامة لم تحظَ، لغاية الساعة، "بالآلية المطلوبة" للمجلس ولا "بالمنهجية الجديدة" للأمين العام من اجل تقويم شامل ومحدّد لكافة الآثار السلبية على هذه الدول الثالثة نتيجة العقوبات. والأهم من هذا الوضع ان احداً لا يستطيع تعويض هذه الدول الثالثة المتضررة من دون اي ذنب. د - والواقع ان مجلس الامن الدولي شكّل، لغاية الآن، خمس لجان خاصة بدراسة مدى فاعلية وآثار العقوبات الاقتصادية او الاجراءات الزاجرة التي قررها ضد العراق ويوغوسلافيا السابقة وليبيا والصومال وهايتي. الا ان هذه اللجان الخمس لم تقم بعملها بشكل يعدّل القرار او يغيّر فيه، ولم تستطع ان تعلن عن الآثار التي ألحقتها العقوبات بالشعب الخاضع لها، ولم تستطع مسح الاضرار اللاحقة بالدول الثالثة... الخ. ولعل المأزق الآخر الذي واجهه مجلس الامن الدولي بازاء الرفض المتواصل لقادة هذه الدول المعنية وتحدياتها للقرارات الدولية، ان المجلس بات مضطراً الى تمديد هذه العقوبات او تجديدها او تشديدها من اجل التوصل الى تحقيق اهدافها. وهكذا شُحِنت الاجراءات العقابية الصادرة عن المجلس بتشنج سياسي متزايد بالاضافة الى تورطها الخلقي - الانساني السابق. فالقصد من العقوبات اصلاً هو اجتناب الحرب وفرض الشرعية الدولية. الا ان طريقة تنفيذ هذه العقوبات لم تشكل ضغطاً مباشراً على النظام السياسي المعاقب وإنما دفعته الى استغلالها لشحن الشعور الشعبي العام الى جانبه والى احتواء، واحياناً سحق، المعارضة الداخلية له. وهكذا فإن العقوبات، بدلاً من دفع الحاكم الى التراجع، دفعته الى مزيد من الرفض والتحدي. وحيال هذا الواقع تصبح العقوبات فخاً لمجلس الامن ودافعاً للدول الكبرى الى الحرب بدلاً من ان تكون مانعاً لها. وهذا ما حصل او يحصل في بعض الدول التي تعرضت للعقوبات الاقتصادية، وما حصل، تالياً، للشعوب التي دفعت ثمن العقوبات والحرب معاً. أضف الى ذلك ما تضمنته هذه الاجواء من حقد وكراهية تزيد من اهتزاز الاستقرار العالمي بدلاً من توطيده ودعمه. ولا يخفى على احد ان معظم هذه القرارات الدولية التي صدرت منذ اوائل التسعينات الى اليوم إنها صيغت وفُرضت من قبل الولاياتالمتحدة لاسباب سياسية وأمنية واقتصادية تندرج في سلّم أولوياتها الدولية والاقليمية. ومع كل ذلك، فان هذه الهيمنة الاميركية بدأت تواجه تحديات كبيرة وخطيرة داخلية وخارجية في آن. كما ان معظم المراقبين يدعون الولاياتالمتحدة ذاتها الى مراجعة حساباتها التي لم تكن رابحة في معظم الاحوال بدءاً من كوبا - الستينات الى العراق - التسعينات هذا اذا كان الرهان الاميركي منعقداً فعلاً على تغيير الانظمة وتجييش شعوبها ضدّها. إما اذا كان الرهان الاميركي منصرفاً الى اهداف جيو - اقتصادية وجيو - استراتيجية اخرى فمن الملحّ ايضاً ان يسأل دافع الضرائب الاميركي عن مقارنة واضحة بين كلفة هذه الالتزامات الاميركية وبين مردوداتها، وان يسأل ايضاً عما اذا كان ثمة مقترحات او حلول اخرى. هل هذا يعني ان مخالفات الدول يجب ان تمرّ من دون حساب ولا عقاب؟ قطعاً لا. ولكن القانون الدولي نفسه ميّز بين مرتكب الجريمة وبين الشعب الذي يكون غالباً ضحيتها. وقضى بمعاقبة الاشخاص انفسهم مباشرة. فلماذا لا يأخذ مجلس الامن هذه القاعدة في الاعتبار؟! واذا كانت الجمعية العامة للامم المتحدة قد أقرت إنشاء محكمة دولية لحقوق الانسان فالمطلوب تفعيل هذه المحكمة وتقديم الاشخاص المخالفين أمامها من دون الاساءة الى الشعوب التي تملك "حقاً مقدساً" في ان تعيش بكرامة وسلام.